بركة القرون المفضلة
فما من فقيهٍ نضجت ملكته، ولا مفسرٍ تضلع في دقائق التفسير، ولا محدّثٍ تشرّب علل الإسناد، إلا ووقف خاشعًا أمام عقولٍ كانت ترى بنور النبوة، وتتكلم على أثر الهداية.
ثمّة سِرٌّ عجيبٌ يسري في دروب الطلب، لا يكتشفه إلا من وطِئت قدماه شعابَ التخصص، واستوت له أدواتُ النظر، واشتدّت في يده عدّة التحرير والتحقيق، فكلما أوغل في تفاصيل الفنّ، وتعمّق في مسالكه، لاح له في الأفق مَعْلمٌ مهيب: الانجذاب الهادئ نحو منازع السلف، لا بدافع العاطفة، بل بقناعةٍ تتراكم مع كل مسألةٍ حرّرها، وكل خلافٍ تلمّسه.
في بدايات الطريق، يُفتَن الطالبُ برحابة الطرح الحداثي، ويُبهره بريق التحليل المنطقي، وتعدد الأقوال، وأناقة التعبير، حتى إذا طال به السبيل، وذاق مشقة التحرير، وباتت المدارسةُ شغله، وضبط الفهم همَّه، انجذب قلبه – بغير تكلّف – إلى هدوء القرون الأولى، وإلى عقلٍ نبت في ظلال النبوة، لا في ردهات الحداثة، وشبّ على نور الوحي، لا على أضواء الجدل.
يُبصر حينها أن تعظيم السلف ليس مجرد تدين تقليدي، بل ضرورةٌ منهجية، ومقياسٌ للسلامة العلمية، وأن ما يراه اليوم من نزاهة مقاصدهم، وعفّة منهجهم، وعمق إدراكهم، لا يُقارن بجهودٍ لاحقة تلوّنت بصراعات العصور وغبش المناهج.
كلما نضجت أدواته، ازداد خجله من تعليلات المتأخرين إذا خالفت ما استقر في عقول الأوائل، وكلما استبانت له طبقات الفهم، رَقّت في عينه المناهج الطارئة، وأدرك بفطرته قبل علمه أن السلف ما قالوا قولًا إلا وفيه من البرهان ما يُستمدّ من النور الأول.
فما من فقيهٍ نضجت ملكته، ولا مفسرٍ تضلع في دقائق التفسير، ولا محدّثٍ تشرّب علل الإسناد، إلا ووقف خاشعًا أمام عقولٍ كانت ترى بنور النبوة، وتتكلم على أثر الهداية.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان منكم مستنًّا، فليستنّ بمن قد مات، فإن الحي لا تُؤمن عليه الفتنة"؛ فتأدُّبك في العلم يبدأ عند أبوابهم، لا عند حواشي المتأخرين، ومن أراد السلامة، فليعد إلى الأساس، فإن ما بُني على النور لا تهدمه الأيام.
والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
- التصنيف: