وقفات مع حديث (لا يدخل الجنة قتات)

منذ 17 ساعة

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة قتاتٌ» ، وفي رواية:  «لا يدخل الجنة نمَّامٌ»

 

• عن همام بن الحارث قال: كنا جلوسًا مع حذيفة في المسجد، فجاء رجلٌ حتى جلس إلينا، فقيل لحذيفة: إن هذا يرفع إلى السلطان أشياء، فقال حذيفة - إرادة أن يسمعه -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة قتاتٌ» ، وفي رواية:  «لا يدخل الجنة نمَّامٌ» .

أولًا: ترجمة راوي الحديث:

هو حذيفة بن اليمان بن جابر العبسي، أسلم هو وأبوه وأرادا شهود بدر، فصدهما المشركون، كما روى ذلك مسلم، وشهدا غزوة أحد، فقتَل المسلمون أباه؛ لأنهم لم يعرفوه، وذكر ابن إسحاق أن حذيفة تصدق بديَة أبيه على المسلمين.

روى حذيفة كثيرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لقد حدثني رسول الله ما كان وما يكون إلى قيام الساعة"، وكان يسمى صاحب السر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسَرَّ إليه بأسماء المنافقين، الذين أرادوا المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في مرجعه من تبوك، شهد حذيفة غزوة الخندق وما بعدها، وفتوح العراق، واستعمله عمرُ على المدائن، فلم يزل بها حتى مات سنة ست وثلاثين بعد مقتل عثمان بأربعين ليلة؛ [انظر: الاستيعاب (2/ 318) والإصابة (2/ 39)].

 

ثانيًا: تخريج الحديث:

الحديث أخرجه مسلم حديث (105)، وأخرجه البخاري في "كتاب الأدب" "باب ما يكره من النميمة" حديث (5709)، وأخرجه أبو داود في "كتاب الأدب" "باب في القتَّات" حديث (4871)، وأخرجه الترمذي في "كتاب البر والصلة" "باب ما جاء في النمام" حديث (2026).

 

ثالثًا: شرح ألفاظ الحديث:

(يرفع إلى السلطان أشياء): السلطان، جاء في رواية مسلم الأخرى المقصود به الأمير، وفي رواية البخاري (يرفع الحديث إلى عثمان)؛ أي: عثمان بن عفان رضي الله عنه أمير المؤمنين.

 

(قتاتٌ): القتات يقال: قت الحديث يقته، إذا زوَّره وهيأه وسواه، والقَتَّات بفتح القاف وتشديد التاء هو النمَّام، والنمام هو من ينقل كلام الناس بعضهم إلى بعض بقصد الإفساد، وبعضهم لا يخصصه بالكلام، بل لو نقل إشارة أو فعلاً على وجه الإنسان دخل في هذا المعنى.

 

وقيل: النمام: الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم عليهم، والقتات: الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون، ثم ينم، والقساس: الذي يسأل عن الأخبار ثم ينمها؛ [انظر: النهاية لابن الأثير تحت مادة (قتت)، وانظر الفتح المجلد 10 حديث (656)].

 

رابعًا: من فوائد الحديث:

الفائدة الأولى: الحديث دليل على أن النميمة كبيرة من كبائر الذنوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين مر بقبرين يعذبان، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس: ((أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة))، ومنه قوله تعالى: {﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾} [القلم: 11].

 

قال ابن كثير في تفسيره: "مشاء بنميم" هو الذي يمشي بين الناس، ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين؛ اهـ [5/ 191].

 

ومما يدل على أنها كبيرة من الكبائر أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (( «لا يدخل الجنة» ))، واختلف فيه على أقوال، أشهرها قولان:

قيل: المقصود به المستحل للنميمة بغير تأويل مع علمه بتحريم ذلك، فهذا لا يدخل الجنة، فإنه أحل ما حرم الله؛ فالجنة عليه حرام؛ لأنه استحل ما حرم الله اعتقادًا.

 

وقيل: ليس المقصود هنا نفي الدخول قطعًا، وإنما لن يدخل الجنة دخول الفائزين، فلن يدخل الجنة من أول الأمر، بل لا بد أن يعذب ثم يدخلها بعد ذلك.

 

الفائدة الثانية: للتعامل مع النمام آداب نقلها النووي عن أبي حامد الغزالي، حيث قال: "وكل من حملت إليه نميمة وقيل له: فلان يقول فيك، أو يفعل فيك كذا، فعليه ستة أمور:

الأول: ألا يصدقه؛ لأن النمام فاسق.

الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبِّح له فعله.

الثالث: أن يبغضه في الله تعالى؛ فإنه بغيض عند الله تعالى، ويجب بغض من أبغضه الله تعالى.

الرابع: ألا يظن بأخيه الغائب السوء.

الخامس: ألا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث عن ذلك.

السادس: ألا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه، فلا يحكي نميمته عنه، فيقول: فلان حكى كذا، فيصير به نمامًا، ويكون آتيًا ما نهى عنه"، قال النووي بعد نقله ما سبق: "وكل هذا المذكور في النميمة إذا لم يكن فيها مصلحة شرعية، فإذا دعت حاجة إليها فلا منع منها، وذلك كما إذا أخبره بأن إنسانًا يريد الفتك به أو بأهله أو بماله"؛ [انظر: شرح مسلم للنووي حديث (105)، وانظر الكبائر للذهبي (161)، وانظر زجر الزواجر لابن حجر (396)].

 

وبمثل هذا قال الشاعر:

لا تقبلن نميمة بلغتها 

وتحفَّظن من الذي أنباكها 

إن الذي أهدى إليك نميمة 

سينم عنك بمثلها قد حاكها 

 

الفائدة الثالثة: السبب في انتشار النميمة بين الناس عدة أمور، منها:

أ. إرادة السوء بالمحكي عنه.

ب. الحب للمحكي له (وهذا في ظاهر الأمر، وإلا فإن من يحب إنسانًا على الحقيقة فإنه لا ينقل له أمرًا سيئًا).

ج. الفرح بالخوض في فضول الكلام، وقطع الأعمار والأوقات بما تستهويه النفس؛ [انظر: الزواجر لابن حجر (396)].

 

مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان)

 

عبد الله بن حمود الفريح

حاصل على درجة الدكتوراه من قسم الدعوة والثقافة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، عام 1437هـ.

  • 1
  • 0
  • 92
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض - إلّا ليعبدون (5) إنّ من أكثر الأمور التي تدفع المجاهد لإخلاص نيّته في جهاده، وتصحيح غايته إلى أن تكون كلمة الله هي العليا، هو التذكير الدائم بالثمرة الوحيدة والغنيمة الكبرى التي يحرص أن لا تفوته في جهاده، ألا وهي الجنّة. وبمقدار انحراف قلب المجاهد عن هذه الغاية، يحدث الانحراف في نفسه وفي سلوكه بل وحتّى في غاية جهاده، لأنّه إن نقص في قلبه حب الجنّة والشوق إليها والحرص على تحصيلها، فلا شكّ أنّه سيملأ مكان هذا الحرص المحمود حرص من نوع آخر؛ هو حرص على الدنيا وزينتها، لذا على المجاهد أن يحرص كل الحرص أن يبقى قلبه متعلّقاً بطلب الجنة، ليبقى متعلقاً بالصراط المستقيم الذي يوصله إليها، فتراه يسأل نفسه عند كل سبيل تعرُض له: أهذه السبيل تؤدّي بي إلى الجنّة؟ فيندم على كل معصية اقترفها، وكل خير فاته بمقدار ما يظنّ أنّهما ستحددان من درجته في الجنّة لعلمه (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) [رواه البخاري]، فطالما أن المجاهد في سبيل الله قد عرض أغلى ما يملكه ليبلغ الجنّة، فإن من الخيبة ألّا يطلب عالي الدرجات ثمناً لأغلى الممتلكات، كما قال الشاعر: إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ ※ فلا تطمع بما دون النجومِ فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ ※ كطعم الموت في أمرٍ عظيمِ وعلى هذا كانت سنّة النبي -صلّى الله عليه وسلم- في تحريض أصحابه على الجهاد والقتال، سواء كان التحريض على الهجوم واقتحام صفوف العدو وطلب النكاية فيهم، أو كان للدعوة إلى الثبات والاستبسال في الدفاع عن الحرمات والذود عن الحياض، ويمكننا أن نضرب على ذلك مثالين من سيرته صلى الله عليه وسلم: الأول في غزوة بدر حيث كانت صيحة التحريض التي أطلقها النبي -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه ليبدؤوا هجومهم "قوموا إلى جنّة عرضها السموات والأرض"، فأشعلت في قلوبهم جمرة لم تنطفئ نارها إلّا وهم قتلى، يستبطئون الدقائق التي تفصلهم عن هذه الجنّة، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى جنّة عرضها السّموات والأرض»، قال يقول عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنّة عرضها السّماوات والأرض قال «نعم»، قال بخٍ بخٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ»، قال لا و الله يا رسول الله إلّا رجاءة أن أكون من أهلها، قال: «إنّك من أهلها». فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهنّ، ثمّ قال: لئن أنا حييت حتّى آكل تمراتي هذه إنّها لحياة طويلة -قال- فرمى بما كان معه من التّمر، ثمّ قاتلهم حتّى قتل) [رواه مسلم]. والمثال الثاني في غزوة أُحُد، لمّا اشتد الخطب على المسلمين، وبلغت القلوب الحناجر، وكاد المشركون أن تطال أيديهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأراد الرّسول عليه الصّلاة والسّلام أن يحرّض المجاهدين على ردّ المشركين عنهم، فلم يزد أن ذكرهم بما لهم إن فعلوا ذلك؛ وهو الجنّة، (عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلمّا رهقوه قال: «من يردّهم عنّا وله الجنّة أو هو رفيقي في الجنّة؟»، فتقدّم رجل من الأنصار فقاتل حتّى قتل، ثمّ رهقوه أيضا فقال: «من يردّهم عنّا وله الجنّة أو هو رفيقي في الجنّة؟»، فتقدّم رجل من الأنصار فقاتل حتّى قتل فلم يزل كذلك حتّى قتل السّبعة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصاحبيه: «ما أنصفنا أصحابنا») [رواه مسلم]. هذه الاستجابة الفريدة من الصحابة للتحريض على الجهاد، التي بلغت حدّ أن يستبطئ أحدهم المدّة القليلة التي سيقضيها في تناول التمرات، فيعتبرها فترة طويلة تفصله عن الجنّة إن بقي على قيد الحياة حتى يقضيها، وأن يندفع سبعة من المجاهدين في إثر بعضهم، وكلٌ منهم يرى أو يعرف مصرع من استجاب لتحريض النبي عليه الصلاة والسلام قبله، فلا يثنيه ذلك عن أن يقتل بعده، وهكذا حتى يهلكوا جميعهم، هذه الاستجابة لم تكن -ولا شك- وليدة اللحظة، بل هي نتيجة الارتباط الدائم في الذهن بين العمل الصالح وجزائه، واليقين بأن أعظم ما يناله المسلم لقاء عمله الصالح هو الجنّة، وأن حياته كلّها ما هي إلّا وسيلة لبلوغ الجنّة، فإن بذلها في أي لحظة من اللحظات وهو يعرف أنّه سينال ما تمنّى فقد حقّق غاية مراده من جهاده. مقتطف من افتتاحية صحيفة النبأ – العدد (3) السنة السابعة - السبت 17 محرم 1437 هـ

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً