الدعوة والدعاة في بوروندي
محمد بن علي بن جميل المطري
وقد وفقني الله للذهاب إلى دولة بوروندي للإشراف على الدعاة والأئمة والمناظرين المكفولين من مؤسسة الشيخ عيد الخيرية القطرية ، وأحببت أن أدون باختصار بعض ما شاهدته
- التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة -
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، هو الكبير الأحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفؤا أحد .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون .
أما بعد :
فدولة بوروندي دولة أفريقية صغيرة تعد من منابع نهر النيل ، تقع غرب تنزانيا، وتطل على بحيرة تنجانيقا أطول بحيرة في العالم ، وهي أرض خضراء كثيرة الأنهار والأمطار والفواكه والخيرات ، ومع وقوعها على خط الاستواء إلا أنها معتدلة وليست شديدة الحرارة ، وكما أنها خصبة في أرضها فهي كذلك خصبة للدعوة ، دخلها الإسلام قريبا بواسطة التجار المسلمين لا سيما العُمانيين ، وفي نحو قرن من الزمان صارت نسبة المسلمين فيها نحو 20% ، ولا يزال أكثر أهلها نصارى إلا أنهم بفضل الله ثم بجهود الدعاة إلى الله صاروا يدخلون إلى الإسلام بكثرة لا سيما بعد انتهاء الحرب الأهلية التي لم يشارك فيها المسلمون، وكان موقفهم فيها محمودا .
وقد وفقني الله للذهاب إلى دولة بوروندي للإشراف على الدعاة والأئمة والمناظرين المكفولين من مؤسسة الشيخ عيد الخيرية القطرية ، وأحببت أن أدون باختصار بعض ما شاهدته وما اطلعت عليه من أخبار الدعوة والدعاة ؛ ليستفيد من هذه الأخبار من شاء الله من المسلمين الذين يهتمون بالدعوة ويحرصون على الخير، والله الموفق .
نشاط الدعاة
الأئمة متفاوتون في النشاط ، ونشاط كثير منهم لا يكاد يصدق ، الصلاة بالناس والتعليم لهم بعد كل صلاة ، وحلقة لتلقين القرآن بعد الفجر إلى الشروق ، وفي الصباح تدريس للطلاب قرآن ولغة عربية إلى الظهر ، وقبل العصر بساعة تعليم للقرآن ، وبعد العصر حلقة تعليم للنساء ، وبعد المغرب درس لجماعة المسجد ثم بعد صلاة السنة تعليم للمسلمين الجدد إلى صلاة العشاء أو حلقة مدارسة القرآن أو العلم الشرعي ، ثم بعد صلاة العشاء درس ، ومنهم من يقوم في الليل بزيارات للنصارى لدعوتهم إلى الإسلام ، ومنهم من يجعل الزيارات والدعوة الفردية الصباح وبعد العصر ، ومنهم من هو مدرِّس في مدرسة حكومية أو طالب في مدرسة أو جامعة ويقوم بما يمكنه من هذه الأعمال ، ويجعل من يخلفه عند غيابه مع القيام بالدعوة الفردية في المدرسة أو الجامعة ، ومنهم داعية يأخذ الميكرفون ويمر بالناس في الطرقات يدعوهم ويعظهم ولا يبالي بمن يعجب أو يضحك منه !!
وبعضهم قائم على عدة أنشطة في مساجد متعددة ، وبعضهم يتعاهد عدة مساجد بالخطبة وإلقاء المحاضرات للرجال وللنساء ، ومنهم من يتولى عقد النكاح للمسلمين وحل مشاكلهم ونحو ذلك ، وبعضهم إمام ومناظر يشارك في المناظرات لدعوة النصارى .
وأقلهم نشاطا الذي يكتفي بالتعليم بعد بعض الصلوات ، ومن وجدناه كذلك نصحناه بالتدريس بعد كل صلاة ، والمصلون في بوروندي يجلسون بعد الصلاة ويسمعون الدرس برغبة ، وليس عندهم عجلة للانصراف ، لكنا نوصي الأئمة بعدم الإطالة وأن لا يزيد الدرس لجماعة المصلين على خمس دقائق ، بخلاف الحلقة بعد الفجر وبعد المغرب لأنها ليست لجميع المصلين .
ومن أقلهم نشاطا الذي يقتصر نشاطه داخل مسجده ، ولا يهتم بدعوة الناس خارج المسجد ، ومن وجدناه كذلك نصحناه بالدعوة خارج المسجد خاصة للنصارى ، وأذكر أني سألت إماما عن عدد الذين دخلوا الإسلام على يديه خلال أسبوعين ، فلم يذكر أحدا ، فعاتبته على تقصيره ، وحثثته على دعوة النصارى وذكرت له بعض الأساليب ، ثم بعد أسبوعين التقيت به فبشرني أنه أسلم على يديه سبعة من النصارى منهم امرأة !!
سهولة إسلام النصارى في بوروندي
ما أسهل دخول النصارى إلى الإسلام في بوروندي ! في المناظرة الواحدة قد يعلن الدخول في الإسلام خمسة أو عشرة أو عشرون أو ستون أو مائة أو أكثر ، وفي إحدى المناظرات لم يدخل إلا واحد ، لكنه القسيس ومعلم النصارى في الكنيسة ، وقد أسلم بعد أن ذكر جميع شبهاته وأجاب عنها المناظرون ، وأثبتوا له بطلان النصرانية ، وإن لم يعلن الإسلام في تلك المناظرة أحد غيره ، إلا أن كثيرا من النصارى الذين حضروا تلك المناظرة ـ وهم نحو خمسمائة ـ تأثروا وإن شاء الله يسلم عما قريب من شاء الله له الهداية .
وكذلك ما أكثر من يدخل من النصارى إلى الإسلام بالدعوة الفردية ، وكنت في حلقة مع بعض الدعاة فسألتهم أن يخبرني كل واحد بعدد الذين دخلوا في الإسلام على يديه ، فأكثرهم قالوا : لا نستطيع التحديد لكثرتهم !! فقلت : اذكروا العدد بالتقريب ، فمنهم من ذكر ثلاثة ، ومنهم خمسة ، ومنهم عشرة ، ومنهم عشرون ، ومنهم خمسون ، ومنهم سبعون ، ومنهم من ذكر أكثر من مائة ، وقال أحدهم : نحن جماعة مناظرون دخل على أيدينا بالمناظرات أكثر من ألف وسبعمائة !!
وكثير من الأئمة معه سجل بأسماء المهتدين الجدد الذين أسلموا على يديه ، فيه أسماؤهم وأعمارهم وتاريخ إسلامهم ، وقد طلبنا من الجميع تسجيل ذلك مع ذكر رقم الهوية إن وجدت ورقم الهاتف ، ليسهل متابعة هؤلاء المسلمين الجدد ، والحرص على أن يلتحقوا بدورات المهتدين ليتعلموا ما يجب عليهم تعلمه من أركان الإيمان والإسلام وسورة الفاتحة وكيفية الوضوء والصلاة وغير ذلك .
معيشة الدعاة
من العجب أن الدعاة يقومون بذلك النشاط وهم في أشد الفقر والقلة ، فبوروندي من أفقر دول العالم ، وأكثر الناس فيها لا يجدون ثلاث وجبات في اليوم ، يكتفون بوجبة أو وجبتين وقد لا يشبعون في الوجبة ، وأخبرني بعض الدعاة المشهورين بالنشاط في العاصمة بوجنبورا أنه أحيانا يمر عليه يوم لا يجد ما يأكل ، واتصل علي أحد الدعاة ليسأل عن الرواتب التي وعدتهم بها مؤسسة عيد وأخبرني أنه ليس في بيته طعام !!
أدخلني أحد الدعاة إلى بيته فتفاجئت أن امرأته داخل البيت وعندها امرأتان من جيرانهم ، واستغربت منه كيف يدخلني بيته وامرأته داخل الغرفة وكانت محجبة ، ثم علمت أن بيته هو تلك الغرفة فقط ، فتلك الغرفة هي غرفة النوم وغرفة الضيوف وهي المطبخ والمخزن ، وليس لهم حمام خاص ، بل يوجد حمام واحد خارج البيت مشترك لجميع الجيران المستأجرين وهم تسعة بيوت مسلمون ونصارى !!
وسألت هذا الأخ الداعية عن قدر الإيجار فقال : الإيجار ب 50000 فرنك + 5000 فرنك للماء + 5000 فرنك للكهرباء = 60000 فرنك (40$) ، وراتبه 100000فرنك فقط (66$) ، ويبقى معه 40000 فرنك (26$) للمعيشة طوال الشهر !!!! وهذ الراتب عينه له أهل المسجد ، ولا يستطيع أن يزيد فيه شيئا سواء كان يكفيه أو لا يكفيه ، وقال لي هذا الأخ : أنا طلبت العلم لأعلم الناس ، ولن أترك الدعوة إن شاء الله سواء جاءنا مال أو لم يأت مال ، قد نجوع وقد نمرض ولكن نصبر وسيهل الله أمرنا إذا علم صدق قلوبنا !! كلمات مؤثرة من قلب أحسبه صادقا والله المستعان .
وأدخلني داعية آخر إلى بيته ، فوجدت امرأته مضطجعة على الموكيت من غير فراش ، فاستحت مني وجلست ، وفي يدها ولدها الصغير ، وأخبرني أنها حامل ، ورأيتهم يطبخون الطعام خارج الغرفة ( البيت ) عند الباب على الفحم ، حيث إن الغاز غالي جدا لا يشتريه إلا الأغنياء ، حتى في المطاعم يطبخون على الفحم ، وأخبرني هذا الأخ أنه تزوج قبل ثلاثة أشهر وعمره ثمان وثلاثون سنة ، وأن امرأته ثيب لها ولد من غيره ، وسألته عن الإيجار فقال : 40000 فرنك ، وراتبه 60000فرنك ، ويبقى معه 20000 فرنك ( 13$) لمعيشتهم طوال الشهر !!!
وقال لي : نحن في فقر شديد ، ولا أحد يرانا بعين الرحمة ، ولكن سنصبر !!!
وهذا الأخ هو الذي يترجم لي خطبي ومحاضراتي ، ومرة ذهبنا إلى مناظرة وأعطيته 2000 فرنك فاشترى له منها خمس حبات طماط ، وأنا اشتريت ست حبات أناناس لرخصة وأردت أن أعطيه ثلاث منها ، فلما أوصلنا صاحب التاكسي إلى بيته أولاً قلت له : خذ ثلاث حبات أناناس . ففرح فرحا عظيما ليطعم زوجته الحامل وأخذ حبتين فقط وكأنه يحمل كنزا إلى أهله ، فأعطيت الثالثة السائق النصراني ففرح بها ، وكنا قد دعوناه إلى الإسلام فوعدنا أن يفكر في الدخول في الإسلام بعد أن أعجب به .
ومرة اشتريت لي ولهذا الأخ المترجم عشاء لحما مشويا على حسابي ب 5000 فرنك في كيسين ، فأكل قليلا ثم أبقى البقية لزوجته وولدها !!
ومرة أعطيته 2000 فرنك أجرة الدراجة النارية ؛ لأنه جاءني إلى مكان بعيد ليترجم للناس درسا لي في المسجد ، فعلمت أنه مشى إلى أهله بعد صلاة العشاء بقدميه ولم يركب دراجة توفيرا لذلك المبلغ لمعيشتهم .
وأجرة العمال في بوروندي قليلة جدا ، فالحارس يعطى 30000 فرنك (20$) مع كونه يحرس البيت 24 ساعة ويقوم ببعض الأعمال في البيت كالنظافة أو فتح الباب للسيارة ونحو ذلك ، وحارس مركز الهداية الذي كنت أسكن فيه يعطى 50000 فرنك (33$) فقط منها يأكل !! وسألته بواسطة المترجم : هل تكفيه ؟ فقال : هو يرسل نصفها إلى أهله في القرية ، ويبقي نصفها الآخر لنفسه ، لكنه لا يأكل دائما ، قد يجد أكلا وقد يبقى بلا أكل !!!
والمدرس في كتاتيب القرآن راتبه ما بين 60000 إلى 100000 فرنك فقط ( 40$ إلى 66$) ، والمدرس في المدارس الحكومية راتبه في حدود 180000فرنك بالإضافة إلى بدل السكن والمواصلات ، فهم أحسن حالا ، وسألت مدرسا يدرس الأولاد في المسجد صباحا ومساء ويؤذن ويقيم المسجد : كم راتبه ؟ فقال : 50000فرنك فقط (33$) مع السكن في ملحق للمسجد ، ومعه زوجة وعدة أولاد !!
وسألت أحد مدرسي التحفيظ في المركز الإسلامي الليبي عن راتبه فقال : 60000فرنك ، وهو شاب أعزب مستأجر غرفة ب 35000 فرنك ، ويبقى معه 25000 فرنك (16$) لأكله طوال الشهر ، وسألته : كيف تكفيه ؟ فقال : يأكل وجبة واحدة الغداء فقط ، ولا يتعشى بل يشرب أي شيء وينام ، وكثيرا ما يرزقه الله فيدعوه غيره للطعام ؛ لكونه مدرسا للأولاد ومدرسا في الليل لأسرة في منزلهم ، ورأيته وقد اشترى دراجة هوائية جديدة ب 100000 فرنك ، فقال : إنه كان يدخر من راتبه حتى جمع قيمة الدراجة الهوائية .
والدراجة الهوائية في بوروندي كالسيارة النقل ، فالناس يستأجرون الدراجة ليوصلهم أصحابها إلى الأماكن التي يريدون الوصول إليها وإن كانت مسافة طويلة جدا ، ويحملون عليها الأثقال بشكل غريب، رأيت مرة دراجة هوائية عليها شخصان يحمل الراكب في يده شاة ، ومرة أخرى رأيت دراجة هوائية عليها بابا كبيرا من الخشب ، ومرة أخرى بابا كبيرا من الحديد ، ومرة رأيت عليها نحو أربعين دبة زيت فارغة سعة عشرة لتر !!
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف
الدعاة في بوروندي لا يظهرون فقرهم مع كونهم في أشد الفقر ، تجدهم يتكلمون ويضحكون ولا يظهرون الفاقة ، ومع أحدهم ثوبان أو ثلاثة من أفخم الثياب العربية يلبسونها ويحرصون على نظافتها ، وأكثرهم نعالهم حسنة من النعال الغالية الثمن ، ولكن آثار الفقر بادية على أبدان كثير منهم بسبب سوء التغذية (( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافا )) .
وكثير منهم أعزب لا يجد زوجة مع كون المهور رخيصة ، فمن يجد 400$ أو 500$ يستطيع أن يتزوج ، لكن من أين له هذا المبلغ ؟!
والتبرج في بوروندي كثير جدا ، فالنساء على النمط الفرنسي والغربي ، تفسخ وفجور وفتن كثيرة ، أخبرني أحد الدعاة العرب العاملين في بوروندي أنه مرة جاءه شاب يطلب المساعدة للزواج وهو يبكي ويقول : كاد أن يقع في الزنا !!
والحمد لله الصادق في وعده (( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله )) ، فكثير منهم يتزوج ولو بعد سن الثلاثين ، ومن يتصبر يصبره الله ، ومن يستعفف يعفه الله ، والله المستعان .
ذكاء الدعاة
الدعاة وطلاب العلم في بوروندي عندهم ذكاء ونباهة ، والأصل فيهم إجادة أكثر من لغة ، يتكلمون اللغة السواحلية ومعها اللغة الكيروندية أو العربية ، وما أكثر الذين يتكلمون الثلاث اللغات ، والذين درسوا في المدارس يتكلمون أيضا اللغة الفرنسية ؛ لأن المناهج المدرسية بالفرنسي ، وهي اللغة الرسمية مع الكيروندية ، وكثير منهم يجيد أيضا اللغة الإنجليزية ، فهذه خمس لغات يجيدها كثير من الدعاة ، وبعضهم يتكلم أكثر من خمس لغات ، وقليل الذين يتكلمون لغتين فقط !!
وجاءني أحدهم ليستفيد مني في القرآن ، فحددت له وقتا في المسجد ، فلما قرأ غيبا من عدة مواضع وجدته متقنا للقرآن أحسن مني ، فسألته : كم تراجع في اليوم ؟ فقال : كل يوم ستة أجزاء .
المساجد في بوروندي
كل مسجد له مسئولون من كبار السن والوجهاء ، وبعد كل صلاة يمر بعضهم بالصفوف لجمع التبرعات من المصلين والمصليات ، وغالبهم فقراء ولكن يتصدقون باليسير حتى يجمعون راتب الإمام والمؤذن وما يستمرون به في بناء المسجد ، فأحد المساجد في العاصمة له أربع سنوات وهو ما يزال يبنى شيئا فشيئا بما يجمعه المصلون ، ويصلون فيه وهو لم يكتمل بناؤه ، والإمام يصلي ويحمل الميكرفون في يده ليس معهم العمود الذي يركب فيه الميكرفون ، وقد رأيت هذا في أكثر من مسجد ، لأنهم يجدون قلة في المال فيحرصون على جمع المال للبناء ، ولا يهتمون بالكماليات ، حتى المسجد ليس مفروشا بفرش واحد ، بل عدة مفارش بالية وحصر مختلفة ، وما أكثر المساجد التي يصلي فيها المسلمون وهي ما زالت تبنى من تبرعاتهم ،وسيستمرون في البناء سنوات حتى ينتهون من المسجد إلا أن يوفق الله بعض المحسنين فينال الفضيلة بمساعدتهم .
وفي مسجد آخر في العاصمة خطبت فيه الجمعة وهو ما زال يبنى ، وليس فيه إلا أربعة مصاحف ليست جديدة ، وعندما كنت أخطب يراني المارة من خارج المسجد إذ ليس له باب ، وسقف المحراب ما زال طرابيل ، وبعد الصلاة قام الإمام يرغب المسلمين في الصدقة ، ورأيتهم يمرون بين الصفوف لمجمع التبرعات من الرجال والنساء ، والحاجز بين الرجال والنساء ستارة شفافة فقط ، والله أعلم كم سيبقون يجمعون إلى أن ينتهوا من البناء ؟!
وهذه المساجد في العاصمة فكيف التي في القرى؟! صلينا المغرب مرة في مسجد في قرية ، فرأيت المسجد غرفة فيها قطعة حصير وليس فيه نور ، وأخبروني أنهم استأجروا تلك الغرفة من أحد النصارى واتخذوها مسجدا ، وطلبوا مني 10000 فرنك (6$ ) لشراء ساعة للمسجد ليعرفوا أوقات الصلاة ، فأعطيتهم ذلك المبلغ من مال كان معي للدعوة ، والمؤسف أن في تلك القرية عدة كنائس ، ومنها كنيسة كبيرة جدا ، وعندما علم النصارى بخبر هذا المسجد بنوا بجواره كنيسة فخمة مبنية بالآجر الأحمر بينهما نحو عشرين مترا!!
وصلينا مرة في مسجد على الطريق ونحن مسافرون وليس فيه حمامات وفراشه غير مكتمل ، فأدخلني أحد المسلمين بيته للوضوء ، ثم جاء إمام المسجد فأخبرنا أنه علم أن هذا المسجد ليس له إمام فانتقل من بلده ليؤم المسلمين بمبادرة ذاتية من غير طلب من أحد جزاه الله خيرا ، وأخبرونا أن بعض العرب يأتي يصور هذا المسجد ويعِدونهم بإتمام بنائه ثم لا يعودون ، فلا بارك الله في المتلاعبين بأموال أهل الخير الذين يوهمون الناس أنهم يبنون المساجد التي يصورونها ثم يجمعون الأموال بزعم إكمال بنائها ويأكلونها ، ولا بارك الله في أموالهم التي يجمعونها بالحيلة والتزوير والكذب ، والله المستعان .
طريقة المناظرات
يقوم الدعاة المناظرون وهم نحو خمسة أو أكثر أو أقل بتحديد مكان المناظرة ،ويستأجرون مكبرات الصوت إن لم تكن معهم ، ويأتون بالقرآن العظيم ونسخ من الأناجيل ، ويعلنون عن المناظرة من قبل إقامتها بيوم أو يومين بواسطة أئمة المساجد وربما بالأوراق التي تعلق على الجدران ، وأحيانا بالإذاعة بأجرة يسيرة في إذاعة الدولة أو مجانا في إذاعة تابعة لأحد كبار المسلمين ، ويقومون أيضا بدعوة الناس بمكبرات الصوت للحضور.
ويكون المكان المهيأ فيه مجموعتان من الكراسي متقابلة ، يجلس في إحدى الجهات القارئ للإنجيل وبجواره أحد النصارى لإلقاء أسئلته والإجابة عن أسئلة المناظرين، فيتكلم أحد المتناظرين ويجيبه الآخر والناس حلقة متجمعون رجالا ونساء ، مسلمين ونصارى ، منهم الجالس وأكثرهم قائمون ، وإذا لم يجلس أحد النصارى للمحاورة يقيمون المناظرة بلا محاورة ، فالعادة أن الدعاة المناظرين يبينون ما في الأناجيل من كون عيسى عبد الله ، ويقرءون تلك النصوص من الإنجيل ، ويقرءون بعض الأشياء التي تبين بطلان عقيدة النصارى ، وغالبا تكون المناظرة يومي السبت والأحد ، ويُسلم بعد انتهاء المناظرة بعض النصارى الحضور ، ومن لم يسلم يشك في دينه الباطل ؛ لأنه يسمع الحقائق الواضحة ، ويكون الأثر أكبر عندما يعجز المناظر النصراني عن إنكار الحقائق ، لا سيما إن كان قسيسا ، وصدق الله إذ يقول : (( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون )) ، فالإسلام ظاهر حتى بين ظهراني النصارى وفي دولتهم ، ولا أحد يستطيع أن يقارع الإسلام بالحجة والبيان .
السلبيات في الدعوة والدعاة في بوروندي
- عدم توافر المطويات والكتيبات الصغيرة التي تعرف بالإسلام باللغة الكيروندية والسواحلية والفرنسية ليتم توزيعها على الناس ليعرفوا الإسلام وما يدعو إليه ، فالكنيسة توهم أتباعها أن القرآن كلام الشيطان ، وأن المساجد فيها الشياطين ، ومرة كنا مع سائق سيارة أجرة نصراني فكلمناه عن الإسلام فلم يكن يعرف شيئا عن الإسلام ، واستغرب من كون القرآن ذكر عيسى ومريم ، وطلب منا كتبا عن الإسلام ليقرأ عنه ويتعرف عليه أكثر ، ولكنا لم نجد ذلك !! حتى المركز الإسلامي ومنظمة الدعوة الإسلامية ليس عندهم كتب ليعطوا من يطلبهم فضلا عن أن يوزعوها بأنفسهم للناس في الشوارع والتجمعات ، وهذا نقص كبير جدا ينبغي تداركه ، والحمد لله توجد كتب باللغات المحلية لكن لا يوجد المتبرعون بطباعتها لتوزيعها مجانا .
- عدم تنسيق الجهود بين الجمعيات والمؤسسات الإسلامية العاملة في بوروندي ، فينبغي التعاون فيما بينها ليكون أثرها أكبر .
- التلاعب بالأموال الدعوية من بعض كبار المسلمين ، فعلى المؤسسات المانحة والجهات الداعمة أن تتأكد من وصول الأموال إلى أماكنها التي صرفت من أجلها ، فالمال فتنة هذه الأمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: : " لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال " ، فكما أن المرأة فتنة ولا أحد يأمن نفسه إذا خلا بها بلا محرم ، فكذلك لا أحد يأمن نفسه أن يخلو بمال الدعوة بلا رقيب ولا محاسبة ، فالأموال خضرة حلوة ، والنفس طماعة وأمارة بالسوء ، فعلى المؤسسات أن لا تكون فتنة للدعاة ، وأن تقطع عنهم طريق الشيطان الرجيم ، فتبعث المراقبين وتدقق في الحسابات , وتأخذ بسياسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ولاته وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : من أين لك هذا ؟! وهذا أقوم لأداء الأمانة وأبعد عن الريبة وآمن من الفتنة ، والله المستعان .
- اقتصار المناظرين على ما عندهم من معلومات قليلة في مناظرة النصارى ، ولذلك صارت المناظرات مكررة ، فعليهم أن يتزودوا من القراءة في كتب الرد على النصارى ومن أحسنها كتاب إظهار الحق لرحمة الله الهندي ، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وهداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم .
- عدم الاهتمام بمتابعة المسلمين الجدد ، ولذلك كثير منهم يسلم ثم يرتد ؛ لأنه لم يجد متابعة له من المسلمين ، مع مغريات الدنيا والشهوات ، وعداء أهله له ، وبعد المسلمين عنه ، وقد بدأت بعض المؤسسات بإنشاء مراكز المهتدين الجدد ، وهذ مشروع دعوي عظيم يحتاج إلى اهتمام وجهد ومال للاستمرار فيه ، فبعض مراكز المهتدين لم تقم فيها أي دورة للمهتدين الجدد مع كونها فتحت من قبل أكثر من خمسة أشهر ، ودفعت أموال كثيرة للإيجار وشراء الأسرة والفرش وغير ذلك !!
ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام
- الاختلاف بين الدعاة ، فعليهم أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ، ويتحلوا بالأخلاق الفاضلة عند الخلاف السائغ ، فأدب الخلاف من أهم المهمات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما عندما بعثهما داعيين إلى اليمن : " بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا ".
- التساهل في الاختلاط ، وتدريس الدعاة للنساء من غير حجاب ، وفي ذلك فتنة ، فينبغي أن لا يتأثر الدعاة بالمجتمع الذين يعيشون فيه ، بل يحرصوا على أمر النساء بالحجاب ، وليبدءوا بأنفسهم ونسائهم ، فكثير من المسلمات يتساهلن بالحجاب ويحسبن أنهن على الكمال ، بسبب المجتمع المتفسخ الذي يعشن فيه ، والتدريس من وراء حجاب أطهر للقلوب ، وآمن من الفتنة .
التوصيات والاقتراحات
- الاهتمام بالدعوة في بوروندي بجميع الأساليب المتاحة من توزيع الكتب والمطويات ، وإقامة المحاضرات والمناظرات ، وإرسال القوافل الطبية الدعوية ، وغير ذلك من الأساليب ، فهي أرض خصبة جدا للدعوة ، والحكومة الحالية متسامحة مع المسلمين ، فالأذان يرفع من المآذن ، والدعاة يتحركون بحريتهم ، والمناظرات تقوم بإذن الدولة ، فالبدار البدار.
- إنشاء مكتب لترجمة الكتب النافعة باللغة الكيروندية ، وليبدأ بترجمة معاني القرآن بالكيروندية ، إذ ليس هناك تفسير كامل باللغة الكيروندية ، بل الموجود تفسير جزء عم فقط !
- التنسيق بين جميع الجهات الإسلامية الدعوية والخيرية العاملة في بوروندي ، والتعاون فيما بينها لتحقيق أهدافها الدعوية والتعليمية والإغاثية .
- الحرص على متابعة المسلمين الجدد ، وتعليم المسلمين أمور دينهم ، وحثهم على دعوة غيرهم ، وقد بدأت بعض الجمعيات الخيرية بإنشاء مراكز المهتدين الجدد فينبغي دعمها وحث القائمين عليها على النشاط أكثر .
- الاهتمام الكبير بالقوافل الطبية الدعوية ، وإرسالها إلى المناطق البعيدة ، فيعالجون أبدان المرضى بالأدوية ، ويعالجون قلوبهم الغافلة بإدخالهم في الإسلام .
- الحرص على تحسين صورة لمسلمين أمام النصارى ، مثل ما قام به الشيخ علي السويدي مدير مؤسسة عيد الخيرية من زيارة المستشفى الحكومي في العاصمة بوجمنبورا ، والتبرع بدفع ما على جميع المرضى المسجونين من المسلمين وغيرهم الذين لم يتمكنوا من دفع أجرة المستشفى ، وكان عددهم كثيرا من الرجال والنساء ، وبعضهم كان مسجونا مدة طويلة لعجزه عن سداد 100$ أو50$ ، فكان لهذا العمل الطيب أثر عظيم في تحسين صورة المسلمين ، ونشروا هذا الخبر في التلفزيون المحلي والإذاعة المحلية .
- السعي في تحسين معيشة المسلمين عامة والدعاة خاصة ، بتوفير فرص العمل المناسبة لهم بإعانة الدارسين على إكمال الدراسات الجامعية أو تعليم غير الدارسين حرفة أو إعطائهم رأس مال لإقامة مشروع صغير أو كفالة الدعاة بمال مجزئ ليتفرغوا للأعمال الدعوية .
- تزويج المسلمين ، فالفساد كبير ، والمهور بحمد الله رخيصة ، مما يجعل المستفيدين من هذا المشروع شريحة كبيرة جدا ، فيقل الفساد ، ويتحصن الشباب ، ويكثر المسلمون ، ويرغب الناس في الدخول في الإسلام .
- الحرص على إكمال المساجد التي تبنى بجهود المسلمين الفقراء ، ولها عدة سنوات ولن يتم بناؤها بعد ، وهي أولى من بناء مساجد جديدة ، فالحاجة لها ماسة ، ولذلك يصلون فيها قبل انتهاء بنيانها ، فلعل الله يوفق من يقوم بمشروع إكمال المساجد التي تبنى منذ سنوات ، وإنما الأعمال بالخواتيم .