المنهجية الصحيحة للوصول إلى الحكم الشرعي

منذ 2014-01-30
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. درستُ أبوابًا من الفقه على مذهب الإمام مالك -رحمه الله- وكثيرًا ما كانتْ تستوقفني جملة مِن الأقوال المخالفة للراجح من حيثُ الدليلُ فيما أرى، ولأتحلى بالموضوعية قمتُ بدراسة أصول مالك؛ لأعرفَ مآخِذ الإمام مالك التي استند إليها في فتاواه، وكثيرًا ما كنتُ أقف حائرًا بين تضارُب الأقوال، حتى في القواعد نفسها داخل المذهب مِن حيثُ النقلُ عن الإمام، والترجيح، وترتيب الأدلة؛ كتقديم القياس على خبر الواحد مثلًا، وأدركتُ أن الأمر سيطول لو أنني أكملتُ السير على هذا المنوال، وتنقضي الأعوام وقد لا يزول الإشكال، وقِسْ على ذلك أصول المذاهب الأخرى؛ خاصة وأني لا أنوي التخصُّص في هذا العلم، وغايتي هي الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي بدليله المعتَبَر بمنهجية وموضوعيَّة، دون تقليدٍ مذمومٍ، ودون تلاعُب بالشرع الكريم، بدعوى الاجتهاد، واتباع الدليل.

فما رأيكم في الاعتناء بمتن بلوغ المرام للحافظ -رحمه الله تعالى- حفظًا وشرحًا واشتغالًا؟ مع العلم بأن منطقتنا تفتقر إلى أهل علمٍ راسخين، يُستَنْجَدُ بهم في إزالة الإشكالات، وحلِّ المعضَلات.

الإجابة:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فشكر الله لك -أخي الكريم- حرصك على معرفة الحق في المسائل العلمية، وأُحب أن أقول لك: إن الواجب على المسلم اتِّباع كتاب الله -عزَّ وجلَّ وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا يجب عليه اتباع مذهب معيَّن منَ المذاهب الأربعة؛ قال الله -عَزَّ وَجَلَّ: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].

فإن كان الإنسانُ من أهل الاجتهاد، وله القدرة على معرفة الدليل، واستنباط الأحكام من الكتاب والسنة، فهذا لا يَجوزُ له التَّقليد، وإنَّما يعمل بِما تَرَجَّحَ عنده بالدَّليل الشَّرعي، وفقًا لما قرَّره الأئمةُ، وفي الغالب الأكثر سيُوافق أحد المذاهب المعروفة، ومن كان ليس له أهليَّة لمعرفة الأدلة الشَّرعيَّة، واستنباط الأحكام، فإنَّه يجوز له أن يسأل عما أُشكِل عليه مَن يثق في علمه، وورعِه؛ كما قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، كما يجوز له أن يُقَلِّد مذهبًا معيَّنًا، فإن ظَهَرَ له الحقُّ بالدَّليل الصحيح في مسألةٍ ما، فعليْهِ اتباعُه، وإن كان ذلك بخلاف قول المذهب الذي يتَّبعه؛ لأنَّه لا يَجوز العدولُ عن الحق إلى قولِ أحدٍ كائنًا مَن كان، ولا عُذرَ لأحد عند الله في اتِّباع قولٍ يعلم أنَّ الدليل ثابتٌ بخلافه.

قالَ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في "الفتاوى": "قد ثبتَ بالكتاب والسنَّة والإجماع أنَّ الله - سبحانه وتعالى - فَرَض على الخلق طاعتَهُ، وطاعةَ رسولِه -صلى الله عليه وسلم- ولم يُوجِبْ على هذه الأُمَّة طاعةَ أحدٍ بعينه في كل ما يأمر به، وينهى عنه، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان صِدِّيقُ الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول: "أطيعوني ما أطعتُ الله، فإذا عصيتُ الله، فلا طاعة لي عليكم"، واتَّفَقُوا كلُّهم على أنَّه ليس أحدٌ معصومًا في كل ما يأمر به وينهى عنه، إلَّا رسول الله صَلَّى الله عليه وَسَلَّم؛ ولهذا قال غيرُ واحد مِن الأئمَّة: كلُّ أحد من الناس يُؤخَذ مِن قوله ويتركُ، إلَّا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.

وهؤلاء الأئمة الأربعة -رضيَ الله عنهم- قد نَهَوُا النَّاسَ عن تقليدِهِم في كل ما يقولونه، وذلك هو الواجبُ عليهم؛ فقال أبو حنيفة: هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت؛ فمن جاء برأْيٍ خيرٍ منه قبلناه؛ ولهذا لما اجتمع أفضلُ أصحابه أبو يوسف بِمالكٍ، فسأله عن مسألة الصاع؛ وصدقةِ الخُضراوات؛ ومسألة الأجناس؛ فأخبره مالكٌ بِما تدلُّ عليه السنَّة في ذلك، فقال: رجَعتُ إلى قولك يا أبا عبدالله، ولو رأى صاحبي ما رأيتُ، لرجع إلى قولك كما رجعتُ.

ومالكٌ كان يقول: إنَّما أنا بشر أصيبُ وأخطئُ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة، أو كلامًا هذا معناه.

والشَّافعي كان يقول: إذا صَحَّ الحديث، فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيتَ الحُجَّة موضوعةً على الطريق فهي قولي.

وفي "مختصر المُزَني" لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه؛ قال: مع إعلامِية نَهيه عن تقليده، وتقليد غيره من العلماء.

والإمام أحمد كان يقول: لا تُقَلِّدُوني، ولا تُقَلِّدوا مالكًا، ولا الشافعيَّ، ولا الثوري، وتعلَّموا كما تَعَلَّمنا.

وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يُقَلِّد دينه الرجال، وقال: لا تقلد دينك الرجال؛ فإنهم لن يسلَموا مِن أن يغلطوا".

قال: "لكن منَ الناس من قد يعجِزُ عن معرفة الأدلَّة التفصيلية في جميع أموره، فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته، لا كل ما يعجز عنه مِن التفقُّه، ويلزمه ما يقدر عليه، وأما القادر على الاستدلال؛ فقيل: يحرُم عليه التقليدُ مُطلقًا، وقيل: يجوز مطلقًا، وقيل: يجوز عند الحاجة؛ كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القولُ أعدلُ الأقوالِ".

وقال شيخ الإسلام: "والاجتهاد ليسَ هو أمرًا واحدًا لا يقبل التَّجزيء، والانقسام؛ بل قد يكون الرَّجل مجتهدًا في فنٍّ، أو بابٍ، أو مسألةٍ، دون فنٍّ، وبابٍ، ومسألةٍ، وكل أحد فاجتهاده بحَسَبِ وُسْعه، فمَن نَظَر في مسألةٍ تَنَازَعَ العلماء فيها، ورأى مع أحد القولين نصوصًا لم يعلم لها معارضًا بعد نظر مثله، فهو بين أمرينِ:

إمَّا أن يَتَّبعَ قول القائل الآخر؛ لمُجَرَّد كونه الإمام الذي اشتَغَلَ على مذهبه؛ ومثل هذا ليس بحُجَّة شرعية؛ بل مُجَرَّد عادةٍ يُعارِضُها عادة غيْرِه، واشتِغال على مذهب إمام آخر، وإمَّا أن يَتَّبعَ القول الذي تَرَجَّحَ في نظره بالنُّصوص الدَّالَّة عليه، وحينئذٍ فتكون مُوَافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام، وتَبقَى النُّصوص سالمةً في حقِّه عن المعارض بالعمل، فهذا هو الذي يصلح.

وإنُّمَا تنزلنا هذا التنزُّلَ؛ لأنَّه قد يُقال: إن نظرَ هذا قاصرٌ، وليس اجتِهاده قائمًا في هذه المسألة؛ لضَعفِ آلة الاجتهاد في حقِّه.

أمَّا إذا قدر على الاجتهاد التَّامِّ الَّذي يعتقد معه أنَّ القولَ الآخرَ ليس معه ما يدفع به النَّص، فهذا يَجِبُ عليه اتِّباع النُّصوص، وإن لم يَفْعَلْ كان متَّبعًا للظَّنِّ، وما تَهوى الأنفس، وكان من أكبر العُصاة لله ولِرسولِه، بِخلاف مَن يقول: قد يكون للقول الآخر حُجَّةٌ راجحةٌ على هذا النَّصِّ، وأنا لا أعلمُها، فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتُكم بأمرٍ، فأْتوا منه ما استطعتُم" (صحيح البخاري) ، والذي تستطيعه منَ العلم والفقه في هذه المسألة قد دَلَّكَ على أنَّ هذا القول هو الرَّاجحُ، فعليكَ أن تَتَّبعَ ذلك، ثمَّ إن تَبَيَّنَ لك فيما بعد أنَّ للنَّصِّ مُعارضًا راجحًا، كان حكمُكَ في ذلك حُكْمَ المجتهد المستقلِّ إذا تَغَيَّر اجتِهادُه، وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تَبَيَّن له منَ الحق هو مَحمودٌ فيه، بِخلافِ إصراره على قولٍ لا حُجَّة معه عليه، وترك القول الذي وضحت حجته، أو الانتقال عن قولٍ إلى قولٍ؛ لمجرَّد عادةٍ واتِّباعِ هوًى، فهذا مذموم". اهـ مُختصرًا.

أما الاعتناء ببلوغ المرام فهو متنٌ عظيمٌ في بابه، وله شروحٌ منها: شرحٌ صوتيٌّ للعلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشرح المختصر لفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، وشرح الشيخ عطية محمد سالم -رحمه الله- والإفهام في شرح بلوغ المرام من أدلة الاحكام؛ للشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي، وشرح الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي.

وفقنا الله وجميع المسلمين لطلب العلم النافع والعمل الصالح.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 0
  • 0
  • 8,529

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً