الرحمة

عبد العزيز بن إبراهيم الشبل

«جعل الله عَزَّ وَجَلَّ الرحمة مئة جزءًا، فأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءًا، وأنزل إِلَى الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حَتَّى ترفع الفرس حافرها عن ولدها؛ مخافة أن تصيبه»

  • التصنيفات: التقوى وحب الله -
الرحمة

أَيُّهَا المؤمنون! دينكم دين الإسلام، دين الرحمة، دين السماحة، دين الرأفة، دين العفو والتسامح، والله جَلَّ وَعَلَا من أسمائه: «الرَّحيم»، ومن أسمائه: «الرَّحمن»، وهو سُبْحَانَهُ يرحم عباده، «وَإِنَّمَا يرحم الله من عباده الرحماء»[1]، ففي الصحيح -صحيح مسلم- في الحديث المسلسل بالأولية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّاحمون يرحمهم الرَّحمن، ارحموا من في الأرض؛ يرحمكم من في السماء»[2].

 

ومن رحمة الله العظيمة يا أَيُّهَا الإخوة: هٰذِه القصة العجيبة، لمَّا جاء سبي أوطاس، وهم سبي ثقيف وهوازن، وكان عدتهم ستة آلاف، قدموا عليه صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة، فخرج عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ومعه أبو بكرٍ وعمر، ولفيف من الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، خرج صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي في هٰذَا السبي، في هٰذَا العدد الكثير، فبينما هو يمشي؛ إذْ امرأة هلعى، طاش عقلها لمَّا فقدت جنينها، وهي تتنقل بلا عقلٍ ولا رويَّة، فلمَّا رأت جنينًا يبكي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته، ونبينا صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إِلَىٰ هٰذَا الهلع وَهٰذِه الشدة، فَقَالَ موجِّهًا حديثه لأصحابه وهو لكم أمة مُحَمَّد قاطبة، قَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتُرون هٰذِه قاذفة ولدها في النَّار وهي تقدر عَلَى ألَّا تفعل ذلك» ؟» قالوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ لما رأوا من شدة حنوها وشفقتها ورحمتها لوليدها وجنينها، عندئذٍ قَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -واسمعوا يا رعاكم الله إِلَىٰ ما قَالَ! قَالَ بأبي هو وأمي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «والله لله أشدُّ رحمةً بعباده من هٰذِه بولدها»[3].

 

 وقد «جعل الله عَزَّ وَجَلَّ الرحمة مئة جزءًا، فأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءًا، وأنزل إِلَى الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حَتَّى ترفع الفرس حافرها عن ولدها؛ مخافة أن تصيبه» [4] فإذا كان يوم القيامة، أعاد الله هٰذَا الجزء إِلَىٰ التسعة والتسعين جزءًا، فرحم الله جَلَّ وَعَلَا بها عباده.

 

 أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، اللَّهُمَّ ارحمنا برحمتك الواسعة، وارضَ علينا برضاك التَّامّ يا ذا الجلال والإكرام.

 

عباد الله! فتعرَّضوا -رحمني الله وَإِيَّاكُمْ- إِلَىٰ رحمات الله، وَإِلَىٰ عفوه، وَإِلَىٰ مرضاته، بينما النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته جالسًا ليس عنده في بيته شيءٌ يأكله، بيت النُّبُوَّة أشرف البيوت وأكرمها، وأعزها عَلَىٰ ربي جَلَّ وَعَلَا، يبيت فيه النَّبِيّ الليالي ذوات العدد، يرون الهلال ثُمَّ الهلال ثُمَّ الهلال في شهرين، ولا يوقد في بيته عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نار من القلة وعدم الوجد.

 

 دخل عَلَىٰ أهله وليس عندهم طعام، فَقَالَ: «اللهم إنِّي أسألك من فضلك ورحمتك»[5]، فبينما هو كذلك إذْ طارق يطرق عليهم بهدية من طعام من جيرانهم، وهي إِمَّا خزيرةٌ أي: عصيدة، وَإِمَّا حيسة، فَقَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هٰذَا يا ربِّ من فضلك، فنسألك رحمتك»، سلوا الله رحماته أَيُّهَا الإخوة، تعمكم جميعًا أحياءكم وأمواتكم، وصغاركم وكباركم، فإنَّ رحمة الله سُبْحَانَهُ وسعت كل شيء.

 

ثُمَّ اعلموا عباد الله! أن أصدق الحديث كلام الله، وَخِيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَىٰ الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.


[1] أخرجه البخاري (1284)، ومسلم (923).

[2] أخرجه الترمذي (1924) بهذا اللفظ، وأخرجه أحمد (6494)، وأبو داود (4941) بنحوه.

[3] أخرجه البخاري (5999)، ومسلم (2754) بنحوه.

[4] أخرجه البخاري (6000)، ومسلم (2752) بنحوه.

[5] لم أقف عليه في الكتب التسعة.