الإسراف

لا شك أن الإسراف تتعدد صوره ومظاهرُه، وهو يقع في أمور كثيرة؛ كالمأكل والمشرب، والملبس، والمركب، والمسكن، وغيرها، ومن هذه الصور:

  • التصنيفات: مساوئ الأخلاق - ملفات شهر رمضان -
الإسراف

قال ابن منظور: السرف والإسراف: مجاوزة القصد.

 

والإسراف: هو صرف الشيء فيما لا ينبغي زائدًا على ما ينبغي.

 

 

ذم الإسراف في القرآن والسنة النبوية:

1) قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]، قال الماوردي: يعني لا تأخذوها إسرافًا على غير ما أباح الله لكم، وأصل الإسراف تجاوزُ الحد المباح إلى ما ليس بمباحٍ، فربما كان في الإفراط، وربما كان في التقصير، غير أنه إذا كان في الإفراط، فاللغة المستعملة فيه أن يقال أسرف إسرافًا، وإذا كان في التقصير قيل: سرَف يَسرف.

 

2) وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}  [الأنعام: 141]؛ قال الطبري: السرف الذي نهى الله عنه في هذه الآية، مجاوزة القدر في العطية إلى ما يجحف برب المال.

 

3) وقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}  [الأعراف: 31]؛ قال السدي: ولا تسرفوا، أي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراءَ، وقال الماوردي: فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا تسرفوا في التحريم، قاله السدي، والثاني: معناه لا تأكلوا حرامًا، فإنه إسراف، قاله ابن زيد، والثالث: لا تسرفوا في أكل ما زاد على الشِّبع، فإنه مُضر.

 

4) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا، مَا لَمْ يُخَالِطْهُ إِسْرَافٌ أَوْ مَخِيلَةٌ»[1]، قال ابن حجر في الفتح: ووجه الحصر في الإسراف والمخيلة أن الممنوع من تناوله أكلًا ولُبسًا وغيرهما؛ إما لمعنى فيه وهو مجاوزة الحد وهو الإسراف، وإما للتعبد كالحرير إن لم تَثبت علة النهي عنه، وهو الراجح، ومجاوزة الحد تتناول مخالفة ما ورد به الشرع، فيدخل الحرام، وقد يستلزم الإسراف الكبر وهو المخيلة.

 

5) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ذُو مَالٍ كَثِيرٍ، وَذُو أَهْلٍ وَوَلَدٍ، وَحَاضِرَةٍ، فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ أُنْفِقُ؟ وَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): « تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِكَ، فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ، وَتَصِلُ أَقْرِبَاءَكَ، وَتَعْرِفُ حَقَّ السَّائِلِ، وَالْجَارِ، وَالْمِسْكِينِ» ، فَقَالَ: يَارَسُولَ اللَّهِ، أَقْلِلْ لِي، قَالَ: «فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ، وَالْمِسْكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ، وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا» ، فَقَالَ: حَسْبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا أَدَّيْتُ الزَّكَاةَ إِلَى رَسُولِكَ، فَقَدْ بَرِئْتُ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «نَعَمْ، إِذَا أَدَّيْتَهَا إِلَى رَسُولِي، فَقَدْ بَرِئْتَ مِنْهَا، فَلَكَ أَجْرُهَا، وَإِثْمُهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا» ][2].

 

6) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَال» [3].

 

صور الإسراف ومظاهره:

لا شك أن الإسراف تتعدد صوره ومظاهرُه، وهو يقع في أمور كثيرة؛ كالمأكل والمشرب، والملبس، والمركب، والمسكن، وغيرها، ومن هذه الصور:

1) الإسراف على الأنفس في المعاصي والآثام؛ قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}  [الزمر: 53]؛ قال القاسمي: أي جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والكفر، لا تيئَسوا من مغفرته بفعل سبب يمحو أثر الإسراف، {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}  [الزمر: 53]؛ أي لمن تاب وآمن، فإن الإسلام يجبُّ ما قبله، {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}  [الزمر: 53، 54]؛ أي: توبوا إليه وَأَسْلِمُوا لَهُ؛ أي استسلموا وانقادوا له، وذلك بعبادته وحده وطاعته وحده، بفعل ما أمَر به واجتناب ما نهى عنه.

 

2) الإسراف في الأكل والشِّبع المفرط: نهى النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عن الإسراف في تناول الطعام، عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ غَلَبَتْهُ نَفْسُهُ، فَثُلُثُ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» [4].

 

3) الإسراف في المرافق العامة: والإسراف في المرافق العامة مذموم أيضًا؛ كالإسراف في الماء والكهرباء، ويُعد من إضاعة المال، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» [5]. قال المناوي: (إضاعة المال): هو صرفه في غير وجوهه الشرعية، وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه إفساد والله لا يحب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرَّض لما في أيدي الناس.

 

الوسائل المعينة لترك الإسراف:

1- الاعتدال في السرف: قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}  [الفرقان: 67]؛ قال ابن كثير: أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصِّرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها.

 

2- البعد عن مجالسة المسرفين: ويكون بالانقطاع عن صحبة المسرفين، مع الارتماء في أحضان ذوى الهمم العالية والنفوس الكبيرة الذين طرحوا الدنيا وراء ظهورهم، وكرَّسوا كلَّ حياتهم من أجل استئناف حياة إسلامية كريمة، تصان فيها الدماء والأموال والأعراض، ويُقام فيها حكم الله عز وجل في الأرض، غير مبالين بما أصابهم ويصيبهم في ذات الله.

 

3- قراءة سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم): كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) زاهدًا عن هذه الدنيا، وكان يحذِّر أمته عن الإسراف والتبذير، ويحثهم على المثابرة والتقشف، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِي: إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) نَارٌ، فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ، مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ، قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ؛ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَا[6].

 

4- قراءة سيرة السلف الصالح: فالصحابة من سلف هذه الأمة والتابعون لهم، كانت نظرتهم لهذه الدنيا أنها دار مَمر لا دار مقر، وأنهم غُرباء مسافرون عنها، ولذلك كان عيشهم كفافًا، فقد رُوي عن عمر بن الخطاب أنه دخل على ابنه عبد الله فرأي عنده لحمًا، فقال: ما هذا اللحم؟ قال: أشتهيه قال: وكلما اشتهيت شيئًا أكلته؟ كفي بالمرء سرفًا أن يأكل كلَّ ما اشتهاه.

 

5- أن يفكر في عواقب الإسراف: فالذي يعلم أن عاقبة الإسراف والتبذير سيئة وغير محمودة، يتجنبه ولا يتمادى في هذا الطريق.

 

6- تذكر الموت والدار الآخرة: فالمسلم حينما يتذكر الموت وأهوال يوم القيامة لا شك أنه سيُعينه على ترك الإسراف والبذخ، وسيتقرب إلى الله بإنفاق ما زاد عن حاجاته، والاستعداد ليوم القيامة.

 

أسباب الإسراف والتبذير:

1- الجهل: جهل المسرف والمبذر بأحكام الشريعة الإسلامية، فرُبما لا يعرف أن الإسراف والتبذير منهي عنه، فيقع فيه.

 

2- التأثر بالبيئة: فالإنسان الذي يعيش في بيئة ينتشر فيها الإسراف والتبذير، سيتطبَّع بطبْعهم بمحاكاتهم وتقليدهم فيما يفعلونه.

 

3- السعة بعد الضيق: قد يكون الإسراف سببُه السَّعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر؛ ذلك أن كثيرًا من الناس قد يعيشون في ضيق أو حرمان أو شدةٍ أو عسرٍ، وهم صابرون محتسبون، وماضون في طريقهم إلى ربهم، وقد يحدُث أن تتغير الموازين، وأن تتبدل الأحوال، فتكون السعة بعد الضيق أو اليسر بعد العسر، وحينئذ يصعُب على هذا الصنف من الناس التوسط أو الاعتدال، فينقلب على النقيض تمامًا، فيكون الإسراف أو التبذير.

 

4- الغفلة عن الآخرة: فلا يغترَّ بالدنيا ويغفل عن الآخرة، فإن الدنيا دُول وتتبدل الأحوال فيها، فمرة في الغنى ومرة في الفقر، وأنها دار ممر وليست دار مَقر، ولو كانت تساوي جناح بعوضة، ما سقى منها الكافر شربةَ ماء.

 

5- مصاحبة المسرفين: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»[7]، فالإسراف ربما يكون بسبب صُحبة المسرفين ومخالطتهم؛ ذلك أن الإنسان غالبًا ما يتخلَّق بأخلاق صاحبه وخليله، ولا سيما إذا طالت هذه الصحبةُ، وكان هذا الصاحب قويَّ الشخصية شديدَ التأثير، ولعلنا بذلك نُدرك السر في تأكيد الإسلام وتشديده على ضرورة انتقاء الصاحب أو الخليل.

 


[1] رواه ابن ماجه وقال الشيخ ناصر الدين الألباني حديث حسن.

[2] رواه الإمام أحمد، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: رجاله ثقات رجال الشيخين.

[3] رواه ابن ماجه وقال الشيخ الألباني: صحيح.

[4] رواه ابن ماجه وقال الشيخ الألباني: صحيح.

[5] رواه البخاري.

[6] رواه البخاري.

[7] رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني حسن.

___________________________________________________________
الكاتب: عفان بن الشيخ صديق السرگتي