أهمية جبر الخواطر واغتنام العشر الأواخر

يا أيها الناس، تلمَّسوا مواطن الاستئناس في قلوب الآخرين، انتشلوا ضيقة خواطرهم بكلمة طيبة، بعبارة حنونة، وحديث لطيف، ودعاء صادق، وعون ممتد.

  • التصنيفات: ملفات شهر رمضان - مجتمع وإصلاح -

أيُّها المؤمنونَ، جاءَ الإسلامُ بالحضِّ على مراعاةِ الخواطرِ وجبرِها، وتطييبِ النُّفوسِ وعدمِ كسرِهَا، وجَعَلهَا -سبحانَه- عبادةً يُتقرَّبُ بها الخلقُ إليهِ، وصفةً يُحبُّها ويَرْتَضِيْها.

 

وربُّنا -سبحانَه- جَبَرَ خواطرَ عبادِه وطيَّبَ نفوسَهم، وتفرَّدَ بالكمالِ في ذلكَ، فكمْ مِنْ ضالٍّ هداهُ، وفقيرٍ جَبَرهُ فأغْنَاه، وضعيفٍ قوَّاهُ، ومظلومٍ أجابَ دعاءَه، ومحتاجٍ فرَّجَ همَّه ويسَّر أمْرَه وأمْضَاه، ومريضٍ شفَاهُ، ومبتلًى عافَاهُ، ومُضطَّرٍّ أنجَاهُ، ومستغيثٍ ملهوفٍ أغاثَه وأعطَاهُ، وداعٍ لبَّى دُعاءَه، وسائلٍ أعطاهُ ما يتمنَّاهُ، ومكروبٍ فَرَّجَ عنْه وأزالَ كربَه وهدَاه، وحزينٍ واسَاه، ومهمومٍ مغمومٍ أزالَ همَّه وغمَّه وملأَ قلبَه فرحًا وسرورًا! فلهُ الحمدُ -سبحانَه- على فضلِه وعظيمِ جودِه وكرمِه.

 

واعلموا -عباد الله- أن جبر الخواطر من أوصاف الله -تعالى-، فمن أسمائه جل جلاله: الجبار، قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23]، هو الجبار، وهذا الاسم بمعناه الرائع يُطمئنُ القلبَ، ويريحُ النفس، فهو سُبْحَانَهُ الذِي يَجْبُرُ الفَقرَ بِالغِنَى، والمَرَضَ بِالصحَّةِ، والخَيبَةَ والفَشَلَ بالتَّوْفِيقِ والأَمَلِ، والخَوفَ والحزنَ بالأَمنِ والاطمِئنَانِ، فَهُوَ جَبَّارٌ مُتصِفٌ بِكَثْرَةِ جَبْرِهِ حَوَائِجَ الخَلَائِقِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ، انْكِسَارَاتُ الْحَيَاةِ عَدِيدَةٌ، وَكُلَّ يَوْمٍ نَتَكَسَّرُ بِهُمُومِ هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ فَنَحْتَاجُ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ؛ حَتَّى يَجْبُرَ كَسْرَنَا، وَيُقَوِّيَ ضَعْفنا.

 

يَنْكَسِرُ الْمَرِيضُ عَلَى فِرَاشِهِ، يُصَارِعُ الْمَرَضَ؛ فَيُنَادِي: يَا اللَّهُ! فَإِذَا الْجَبَّارُ يَجْبُرُ كَسْرَهُ، وَيُنْزِلُ الشِّفَاءَ مِنْ عِنْدِهِ.

 

يَنْكَسِرُ الْفَقِيرُ فَلَا يَمْلِكُ قِطْمِيرًا، وَيَتَنَهَّدُ مِنَ الْبُؤْسِ، وَيَبْكِي مِنَ الْفَاقَةِ، وَيَنْظُرُ فِي السَّمَاءِ وَيَقُولُ: يَا اللَّهُ! فَإِذَا الْجَبَّارُ يَجْبُرُ كَسْرَهُ، وَيَرْفَعُ حَاجَتَهُ، وَيَكْشِفُ ضَائِقَتَهُ.

 

يَنْكَسِرُ الْمَظْلُومُ، وَيُخْفِي أَنِينَهُ، وَيَمْسَحُ دَمْعَتَهُ، وَيَنْطَرِحُ عِنْدَ بَابِ اللَّهِ وَيَقُولُ: يَا اللَّهُ! فَإِذَا بِالْجَبَّارُ يَنْتَقِمُ لَهُ، وَيُرْسِلُ جُنْدَهُ، وَيُنْزِلُ نَصْرَهُ.

 

يَنْكَسِرُ السَّجِينُ فِي زِنْزَانَتِهِ؛ وَقَدْ كُبِّلَ بِالْحَدِيدِ، وَغُلَّ بِالْقُيُودِ؛ فَيُنَادِي: يَا اللَّهُ! فَإِذَا بِالْجَبَّارُ يَجْبُرُ كَسْرَهُ، وَيْفَتَحُ الْأَبْوَابَ لَهُ، وَإِذَا الْقُيُودُ تُحَلُّ، وَالْفَرَجُ يَحْصُلُ.

 

يَنْكَسِرُ الْعَقِيمُ، وَيَلُفُّهُ الْحُزْنُ، وَيَضْعُفُ الْأَمَلُ؛ فَيَأَخُذُ سِجَّادَتَهُ، وَيُطِيلُ بُكَاءَهُ، وَيُنَادِي: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً! فَإِذَا بِالْجَبَّارُ يَجْبُرُ كَسْرَهُ،، وَيُرْسِلُ أَمْرَهُ وَعَوْنَهُ وَمَدَدَهُ؛ فَإِذَا الْمُسْتَحِيلُ مَوَجُودٌ، وَإِذَا الِابْتِسَامَةُ تَحْصُلُ، وَالْحَمْلُ قَدْ حَلَّ.

 

إِنَّهُ الْجَبَّارُ؛ يَحُلُّ الْعُقَدَ، وَيَجْبُرُ الْقُلُوبَ وَالْعِظَامَ وَالنُّفُوسَ، وَيُكَفْكِفُ الدُّمُوعَ، وَيَرْفَعُ الْبَلَاءَ، وَيَكْشِفُ الضَّرَّاءَ، وَيُرْسِلُ السَّرَّاءَ.

 

يُنَادِيهِ الْجَمِيعُ: اجْبُرْ كَسْرَنَا، وَارْحَمْ ضَعْفَنَا! {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].

وَإِذَا الْعِنَايَةُ لَاحَظَتْكَ عُيُونُهَا   **   نَمْ فَالْحَوَادِثُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ 
 

يَقولُ اللَّهُ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21]، فَبِيَدِهِ مَفَاتِيحُ الْفَرَجِ، فَإِذَا أَوْقَفَتْكَ الْآلَامُ وَالْهُمُومُ؛ فَاتَّجِهْ إِلَى الْمَلِكِ الْعَلَّامِ، جَابِرِ الْقُلُوبِ وَجَابِرِ الْكُسُورِ، وَنَادِ: يَا جَابِرَ الْمُنْكَسِرِينَ! اجْبُرْ كَسْرِي، وَارْحَمْ ضَعْفِي، وَفَرِّجْ هَمِّي، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].

وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَتَـــــى   **   ذَرْعًا وَعِنْدَ اللَّهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ 

ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُهَا   **   فُرِجَتْ وَكَانَ يَظُنُّهَا لَا تُفْـرَجُ 

 

وَلَكِنَّ الْكَثِيرَ يَسْتَعْجِلُونَ الْفَرَجَ، أَوْ يَغْفَلُونَ عَنْ مَلِكِ الْمُلُوكِ وَجَابِرِ الْقُلُوبِ، وَيَفْزَعُونَ إِلَى الضَّعِيفِ الْمَمْلُوكِ؛ فَلَا يَجِدُونَ مَا يَبْتَغُونَ!

 

فإلى كل نفس مُتعبة، وإلى كل قلب انكسر، لا تحزن ولا تتألم أيها المنكسر الضعيف، ولا تيئس أيها الوحيد الغريب، ولا تبكِ أيها الفقير المعوز، ولا تهتم أيها العائل المحزون، ولا تبتئس أيها المظلوم المحروم؛ فإن ربَّك هو الجبار سبحانه... سيذهب حزنك، ويجبر كسرك، ويزيل يأسك، ويؤنس غربتك، ويطمئن وحدتك، سيغنيك بعد فقر، ويسترك بعد عري، ويسعدك بعد همٍّ، ويقويك بعد ضعف، وينصرك بعد ظلم.

 

وانظر في هذا العالَمِ كم جبرَ اللهُ تعالى من قلوبِ، وكم فرَّجَ من كُروبِ، وكم كشفَ من خُطوبِ، وكم أغاثَ من منكوبٍ.

 

فجبرُ الخواطرِ خُلقٌ كريمٌ ومعنى عظيمٌ من صفاتِ اللهِ -تعالى الكريم - التي يُحبُّ أن يراها في عبادِه المؤمنينَ؛ ولذلكَ كانَ الحظُّ الأوفرُ منها لسيِّدِ المُرسلينَ، وإمامِ المتقينِ -عليه صلاةٌ وسلامٌ دائمانِ-، وقد أوصاهُ اللهُ -تعالى- بعدمِ كسرِ الخواطرِ فقالَ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 9، 10]، فالتزمَ بهذا؛ لأنَّهُ كانَ خُلُقُه القرآنَ.

 

إن جبر الخواطر، ومراعاة المشاعر، ومواساة المنكسر والحائر، من أكرم الخصال وأرقى الفعال، فالإسلام علَّمنا أن نكون عونًا بعضنا لبعض، ننصر المظلوم، ونواسي المكلوم، ونعطي المحروم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وشَبَّكَ أصَابِعَهُ»؛ (رواه البخاري في صحيحه).

 

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو، تَدَاعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى»؛ (رواه البخاري ومسلم).

 

الإنسان في هذه الحياة يتعرض لظروف شديدة، فكم من حزين بحاجة إلى من يجبر خاطره بكلمة حانية، تضمد جراحات قلبه، وكم من مظلوم بأمس الحاجة إلى من يقف معه في مظلمته، ويخفف عنه ألَمَ الظلم والقهر الذي يقطع قلبه، وكم مِن مُبتلًى يتمَنَّى أن يجد أخًا صادقًا يصبِّره في بلائه، ويقوِّيه ويشد أزره، ويذكره بجزاء الله العظيم له في بلائه إن صبر واحتسب الأجر، وكم من مهموم قد أثقلته الهموم ينتظر صديقًا، يفتح له باب الأمل، ويبشِّره بقرب الفرج، وكم مريض قد هدَّه المرض ينتظر زائرًا يواسيه ويخفِّف عنه آلامه، ومن فرَّج عن أخيه كربة فرج الله عنه يوم القيامة، فالجزاء من جنس العمل.

 

روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كربةً، فرج الله عنه كربةً مِن كربات يوم القيامة، ومَن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة».

 

يا أيها الناس، تلمَّسوا مواطن الاستئناس في قلوب الآخرين، انتشلوا ضيقة خواطرهم بكلمة طيبة، بعبارة حنونة، وحديث لطيف، ودعاء صادق، وعون ممتد.

 

فاجبر بخاطر الوالدين والأخوة والأخوات والزوجة والأولاد وأقربائك وجيرانك، أي إنسان اسْعَ في جبره والإحسان إليه من تعرفهم ومن لا تعرفهم، تطرد عنهم جوعًا، تقضي عنهم دَيْنًا، تكشف عنهم كربة، تقضي لهم حاجة، تعودهم في المرض، تواسيهم عند الفقد، تقف معهم في الشدة، تعطيهم عند الحاجة، من أفضل القربات عند الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم مبينًا الطريق إلى جبر الخواطر وجزائه عند الله: «أحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ يطْرُدُ عنهُ جُوعًا...»؛ (رواه الطبراني).

 

وقال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] لم يقل لينفق ذو مال من ماله! فإن كانت سعتك في الكلمة الطيبة فأنفق منها، وإن كانت سعتك في البسمة الصافية فأنفق منها، وإن كانت سعتك في جبر الخواطر فأنفق منها، وإن كانت سعتك في التغافل والتسامح فأنفق منها الإنفاق ليس مالًا فقط ولكن انظر أين وسع الله عليك وتصدَّق.

 

‏جبر الخواطر طريق من طرق الجنة حينما تنصت مواساة لوجع أحد، حينما تبكي مواساة لشخص أبكته الحياة، حينما تقف بجانب شخص ضاقت به الوسيعة، حينما تمسح الدمعة من عين مظلوم، من خد مقهور تداوي بها أوجاعه، عظيمة كل تلك المواساة.

 

عندما تمتلك القدرة على فعل الخير فافعل، وعندما يضع الله في يدك عطاءً قد ينفع غيرك فلا تبخَل، وعندما يكون بإمكانك بذل إحسان فكن مبادرًا، واعلم بأن كل شيء يفنى إلا الفعل النبيل والأثر الجميل والسيرة الحسنة.

 

أيها المسلمون، المؤمن يبكي ويتحسَّر عندما يرى المنكسرة خواطرهم، والمرهقة قلوبهم، والمتعبة أياديهم، من هو مُشرَّد جائع ومحتاج ضائِع وبائس فقير في أودية الهموم والشتات، وفي عالم الحروب والأحداث، يا مسلمون، المسلم لا يشبع وأخوه جائع، ولا يرتاح وأخوه يعاني الفاقة والشدة والفقر والحرمان.

 

من يعمل منكم على جبر الفقراء والمحاويج والمعدمين والمعسرين والمكروبين والمهمومين؟!

 

كثير من البيوت والأسر تمُرُّ عليهم هذه الليالي والأيام وليس عندهم ما يأكلون، بيوتهم خاوية، ليس بها زاد إلا رحمة ربِّ العباد.

 

كم من أرملة مغمومة مهمومة، يتلوَّى صغارها، ويتقطَّع خمارها، ولكن هيهات أن تجد مغاثها إلا من الرحمن الرحيم، والكثير متفرِّجون، ولها مكذِّبون، نظنُّ حالهم أعلى من حالنا، والله أعلم بما تخفي وتكِنُّ من فقرها وحسرتها وبؤسها.

 

وتلك نبذها أهلها ومعها أبناؤها وصغارها، فمن سيعلوهم ويقوم بحقهم ويعطيهم الطعام والكساء واللباس، حسبنا وحسبهم الله ونعم الوكيل.

 

أينَكم أيها المسلمون؟! أيها المسؤولون، هل يهنأ لكم عيش وتفرحون ومن حولكم يتجرَّعون غصص الجوع؟! انظروا المحاويج والمعسرين، ما أكثر من أثقلتهم المتغيرات والخطوب وطحنتهم الأحداث والحروب فأصبحوا في فقر وبطالة وذل ومهانة.

 

وتشرد وغربة لا تأويهم البيوت، ولا يسعهم مكان، فأين نحن منهم؟! ألا نستحي من الله؟! أعطانا الكثير وأمرنا بإخراج القليل، كسانا وعافانا وآوانا، وهم يستجدون ولا مجيب.

 

كم متعفِّف بات خاليًا، وكم من آيسة ضائِقة بائسة استهواها الشيطان وحزبُه لفقرها وحاجتها وبكاء صغارها، والذئاب يريدون أن يفتكوا بعرضِها، أينكم يا مسلمون؟! الكثير من الأسر بيوتهم أوهى من بيت العنكبوت، الرياح تسقطها والمطر مصدَر بؤسها. لا يفرحون بالغيث؛ لأنه زوال بيوتهم، والله المستعان!

 

أينكم يا من بالملذات تفتخرون وتتنعمون ولها تنوِّعون؟! موائدكم متعدّدة، وبطونهم متيبّسة من خواها، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].

 

أيها المسلمون، مضتْ أكثرُ أيام شهركم وانقضتْ لياليه شاهدةً عليكم بما عملتم، وحافظةً لما أودعتم، تدعون يوم القيامة، يوم تجد كلُّ نفس ما عملتْ من خير محضرًا، فينادي ربُّكم سبحانه: «يا عبادي، إنما هي أعمالُكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه»؛ (أخرجه مسلم).

 

عباد الله، هذا هو شهركم، وهذه نهايته، ولربما يكون هذا الشهر آخرَ شهرٍ يصومه بعضُنا؛ فكم من مستقبلٍ لرمضان لم يستكمله! وكم من مؤمِّل بعود إليه لم يدركه! وتلك الأيام نداولها بين الناس.

