|5| {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا..}

أيمن الشعبان

{إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}

  • التصنيفات: التفسير -

|5| {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}

أيمن الشعبان

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ، وَبَعْدُ:

فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ مِنْ إِنْزَالِ الْآيَاتِ التَّدَبُّرُ وَالتَّفَكُّرُ وَاسْتِخْرَاجُ الدُّرَرِ وَالْمَكْنُونَاتِ، قال تعالى: {{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}} [ص:29].

يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/450): فَلَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ.

قال سفيان بن عيينة رحمه الله (زاد المسير في علم التفسير، 2/370): إِنَّمَا آيَاتُ الْقُرْآنِ خَزَائِنُ، فَإِذَا دَخَلْتَ خِزَانَةً فَاجْتَهِدْ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْهَا حَتَّى تَعْرِفَ مَا فِيهَا.

الْعَيْشُ مَعَ الْقُرْآنِ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ، وَنُورٌ لِلْبَصِيرَةِ، وَرُشْدٌ لِلطَّرِيقِ؛ فَمَا أَصْفَى الْأَوْقَاتِ وَأَبْرَكُهَا حِينَ يَخْلُو الْإِنْسَانُ بِكِتَابِ اللهِ، يَتَأَمَّلُ آيَاتِهِ الْبَاهِرَاتِ، وَيَتَدَبَّرُ أَعْظَمَ الْقَصَصِ وَأَحْسَنَهَا، فَيَسْتَشْعِرُ مَعِيَّةَ اللهِ وَرِعَايَتَهُ وَلُطْفَهُ وَكَرَمَهُ.

فَكُلُّ قِصَّةٍ فِي الْقُرْآنِ نَافِذَةٌ تُطِلُّ عَلَى أَعْمَاقِ الرُّوحِ، تَغْرِسُ مِنْ خِلَالِهَا جُذُورَ الْإِيمَانِ، وَتُبْنَى بِهَا الْأَخْلَاقُ وَالسُّلُوكُ الرَّاسِخُ، وَتَفْتَحُ لِلْقَلْبِ بِهَا آفَاقَ الْفَهْمِ وَالنُّورِ وَالطُّمَأْنِينَةِ.

قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)}

نخبرك -أيها الرسول- حين قال يوسف لأبيه يعقوب: يا أبت، إني رأيت في المنام أحد عشر كوكبًا، ورأيت الشمس والقمر، رأيت كل أولئك لي ساجدين، فكانت هذه الرؤيا عاجل بشرى ليوسف عليه السلام.. (المختصر في تفسير القرآن الكريم).

فوائد ووقفات وهدايات وتأملات:

1- مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَبْدَأُ قِصَّةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَسْتَمِرُّ أَحْدَاثُهَا إِلَى الْآيَةِ (101)، وَإِذَا تَأَمَّلْنَا بِدَايَةَ الْقِصَّةِ، وَجَدْنَا أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى ذَكَرَتِ الشَّخْصِيَّةَ الْمِحْوَرِيَّةَ فِي الْقِصَّةِ، وَأَشَارَتْ إِلَى أَهَمِّ الشَّخْصِيَّاتِ الْأُخْرَى، كَمَا لَمَّحَتْ مِنْذُ الْبِدَايَةِ إِلَى عَاقِبَةِ الْقِصَّةِ وَمَآلِهَا.

2- جَاءَ ذِكْرُ هَذِهِ الرُّؤْيَا فِي صَدْرِ الْقِصَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَدِّمَةِ وَالتَّمْهِيدِ لِمَقْصُودِهَا، وَهِيَ رُؤْيَا تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا بَشَائِرَ الْعِزِّ وَالرِّفْعَةِ وَالتَّمْكِينِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

3- الإِتْيَانُ بِظَرْفِ الزَّمَانِ "إِذْ" يَحْمِلُ دَلَالَةً عَلَى اسْتِحْضَارِ الْحَدَثِ وَتَصْوِيرِهِ فِي الذِّهْنِ، لِغَرَضِ الِاتِّعَاظِ وَالِاعْتِبَارِ، وَتَعْلِيقِ الْقَلْبِ بِمَوْضِعِ الْعِبْرَةِ وَالْفَائِدَةِ، كَأَنَّ الْمُتَلَقِّيَ يُشَاهِدُ الْوَاقِعَةَ وَهِيَ تَقَعُ.

4- فِي ذِكْرِ الرُّؤْيَا فِي صَدْرِ الْقِصَّةِ تَقْرِيرٌ لِفَضْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِشَارَةٌ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ طَهَارَةِ النَّفْسِ، وَزَكَاتِهَا، وَكَمَالِ الصَّبْرِ عَلَى مَا سَيَلْقَاهُ فِي مَرَاحِلِ الْابْتِلَاءِ.

5- ابْتِدَاءُ الْقِصَّةِ بِذِكْرِ رُؤْيَاهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هَيَّأَ نَفْسَ يُوسُفَ لِلنُّبُوَّةِ، فَبَدَأَهُ بِالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ.

6- جَعَلَ اللَّهُ تِلْكَ الرُّؤْيَا تَنْبِيهًا لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ، لِتَكُونَ طُمَأْنِينَةً لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، فَالإِرْهَاصَاتُ تَدُلُّ عَلَى مَا بَعْدَهَا، وَمَنْ اخْتَارَهُ اللَّهُ هَيَّأَ لَهُ السَّبِيلَ.

7- فِي الْآيَةِ بَيَانٌ لِشَفَقَةِ الْأَبِ عَلَى أَبْنَائِهِ، وَحِرْصِهِ عَلَى دَفْعِ مَا قَدْ يَسُوءُهُمْ أَوْ يُؤْذِيهِمْ، نُصْحًا وَرَحْمَةً بِهِمْ.

8- لَا تَجْعَلْ أَسْرَارَكَ الْكَبِيرَةَ وَالْمُهِمَّةَ إِلَّا عِنْدَ مَنْ تَثِقُ بِهِ، وَتَعْلَمُ صِدْقَ مَحَبَّتِهِ وَإِخْلَاصَ نُصْحِهِ.

9- احْرِصْ عَلَى إِخْبَارِ وَالِدَيْكَ بِمَا يَسُرُّكَ مِنْ أَحْوَالٍ وَأَخْبَارٍ، فإنَّ ذلكَ يَجلُبُ لهما السَّعَادَة..

10- يَنْبَغِي أَنْ تُبْنَى الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْأَبِ وَابْنِهِ عَلَى الثِّقَةِ وَالْأَمَانِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَلِذَلِكَ قَصَّ يُوسُفُ رُؤْيَاهُ عَلَى أَبِيهِ دُونَ إِخْوَتِهِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ قُرْبٍ وَأُلْفَةٍ.

11- نَتَعَلَّمُ مِنْ مَدْرَسَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْأَمَانِي وَالطُّمُوحَاتِ تَبْدَأُ بِحُلْمٍ، ثُمَّ تَتَحَوَّلُ إِلَى حَقِيقَةٍ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ.

12- اخْتِيَارُ اللَّهِ سَابِقٌ لِلْأَحْدَاثِ؛ فَالتَّمْكِينُ قَدْ يُبَشَّرُ بِهِ قَبْلَ الِابْتِلَاءِ، لِيَكُونَ زَادًا لِلصَّبْرِ.

13- مَلْجَأُ الْأَوْلَادِ بَعْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الْوَالِدَانِ، لِمَا يُهِمُّهُمْ فِي الْمَنَامِ أَوِ الْيَقَظَةِ.

14- مِنْ سُنَنِ اللهِ أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْدَقَ إِيمَانًا وَأَتَمَّ تَوْحِيدًا وَأَحْفَظَ لِحُدُودِ اللهِ، كَانَتْ رُؤْيَاهُ – فِي الْغَالِبِ – أَصْدَقَ وَأَقْرَبَ إِلَى أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ.

15- قَوْلُهُ لِأَبِيهِ هُنَا: {{يَا أَبَت}} ، فَقَدْ جِئَ بِيَاءِ النِّدَاءِ مَعَ أَنَّ أَبَاهُ قَرِيبٌ يَسْمَعُهُ حَاضِرٌ مَعَهُ، وَهَذَا يُظْهِرُ اهْتِمَامَهُ بِالْخَبَرِ، وَيَرْفَعُ مَنْزِلَةَ أَبِيهِ وَيُعَلِّي شَأْنَهُ، فَنَزَّلَ الْمُخَاطَبَ الْقَرِيبَ مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ الْغَائِبِ.

16- يَنْبَغِي أَلَّا يَتَرَفَّعَ الابْنُ عَلَى أَبِيهِ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {{يَا أَبَت}} وَهُوَ صَبِيٌّ، وَقَالَهَا أَيْضًا عِنْدَمَا أَصْبَحَ سُلْطَانًا: {يَا أَبَتُ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ}.

17- أَهَمِّيَّةُ الْحِوَارِ دَاخِلَ الْأُسْرَةِ، خُصُوصًا فِي اللَّحَظَاتِ الْمَفْصِلِيَّةِ.

18- {{يَا أَبَت}} ، فَالْأَنْبِيَاءُ أَبْرُّ النَّاسِ بِوَالِدَيْهِمْ، وَمِنْ تَمَامِ الْبِرِّ التَّلَطُّفُ فِي الْخِطَابِ. فَكُلُّ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ وَأَحْسَنَ التَّعَامُلَ وَالْخِطَابَ مَعَهُمَا، اقْتَرَبَ مِنْ خِصَالِ الْقُدْوَاتِ وَالْكِبَارِ.

19- وُجُوبُ الْأَدَبِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ وَالتَّلَطُّفِ لَهُمَا فِي الْكَلَامِ؛ فَقَوْلُهُ: {يَا أَبَت} يَحْمِلُ إِظْهَارَ الطَّوَاعِيَةِ وَالْبِرِّ.

20- رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، وَكَانَ تَعْبِيرُهَا مِنْ مُعْجِزَاتِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

21- فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الرُّؤْيَا شَرْعًا، وَمَشْرُوعِيَّةِ تَعْبِيرِهَا، وَأَنَّهَا مِمَّا يُعْتَدُّ بِهِ إِذَا كَانَتْ صَادِقَةً.

22- إِنَّ تَحَقُّقَ الرُّؤْيَا قَدْ يَتَأَخَّرُ أَيَّامًا، وَلَعَلَّهُ يَمْتَدُّ إِلَى سَنَوَاتٍ، كَمَا فِي رُؤْيَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

23- إِذَا خَصَّكَ ابْنُكَ بِأَسْرَارِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْكَ، وَأَنَّ أَمْرَهُ إلى خَيْرِ.

24- قَوْلُهُ تَعَالَى: {{إِنِّي رَأَيْتُ}} جَاءَ مُؤَكَّدًا بِـ "إِنَّ"، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ تَكْرَارِ الْجُمْلَةِ مَرَّتَيْنِ؛ لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِ الْخَبَرِ وَالرُّؤْيَا، وَتَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ يُوسُفَ الْغُلَامِ الصَّغِيرِ مِنْ صِحَّةِ رُؤْيَاهُ وَدِقَّتِهَا.

25- قَوْلُهُ تَعَالَى: {{إِنِّي رَأَيْتُ} } يَدُلُّ عَلَى فِطْنَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى عِنَايَتِهِ وَاهْتِمَامِهِ بِشَأْنِ تِلْكَ الرُّؤْيَا.

26- قَوْلُهُ تَعَالَى: {{إِنِّي رَأَيْتُ}} يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الرُّؤَى وَمَا لَهَا مِنْ تَأْثِيرٍ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ.

27- قَوْلُهُ تَعَالَى: {{إِنِّي رَأَيْتُ}} يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَصِّهِ لِلرُّؤْيَا، مِنْ غَيْرِ تَزَيُّدٍ وَلَا مُبَالَغَةٍ.

28- اسْتَشِرْ مَنْ تَتَوَسَّمُ فِيهِ مَحَبَّةَ الْخَيْرِ لَكَ، وَصِدْقَ النُّصْحِ وَالْمَشُورَةِ، وَلَا تَتَفَرَّدْ بِالِاجْتِهَادِ فِي حَلِّ مَا اسْتَعْصَى عَلَيْكَ؛ فَمَا غُمَّ عَلَيْكَ قَدْ يَنْجَلِي عِنْدَ غَيْرِكَ.

29- قَوْلُهُ تَعَالَى: {{إِنِّي رَأَيْتُ}} يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْمَشُورَةِ، وَعَرْضِ مَا قَدْ يُشْكِلُ عَلَى أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ.

30- قَوْلُهُ تَعَالَى: {{أَحَدَ عَشَرَ}} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْعَدَدِ، وَتَمْيِيزَ النَّوْعِ بِقَوْلِهِ: {{كَوْكَبًا}} ، وَبَيَانَ الْحَجْمِ بِقَوْلِهِ: {{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}} فِي الرُّؤْيَا، مِمَّا يُعِينُ عَلَى تَفْسِيرِهَا وَفَهْمِهَا.

31- أَخَّرَ ذِكْرَ "الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ" وَعَطَفَهُمَا عَلَى الْكَوَاكِبِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ تَنْبِيهًا عَلَى أَهَمِّيَّتِهِمَا وَفَضْلِهِمَا.

32- قَوْلُهُ تَعَالَى: {{رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَذَلِكَ بِحَسَبِ التَّفْصِيلِ الْمَعْرُوفِ فِي الْمَسْأَلَةِ.

33- مِنْ مَعَانِي الرُّؤْيَا الطُّمُوحُ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ؛ اطْمَحْ وَكُنْ صَاحِبَ هَمٍّ، وَلَكِنِ ابْذُلِ الْأَسْبَابَ الْمُمْكِنَةَ.

34- وُجُودُ الْأَبَوَيْنِ وَالْإِخْوَةِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَنِعْمَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ؛ فَإِخْوَتُكَ هُمُ الْكَوَاكِبُ فَاعْرِفْ قَدْرَهُمْ وَفَضْلَهُمْ وَمَنَزِلَتَهُمْ، وَأَبَوَاكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، لَا غِنَى عَنْهُمَا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.

35- قَوْلُهُ تَعَالَى: {{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}} يُظْهِرُ أَنَّ بِرَّ الْأُمِّ مُقَدَّمٌ عَلَى بِرِّ الْأَبِ، وَذَلِكَ لِمَكَانَتِهَا الْمُرْتَفِعَةِ.

36- قَوْلُهُ تَعَالَى: {{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}} يُظْهِرُ أَنَّ حَاجَةَ الصَّغِيرِ إِلَى أُمِّهِ أَشَدُّ مِنْ حَاجَتِهِ إِلَى أَبِيهِ، فَكَالشَّمْسِ تَمُدُّ الْخَلْقَ بِالْحَرَارَةِ وَالإِشْرَاقِ، تَمُدُّ الْأُمُّ وَلَدَهَا بِالدِّفْءِ وَالْحَنَانِ.

37- قَالَ ابْنُ الْقَيْمِ فِي بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ: لَمَّا تَمَكَّنَ الْحَسَدُ مِنْ قُلُوبِ إِخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أُرِيَ الْمَظْلُومُ مَآلَ الظَّالِمِ فِي مِرْآةِ: {{إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا}} .

38- الْعِبْرَةُ بِالْخَوَاتِيمِ؛ فَرُؤْيَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِخْوَتَهُ كَكَوَاكِبَ تَدُلُّ عَلَى حُسْنِ خَاتِمَتِهِمْ، وَأَنَّ أَمْرَهُمْ سَيَؤُولُ إِلَى خَيْرٍ.

39- إِذَا لَمْ يَكُنِ الْوَالِدُ مَلْجَأً آمِنًا لِلصَّغِيرِ عِنْدَ الْفَزَعِ، فَسَيَلْتَجِئُ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ لَا يُوَفَّقُ.

40- فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَلَّا يُهْمَلَ الصِّغَارُ وَلَا تُهْمَلَ رُؤَاهُمْ، فَقَدْ يَحْمِلُ ذَلِكَ نَفْعًا لِلْأُمَّةِ وَخَيْرًا عَامًّا، وَقَدْ يَرَى الصَّغِيرُ رُؤْيَا تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا أُمُورًا عَظِيمَةً، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَفَّهَ أَوْ يُزَجَرَ.

41- قَالَ: {إِنِّي رَأَيْتُ} وَقَالَ: {{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}} ؛ فَتَكْرَارُ الرُّؤْيَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا وَتَيَقُّنِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ.

42- قَوْلُهُ تَعَالَى: { {لِي سَاجِدِينَ}} ، فَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ إِنَّمَا لِإِظْهَارِ الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى التَّخْصِيصِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: "رَأَيْتُهُمْ سَاجِدِينَ لِي، لَيْسَ لِغَيْرِي".

43- تَأَمَّلُوا قَوْلَهُ: {{رَأَيْتُهُمْ} وَ{سَاجِدِينَ}} ؛ فَقَدْ اسْتُعْمِلَتِ الضَّمَائِرُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَقَلاءِ لِغَيْرِ مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إِلَى أَفْعَالِ الْعَقَلَاءِ، فَعُومِلَتْ مَعَامَلَتَهُمْ وَنُزِّلَتْ مَنَازِلُهُمْ.

 

26 جمادى الآخرة 1447هـ

17-12-2025م