عالَم مُفلس
جادت غزة بأرواح أبنائها لتكشف حقائق مفجعة، راودتنا حولها شكوك، وتطوعت أصوات شجاعة لفضحها.
حميد بن خيبش
جادت غزة بأرواح أبنائها لتكشف حقائق مفجعة، راودتنا حولها شكوك، وتطوعت أصوات شجاعة لفضحها. لكن الدم الفلسطيني سلط ضوءه الكاشف على زواياها المعتمة، لتعلن عن نفسها بكل فجاجة وقبح؛ منها على سبيل المثال:
- موقف النخب السياسية والفكرية والدينية من عملية طوفان الأقصى، ومن حرب الإبادة التي يواصل الكيان الصهيوني شنّها بدموية. وهو الموقف الذي توزّع بين الإدانة الصريحة، والعمالة، والصمت المخزي.
- تعرية الضمير السياسي العالمي، والكشف عن قبحه المتواري الذي تُسنده آلة إعلامية تدّعي الحياد والموضوعية، ومقاربات حقوقية تزعم المساواة وبناء السلم العالمي.
إنه عالم مفلس، بدليل أن السحر انقلب على ساحره، وأضحت المجتمعات الأوروبية والأمريكية، بل حتى الآسيوية التي اعتادت الحياد، تبدع في احتجاجها على المجازر اليومية بفلسطين، مثلما تبدع في غضبها على السردية الإعلامية التي شوهت حقيقة الإسلام والمسلمين، وتعمّدت الخلط بين ذريعة الإرهاب وواجب الدفاع عن قضية عادلة.
لم تكن الصورة أوضح مما هي عليه الآن، خاصة بعد أن تصدر القتل والتجويع والنزوح القسري نشرات الأخبار، مع تغيير يومي طفيف في الأرقام. وما من صاحب ضمير حي إلا وتتملك قلبه الحسرة والعجز إزاء غطرسة مدعومة بقوى غربية، وأجندات عربية تطمح للاستقرار والازدهار على حساب المبدأ والقضية.. وآلاف الجثث.
في كتابها المؤثر (الشرب من بحر غزة)، تعتبر الصحفية الإسرائيلية أميرة هاس أن الهجمة المستمرة التي يشنها جيش الاحتلال على المدنيين في غزة، سلّطت الضوء مجددا على التناقض الكامن في إسرائيل بين من يراها واحة للديموقراطية في صحراء الشرق الأوسط، ومن يعتبرها رمزا للظلم والحرمان. تلك الهمجية طالت تبعاتها مناطق العالم أجمع، إذ شهدت العواصم الغربية مسيرات واحتجاجات غير مسبوقة؛ إلى جانب التوتر الذي أججته حرب السرديات، مما أدى إلى فضح المعايير الدولية المزدوجة، وزيادة حدة الانقسامات الداخلية، وصعود تيارات اليمين المتطرف.
لقد عاين الجميع كيف ان القضية الفلسطينية التي سرت مزاعم بأنها صارت في طي النسيان، لا تزال قادرة على حشد المتعاطفين وتصدر النقاش الدولي، لأسباب أهمها:
- مشاعر الاستنكار العالمي ليوميات الإبادة الجماعية للأطفال والمدنيين العزل.
- التفاوت الواضح في موازين القوى العسكرية بين الجانبين.
- القناعة المتزايدة بغياب أفق سياسي لحل النزاع، خاصة بعد إعلان البدء بمسلسل التطبيع، وما يعنيه ذلك من إقبار نهائي لملف القضية.
وتحت عنوان (تفريط في الحماية وإفراط في القيود)، كشف تقرير أعدته منظمة العفو الدولية حول حالة الحق في التظاهر في 21 بلدا، عن نمط آخذ في التزايد، من القوانين القمعية، والملاحقات القضائية التعسفية، وانتهاك الخصوصية باستخدام تكنولوجيا المراقبة، مما يؤدي إلى تراجع الحق في التظاهر.
صرّحت أنياس كلامار الأمينة العامة للمنظمة، أنه في شتى أنحاء القارة العجوز تعمد السلطات إلى تشويه سمعة الأشخاص الذين يتظاهرون سلميا، ومعاقبتهم بصورة غير قانونية. وهي الأساليب التي باتت تثير الرعب بوضوح على نطاق القارة.
يتعلق الأمر حسب التقرير دائما، باستخدام مفرط للقوة ضد المتظاهرين السلميين، وتسجيل حالات اعتداء تصل حد التعذيب. كما سُجلت زيادة ملحوظة في استخدام تكنولوجيا التعرف على الوجه والمراقبة الجماعية بلا تمييز، إضافة إلى وصم المتظاهرين لنزع الشرعية عنهم، من قبيل "الإرهابيين" و"الفوضويين"، ووصف المظاهرات ب "مسيرات الكراهية".
ومع أن البلدان التي شملها التقرير صدّقت على جملة من الحقوق التي تضمن حرية التجمع السلمي، غير أنها فرضت قيودا جديدة لاستهداف المسيرات التضامنية مع فلسطين، وأنزلت عقوبات إدارية وجنائية، كما عرّضت الفئات المصنفة عرقيا إلى خطر العنف واللامساواة بدرجة أكبر، جراء مشاركتهم في هذه التظاهرات، مما يُكرس شبكة قمعية تستهدف التظاهر حول العالم.
وفي إحدى أسوأ التدخلات الحكومية بحق الجامعة، عمدت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تجميد الدعم الفيدرالي المخصص لجامعة هارفارد- 2،2 مليار دولار منح و60 مليون دولار عقود مخصصة-، وذلك على خلفية سماحها بقيام مظاهرات منددة بالعدوان الصهيوني على غزة، وهو ما اعتُبر تساهلا مع "معاداة السامية". وعبر منصته "تروث سوشيال" كتب ترامب:" هارفارد مهزلة، تعلّم الكراهية والحماقة، ويجب ألا تتلقى بعد الآن تمويلا فدراليا".
في الدعوى القضائية التي رفعتها إدارة الجامعة، تم اعتبار تجميد التمويل الفدرالي وسيلة ضغط للتحكم في صنع القرار الأكاديمي. وهو ما يعد برأيها انتهاكا للتعديل الدستوري، وللقوانين واللوائح الفيدرالية. ومع تصاعد المواجهة، يرى مراقبون أن سعي ترامب لبسط سيطرته الإيديولوجية على المؤسسة الجامعية يلقي بظلاله على فئة الطلاب الأجانب، والتي باتت عرضة للتضييق أو إلغاء التأشيرات تحت بند "معاداة القيم الأمريكية". وفي تصريح لوزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو أواخر الشهر الماضي، قال بأن الوزارة ألغت أزيد من 300 تأشيرة، وأنها مستمرة في البحث عن هؤلاء "المخبولين" كل يوم.
بالمقابل يؤمن عدد متزايد من الطلاب الأمريكيين بأن الدفاع عن فلسطين اختبار أخلاقي للعالم، رغم الإجراءات التأديبية التي طالتهم، وافتقارهم إلى الحماية، إلا أنهم حققوا إنجازات ملموسة، منها على سبيل المثال امتناع اتحاد طلاب الكليات والمعاهد التابعة لجامعة كاليفورنيا عن استثمار أمواله، التي تبلغ 20 مليون دولار، في أية شركة مدرجة على قائمة المقاطعة.
مما لاشك فيه أن غزة أحدثت تغييرا جذريا في البيئة الجامعية عبر العالم، حيث نشأت عن مئات التظاهرات مواءمة مع النضالات المحلية والدولية، وتحالفات متعددة الإثنيات والأعراق، مما يولّد شعورا بالانتماء لعالم جديد وغير مفلس، ويتحقق بفضلها ما قاله الشاعر محمود درويش يوما عن سيدة الأرض بأنها: أم البدايات وأم النهايات.
- التصنيف: