التحذير من جلساء السوء
المسلم الفطن هو الذي يكون دائمًا على بينة وحذر من جلساء السوء، وأصدقاء المصلحة، وأدعياء الأخوة، فلا يصاحبهم ولا يخالطهم؛ لأنهم في الحقيقة أعداء
إن الحمد لله...،
أما بعد:
عباد الله، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا}[الفرقان: 27، 28].
إن سبب نزول هذه الآيات الكريمة حسب ما ورد في كتب التفسير والسيرة النبوية- أن عقبة بن أبي معيط من زعماء قريش كان جارًا للرسول صلى الله عليه وسلم، وحصل أن أقام عقبة وليمة دعا إليها الرسول عليه الصلاة والسلام، فعرض الرسول صلى الله عليه وسلم على عقبة الإسلام فاستجاب عقبة بالشهادتين بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فعلم بذلك أُبَيُّ بن خلف من زعماء المشركين، وكان صديقًا لعقبة، فجاء إليه وقال له: وجهي من وجهك حرام إذا لم تطأ عنق محمد وتبصق في وجهه، فاستجاب عقبة لما أمره به صديقه الشرير وفعل فعلته النكراء تجاه حبيبنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وارتدَّ عن الإسلام؛ فنزلت هذه الآيات الكريمة لتصف عقبة بالظالم، وأنه سيندم على فعلته الشنعاء والنكراء يوم القيامة، كما سيندم على صحبته لأُبَيِّ بن خلف الذي هو بمثابة الشيطان الظالم.
وقد وقع عقبة أسيرًا في يد المسلمين في معركة بَدْر، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله، فضربت عنقه؛ لأنه قد قام بأعمال شنيعة بشعة نكراء، وشارك في معركة بَدْر مع المشركين، وأما مصير صديقه أُبَيِّ بن خلف فقد قتله الرسول عليه الصلاة والسلام بطعنة في معركة أُحُد؛ لأن أُبَيًّا كان يقصد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فعاجله بطعنة في معركة أُحُد، ولم يقتل الرسول بعده أو قبله أحدًا.
عباد الله، إن الجليس الصالح والأخ الحقيقي والصاحب المرضي هو الذي تكون العلاقة معه مبنية على تقوى الله، وعلى الحب في الله.
واعلموا- رحمكم الله- أنكم لن تجدوا في الدنيا اثنين تحابَّا في الله، ويطيعان أمره، ويتعاونان على فعل المعروف وترك المنكر ودفع الأذى عن الناس إلا وقد أعَزَّهم الله بعزَّته التي لا تضام، وكتب لهم القبول بين الأنام، وأما في الآخرة فيظلهم الله بظله الظليل يوم الزحام، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظِلَّ إلا ظله»، وذكر منهم: «رجلان تحابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه».
عباد الله، إن الجليس الصالح والأخ الحقيقي والصديق المرضي هو الذي يقدم لك النصح، ويرشدك إلى الخير، ويحذرك من ظلم الناس، هو الذي يساعدك بيمينه، ويرفع عنك الأذى بشماله.
هو الذي يحافظ على الود والوفاء في الشدة واللين، في الفقر والغنى، في المرض والصحة، هو الذي تجده بجانبك في الملمَّات، هو الذي يشاركك أفراحك، ويواسيك في أحزانك.
هو الذي يحفظ غيبتك، ويدافع عنك ولا يطعنك من الخلف، لكن السؤال الذي يطرح هنا هو: أين هو هذا الجليس الصالح والأخ الحقيقي والصديق المرضي في هذه الأيام؟!
عباد الله، إن غالب الجلساء والأصدقاء اليوم صداقتهم تافهة؛ لأنها تقوم على المصالح المؤقتة؛ ولذلك فإنها تزول بزوالها، وهي تعرف بصداقة المصلحة، أما الصداقة الخالصة فهي الصداقة والصحبة التي تقوم على المحبة في الله، وتُبْنى على تقوى الله، وقد كان أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه يقال له بالصدِّيق؛ لصداقته الإيمانية للرسول عليه السلام.
عباد الله، المسلم الفطن هو الذي يكون دائمًا على بينة وحذر من جلساء السوء، وأصدقاء المصلحة، وأدعياء الأخوة، فلا يصاحبهم ولا يخالطهم؛ لأنهم في الحقيقة أعداء، قال الله سبحانه وتعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل».
عباد الله، إن جليس السوء يؤذي الآخرين بسلوكه وبأخلاقه وبطباعه وبآرائه وأفكاره، وإنه يمثل الأزمة في المجتمع، أما الجليس الصالح فيفيد الآخرين، وينشر المحبة والمرح بينهم، والإصلاح فيما بين الناس، وإنه يمثل البناء في المجتمع، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك، إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير، إن لم يصبك من شرره أصابك من دخانه».
عباد الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر»، فلا يجوز شرعًا للمسلم أن يجلس في مجلس تقدم فيه الخمور والمشروبات المحرَّمة، وكذلك لا يجوز الجلوس مع أناس يرتكبون أي مُحرَّم من المحرمات الشرعية، وروي عن الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز الخليفة الراشد الخامس رضي الله عنه أنه يجلد شاربي الخمر كما يجلد من يشهد مجالسهم، وإن لم يشربوا، فقد أتوا له بقوم شربوا الخمر فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم فلانًا وقد كان صائمًا، فقال عمر بن عبدالعزيز: ابدؤوا به؛ أي: ابدؤوا بجلد الذي كان صائمًا، واستدل بقوله سبحانه وتعالى في سورة النساء: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}[النساء: 140].
عباد الله، لقد كان التوجيه الإلهي لنبيه المصطفى محمد عليه أفضل الصلاة وأكرم التسليم بأن يجالس الصحابة المؤمنين ولو كانوا ضعافًا أو فقراء، أمثال خباب بن الأرت، وعمار بن ياسر، وعبدالله بن مسعود، وبلال بن رباح، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وألَّا ينشغل عنهم بمجالسة زعماء قريش المشركين الذين ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، أمثال عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وحيينة بن حصن، فيقول الله عز وجل في سورة الأنعام: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الكهف: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف: 28].
عباد الله، إن الأمة اليوم:
بحاجة إلى جلساء حقيقيين وأصدقاء مرضيين يتآخون في الله، ويهتدون بسيرة محمد عليه الصلاة والسلام.
بحاجة إلى أناس قلوبهم متعلقة بالمساجد، أناس متمسكين بدينهم وأعين مدركين لإسلامهم.
بحاجة إلى أناس إيمانهم يهيمن على قلوبهم وجوارحهم، غير آبهين للصعاب والعقبات التي تصادفهم في طريق دعوتهم. كل هذا لتصل الأمة إلى تكوين جيل صالح قادر على اختيار الطريق المستقيم، جاء في الحديث القدسي عن الله عز وجل: «قد حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي».
عباد الله، إن رفقاء السوء يهدمون أخلاق الشباب، ويوقعونهم في براثن الآثام، ومهاوي الظلام؛ وذلك باستعمال أساليب الإسقاط أو الإغراء أو الخداع؛ حتى يبتلى أحدهم ببلية خبيثة كشرب الخمر، وتعاطي المخدرات، وارتكاب المحظورات، ويصعب عليه التخلُّص منها، يتركونه لغوائل الحياة.
عباد الله، إن رفقاء السوء يهدمون ولا يبنون، يهدمون القيم والأخلاق، والذي يقع تحت يد وسلطة هؤلاء فإنه يكون قد حكم على نفسه بالموت البطيء، ورفض المجتمع له، ويصبح عضوًا فاسدًا لا قيمة له ولا نفع فيه.
عباد الله، على الشباب أن يتَّعظ بما حل ويحل بغيرهم بسبب جلساء ورفقاء السوء، والسعيد من اتَّعظ بغيره، والشقي من اغتر بنفسه.
ونحن عندما نحذر من الاحتكاك أو الاقتراب من رفاق السوء، من الذين يتسكعون في الشوارع والطرقات ويؤذون الناس بتصرفاتهم، فإننا نقوم بذلك امتثالًا لأمر الله تعالى ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وشفقة بهم وخوفًا عليهم يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال: 25]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»، ويقول في حديث آخر: «إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أوشكوا أن يعمهم الله بعقاب من عنده».
عباد الله، يقول رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه -: «مَنْ صلَّى عليَّ صَلاةً صلَّى الله عليهِ بهَا عشْرًا».
____________________________________________
الكاتب: د. لحسن العيماري
- التصنيف: