الفُلكلور التعبدي
العشر الأُول من ذي الحجة ليست موسم استعراض، بل موسم استئنافٍ للعهد، تجديد للميثاق المنقوض في ليالي رمضان، وتصحيح للوجهة بعد أن تخثّر النبض خلف زخارف الطقوس.
ثمّة مشهد تعبّدي شعبيّ يتكرر كل عام مع قدوم رمضان، حيث يمتزج الإيماني بالاحتفالي، والشرعيّ بالموروث، فيُفتح للناس باب الإقبال لا من محراب النصوص فقط، بل من نوافذ الطقوس الجمعية: فانوس يُضاء، ومدفعٌ رمزيّ يصمت بعد أن كان يومًا يدوّي، ومائدة رمضانية تُعدّ وكأنها تُفطّر عامًا بأكمله، ومسحراتيّ يطوف الأزقّة، لا ليستحثّ النيام فحسب، بل ليوقظ فيهم ذاكرة الطفولة، وصدى الشهر المبارك.
وفي ظل هذا الزخم الجمعيّ، تنشط العزائم، وتتيسر العبادات، فيصوم الناس ويقومون، وكأن الجماعة تُسند الفرد، والجوّ يُلزم القلب. لكنّ تأمل الحال يوقفنا عند مفارقة لافتة: إذا كانت العشر الأواخر من رمضان تُشتعل فيها الأنوار، فإن العشر الأُول من ذي الحجة – وهي الأيام التي شهد لها النصّ بأنها “خير أيام الدنيا” – لا تحظى بذات التوهّج في الوجدان العام، ولا بذات التفاعل الشعائري. والسبب؟ أنّ عباداتها فردية، لا يواكبها صخبٌ جماعيّ، ولا تُرفع لها الرايات، بل تستبطن حضورًا خافتًا، لا يسمعه إلا من أنصت لنفسه.
وهنا يكمن السرّ: فالعشر الأُول من ذي الحجة ليست موسم استعراض، بل موسم استئنافٍ للعهد، تجديد للميثاق المنقوض في ليالي رمضان، وتصحيح للوجهة بعد أن تخثّر النبض خلف زخارف الطقوس.
إنها عشر البصيرة لا البهرجة، فيها تصوم النفس في وَضح النهار، وتُبصر حقيقة الدنيا من خلال مشهدٍ أخرويٍّ مُعجّل يُختصر في عرفات: خلوة جماعية في صعيدٍ واحد، تحت شمس واحدة، يتسابق الناس فيه إلى الله وكأنهم تجرّدوا من كل ما سواهم، وهذا هو الحج الأكبر لمن أبصر.
في هذه العشر، لا نطوف بأجسادنا، بل تطوف أفئدتنا بكعبة القرب، ونرتدي لا إحرام القطن بل إحرام النيّة والصدق، ونسعى بين صفا القرار ومروة التوبة، نبحث عن زمزم يروي ظمأ عامٍ كامل من التقصير والغفلة والركض بلا جهة.
وإذا كان ختام السنة الهجرية هو هذه العشر، فإنها المسك الذي تُعطر به الأيام، والغسل الأخير من أدران عامين، والمقام الذي سئل فيه النبي ﷺ عن صيام يومه الأعظم، فقال: يكفّر السنة الماضية والباقية، أي عبورٌ هذا الذي يغسل ما لم يقع بعد؟ وأي رحمة تلك التي تمحو الذنوب قبل أن تُكتَب؟
اللهم جدّد في قلوبنا الإيمان، كما يُجدد المطر الحياة في الأرض المقفرة، واجعل لنا من هذه العشر مقامًا إلى عرفات القلب، ووضوحًا في البصيرة، وثباتًا في الاستعانة، ونجاة من فتن الغرور والاكتفاء، وهب لنا توبةً تهدينا إليك، وتحرسنا من التيه في شعاب الهوى.
اللهم آمين.
- التصنيف: