إلا شهادة الزور!
(سُئِلَ رسول الله ﷺ عن الكبائر فقال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزُّور»
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزُّور».
ففي هذا الحديث النبوي الشريف يذكر النبيُّ عليه الصلاة والسلام عددًا من كبائر الذنوب وعِظامها؛ ومن ذلك: شهادة الزور، وهي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى ما لا يجوز شرعًا من الباطل؛ كإتلاف نفسٍ، أو أخذِ مالٍ، أو إساءة لعِرض إنسان، أو إبطال حقٍّ، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال.
فالقصد من وراء شهادة الزور سيئ قبيح، كما هو ملاحظ، وفيه إضرار بالآخرين وإساءة لهم، بالإضافة إلى أن في شهادة الزور الكذبَ والافتراء والظلم الذي لا يرضاه رب العالمين أبدًا؛ ومن هنا حرَّمت الشريعة الإسلامية الشهادةَ بالباطل، بل جعلتها من أكبر الكبائر، وقد شدَّد النبي عليه الصلاة والسلام على شهادة الباطل أيما تشديد، وحذَّر منها أيما تحذير؛ فقد جاء عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أُنبِّئكم بأكبر الكبائر» ؟ ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين»، وجلس وكان متكئًا فقال: «ألَا وقول الزور»، قال: فما زال يُكرِّرها حتى قلنا: ليته سكت))؛ (رواه البخاري ومسلم).
"وجلس وكان متكئًا" يريد عليه الصلاة والسلام بذلك أن يُثيرَ انتباه الصحابة الكِرام رضوان الله عليهم لأهمية وخطورة ما سيقوله لهم، وفيه تأكيد على تحريم قول الزور والشهادة به، وعِظَمِ شأنه.
"ليته سكت"؛ إشفاقًا منهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لِما رأوا منه من شدة تحذيره من قول الزور والشهادة به، فلا يريدون بذلك أن يشُقَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه.
لماذا كل هذا التحذير والنَّكِير لشهادة الزور؟
أولًا: لتساهل البعض في شهادة الزور والتهاون بها، فيظن بأنها يسيرة، وما هي إلا كلمات يُدلي بها، وفي الحقيقة أن أمرها عظيم، وشأنها كبير، وعواقبها من أشد العواقب.
ثانيًا: لأن البواعث عليها كثيرة لدى الناس؛ فلربما دفعته كراهيته وبُغضه وعداوته لفلان من الناس إلى الكذب والافتراء عليه، والشهادة بالباطل ضده.
ثالثًا: لِما يترتب عليها من ظلم وإفساد لحياة الناس، وانعدام للثقة فيما بينهم، وتسبُّبها في إشاعة العداوة والبغضاء في المجتمع، وإبطال الحقوق، وإحقاق الباطل، وإعانة للظالمين على ظلمهم وبغيهم، وفسادهم وإفسادهم، وإعطاء من لا يستحق ما لا يستحق، ومنع من يستحق ما يستحق، وغير ذلك من المفاسد المترتِّبة على شهادة الزور، فمن هنا اشتدَّ التحذير والنكير على شهادة الزور.
والشهادة إنما جعلها الله تبارك وتعالى لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، لا لإبطال الحق، وإحقاق الباطل، وظلم الآخرين بالكذب والافتراء عليهم، فمفسدة شهادة الزور متعدِّية، وليست قاصرة على شاهد الزور، وهو ما يجعل إثمَها وذنبها أكبرَ من بعض الذنوب التي قد تكون مفسدتها على ذات الإنسان فحسب، ولبيان هذه الخطورة قَرَنَ الله تبارك وتعالى في سورة الحج الأمرَ باجتناب عبادة الأوثان والأصنام، بالأمر باجتناب قول الزور؛ حيث يقول سبحانه: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30].
لا بد أن نضع نُصْبَ أعيننا دائمًا أن الأصل في الشهادة أن تكون سندًا لجانب الحق، ومعينةً على إقامة العدل، والحكم على الجُناة والمذنبين ممن تنحرف بهم الأهواء والشهوات، فيظلمون ويَبْغُون ويعتدون، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ومتى انحرفت الشهادة عن هذا الأصل، وهذه الوظيفة، حدث الخَلَلُ في المجتمع، واضطربت الأحوال، وانتشر الظلم، وشاع الفساد، وتسلط علينا من لا يخاف الله سبحانه وتعالى.
وما أشدَّ عواقبَ شهادة الزور على الإنسان في الدنيا والآخرة! ولهذا عليه ألَّا يشهد إلا بالحق وبما يعلم، وبما سمع ورأى؛ كما قال جل وعلا: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقد ذَكَرَ الله تبارك وتعالى من صفات عباده المؤمنين بأنهم لا يشهدون الزور، وقد امتدحهم بهذه الصفة؛ حيث قال جل وعلا في سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].
_____________________________________________
الكاتب: د. أحمد عادل العازمي
- التصنيف:
عنان عوني العنزي
منذ