 

فيا أيها المسلمون، ما أسرعَ مُرورَ الأيام وتعاقُبَها، وانقِضاءَ السنينَ وتلاحُقَها! وابنُ آدم يُنذِره يومُه وأمسُه، ويتعاقَبُ عليه بالعِبَر قمرُه وشمسُه! أين من كان معنا في العام الماضي؟! أصابَتهم سِهام المَنون المواضي {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس: 45].

 

ألا فاتَّقوا الله- رحمكم الله- واعلَموا أن المُوفَّقين لا تزيدُهم مواسِمُ الخيرات إلا اجتهادًا في العبادات، وحِرصًا على الأعمال الصالِحات، فإذا ما انقضَت المواسِمُ بقِيَت آثارُها في حياتهم وسُلوكِهم، يُتْبِعون الحسنةَ الحسنة، ويدرءُون بالحسنة السيئة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22].

 

فاغتنِموا- رحمكم الله- شريفَ هذه الأيام والليالي، وبادِروا بصالِح الأعمال قبل حُلول الآجال.

 

عباد الله، من كان منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرَّط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملًا صالحًا يشهد لكم به عند الملك العلَّام، وودِّعوه عند فِراقه بأزكى تحية وأطيب سلام.

 

فأين المُجِدُّ في آخر شهره؟! وأين المُشمِّرُ فيما بقي من عشره؟! وأين المُستعِدُّ ليوم حشرِه؟! وأين المُستدرِكُ لما فاتَ من نفَحَات دهره؟!

 

فرَحِمَ اللهُ امْرَأً بادرَ للاستِدراك في باقِي أيامه وساعاته، وندِم على ما سلفَ من تفريطه وإضاعاته، وعوَّض بحُسْن العمل ما فات من طاعاته، فما أقبح التقصيرَ في آخر العمر!

 

فتيقَّظ- رحمك الله- وانظُر بين يدَيك، واجعَل أمرَ الآخرة بين عينَيك، هذا شهرُك يشهَدُ لك أو يشهَدُ عليك؟!

 

ويا تُرى هل تعودُ عليكم أيامُه أو لا تعود؟! ويا تُرى من هو المقبولُ؟! ومن هو المردُود؟!

 

عباد الله، وإن من مظاهر جبر الخواطر في ختام شهر الإحسان وتوديعه بحسن الختام إخراج زكاة الفطر، حيث تأتلف القلوب، ويتعاطف الغني مع الفقير، وقد فرضت طهرة للصائم، وطعمة للفقراء والمساكين، وما اشتكى فقير إلا بقدر ما قصَّر الغني في إخراجها.

 

وزكاة الفطر واجبة على الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، ويستحب إخراجها عن الحمل في بطن أمه إذا نفخت فيه الروح، وهي من غالب قوت البلد تمرًا أو برًّا أو شعيرًا أو زبيبًا أو أقطًا أو أرزًا، ومقدارها صاع عن كل شخص؛ أي ما يعادل ثلاثة كيلو جرامات تقريبًا، ويجزئ عن هذه الخمسة كل حب يقتات في البلد: الأرز والذرة والدُّخْن وغير ذلك من الحبوب.

 

ويخرج الإنسان صدقة الفطر عن نفسه وعمن يقوم بالنفقة عليه، ومن فاته إخراجها في يوم العيد فإنه يخرجها بعده قضاء، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين.

 

عباد الله، وفي ختام هذه الليالي والأيام والساعات واللحظات الأخيرة المباركة من شهركم الكريم تلمسوا حاجات الفقراء والمساكين والأرامل واليتيم والعديم، اجبروا بخواطرهم برًّا وإحسانًا وموساةً وعطفًا ولطفًا.

 

أبذلوا ما في وسعكم في عونهم ومساعدتهم، أدخلوا السرور عليهم وعلى أهليهم وأطفالهم، وسدوا احتياجاتهم ومتطلباتهم وأغراضهم بالمال والتعاون والسعي والشفاعة.

 

أفيضوا عطاءً وجبرًا وكرمًا وإحسانًا إلى تلك الأسر التي يأتي العيد وهم في وجع وقهر وأنين.

 

أسْكِتُوا أنين الفقراء وحسراتهم ولو بالقليل مما تفضل الله عليكم.

 

امسحوا دموعهم واجبروا خواطرهم بأيديكم وتعاونكم ورحمتكم وبركم وإحسانكم.

 

وصلوا وسلموا.