هل يقتصر عذاب القبر على الغدو والعشي؟

فالقبر أول منازل الآخرة، ونظرة واحدة بعين البصيرة فيه تعطيك حقيقة هذه الدنيا، فبعد العزة وبعد الأموال وبعد الأوامر والنواهي وبعد الخدم والحشم وبعد القصور والدور، هذه هي نهاية ابن آدم في هذه الحفرة الضيقة المظلمة وحيدًا مستوحشًا.

  • التصنيفات: الزهد والرقائق -

عن هانئ مولى عثمان، قال: كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إذا وقف على قبر يبكي حتى يبلَّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنَّ القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسَر منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشد منه»، قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما رأيت منظرًا قطُّ إلا والقبر أفظع منه» [1].

 

فالقبر أول منازل الآخرة، ونظرة واحدة بعين البصيرة فيه تعطيك حقيقة هذه الدنيا، فبعد العزة وبعد الأموال وبعد الأوامر والنواهي وبعد الخدم والحشم وبعد القصور والدور، هذه هي نهاية ابن آدم في هذه الحفرة الضيقة المظلمة وحيدًا مستوحشًا. وأنت إذا أمعنت النظر في كل شيء فلن تجد أفظع من القبر.

 

وقد دلَّت النصوص الشرعية على أن عذاب القبر مستمر لا يتوقف ولا يفتر عن الكفرة وعن الذين بالغوا في الإساءة من أهل التوحيد، منها:

• عن أبي أيوب الأنصاري، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما غربت الشمس فسمع صوتًا، فقال: «يهود تُعذَّب في قبورها» [2].

 

• وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مررتُ ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت وفت[3]، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء أُمَّتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به» [4].

 

• وعن أُبيِّ بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم» [5].

 

• وعن سَمُرة بن جندب، قال (في حديث الرؤيا التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم -): قال - صلى الله عليه وسلم -: «طوفتماني الليلة، فأخبراني عما رأيت، قالا: نعم، أما الذي رأيته يشق شدقه، فكذاب يحدث بالكذبة، فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة، والذي رأيته يشدخ رأسه، فرجل عَلَّمه الله القرآن، فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة، والذي رأيته في الثقب فهم الزناة، والذي رأيته في النهر آكلوا الربا» [6].

 

• وعن ابن عمر، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء، خُسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» [7].

 

• وعن علي، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشًا، وأمَّر عليهم رجلًا فأوقد نارًا وقال: ادخلوها، فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها، فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: «لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة» [8].

 

• وعن ابن عباس، مَرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على قبرين فقال: «إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان من كبير» [9]، ثم قال: بلى[10]، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما أحدهما فكان لا يستتر من بوله قال: ثم أخذ عودًا رطبًا، فكسره باثنتين، ثم غرز كل واحد منهما على قبر، ثم قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» [11]، فجعل التخفيف في رطوبتهما فقط.

 

أما في قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].

 

فالصحيح ما بيَّنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إنَّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» [12].

 

أما ما يُروى عن عبدالله بن مسعود، أنه قال: (وإنَّ أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو على جهنم وتروح عليها، فذلك عرضها)[13] فلا يصح[14].

 

ففي عرض المقعد تنعيم للمؤمن وتعذيب للكافر وللمبالغ في الإساءة من أهل التوحيد، بمعاينة ما أعدَّ له، وانتظاره ذلك إلى اليوم الموعود، فيدرك من الألم والتخويف والحزن والعذاب ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب؛ إذ يُفتَح له باب إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسمومها ما يفوق بكثير ما عُذب به طوال اليوم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ناركم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم»، قيل: يا رسول الله، إن كانت لكافية قال: «فضلت عليهن بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرِّها» [15].

 

فإن قال قائل: لماذا زيادة العذاب في هذين الوقتين؟ نقول: لأنهما وقتا فضيلة وذكر واجتهاد في العبادة، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – «مَنْ صلَّى البردين[16] دخل الجنة» [17]، فلما أعرضوا عن ذكر الله في طيب الهواء وبرده، أبدلهم الله بحَرِّ النار وسمومها.

 

فأيُّ عقل لمن اشترى لذة أو راحة ساعة بندم وحسرات وحزن طويل وخوف شديد، وفراش ولباس وسياط من نار، ومقامع من حديد، وعذاب أليم، مع ما فاته من مقام أمين وفوز عظيم ونعيم مقيم.

 

وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصل اللهم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

 


[1] صحيح الترمذي: 2308.

[2] صحيح مسلم: 69 - (2869).

[3] تمت وطالت.

[4] صحيح الجامع: 129.

[5] الصحيحة: 533.

[6] صحيح البخاري: 1386.

[7] صحيح البخاري: 3485.

[8] صحيح البخاري: 7257.

[9] أي: ليس بكبير في اعتقادهما.

[10] أي: هو عند الله كبير؛ كقوله تعالى: ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15].

[11] صحيح البخاري: 1378.

[12] صحيح البخاري: 1379.

[13] أخرجه ابن أبي حاتم ابن كثير 4/ 88 وفي سنده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.

[14] وإن لم يصح الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يأتيه الخبر من السماء، ولا عن أصحابه الذين أخذوا عنه، فكيف يصح عن هزيل بن شرحبيل التابعي؟

[15] صحيح البخاري: 3265.

[16] الصبح والعصر، قال الخطابي: وإنما قيل لهما: بردان، وأبردان؛ لطيب الهواء وبرده في هذين الوقتين.

[17] متفق عليه.

________________________________________________
الكاتب: محمد حباش