معنى الرؤية في حديث: "رأيت ربي كشاب أمرد"

منذ 2013-03-27
السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سؤالي حول حديث رسولنا الكريم: "رأيتُ ربي كشابٍّ أمرد"؛ سؤالي: هل هذا الحديث صحيح أو مكذوب؟
فإذا كان صحيحًا فمِن علاماتِ أن يكون الحديثُ مكذوبًا هو مُخالفته للقرآن، ألم يقل الله عز وجل في كتابه العزيز: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]؟ وألم يقلْ ربنا تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]؟
أيضًا مِن علامات أن الحديث مكذوب مُخالفته للسنة النبوية الشريفة؛ فقد جاء في حادثة الإسراء والمعراج، كما عند الإمام مسلم قال: حدَّثنا ‏محمد بن بشار، ‏حدثنا ‏معاذ بن هشام، ‏حدثنا ‏‏أبي، ‏وحدثني ‏حجاج بن الشاعر، ‏حدثنا ‏عفان بن مسلم، ‏حدثنا ‏ ‏همام كلاهما ‏عن‏ ‏قتادة، ‏عن ‏عبد الله بن شقيق، ‏قال: قلتُ ‏لأبي ذرٍّ: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ لسألتُه، فقال عن أي شيء كنتَ تسأله؟ قال: كنتُ أسأله: هل رأيتَ ربَّك؟ قال ‏أبو ذر: ‏قد سألتُ، فقال: "‏رأيتُ نورًا".
فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذرٍّ أنه رأى نورًا، فلماذا لم يقلْ: رأيت شابًّا أمرد؟!
وإذا كان الحديثُ مكذوبًا، فلماذا صحَّحه ابنُ تيميَّة وجَمْعٌ من العلماء؟
الإجابة: الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فقبل أن أُجِيبك أيها الأخ الفاضل يجب عليك أن تفرِّق بين مسألتين، ولا تُدخِل إحداهما في الأخرى؛ وهما رؤية الله بالعين في الدنيا، وأنها مُستحيلة؛ كما قال: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، وقال صلى الله عليه وسلم: "تعلمون أنه لن يرى أحدٌ منكم ربه حتى يموت" [رواه أحمد، وأصحابُ السُّنَن]، وحديث أبي ذر الذي أشرتَ إليه: "نورٌ أنَّى أراه"، و"رأيت نورًا"، وحديث أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: "إن الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابُه النور - وفي رواية أبي بكر: النار - لو كشفه لأحرقتْ سُبُحاتُ وجهِه ما انتهى إليه بصرُه من خلقِه" [روى جميعَها الإمامُ مسلم]، وأن نفيَ تلك الرؤية لا ينافي أنها ثابتة للمؤمنين بالعينين في الجنة، وأنه حق، وأنهم يتلذذون بالنظر إلى وجهه الكريم، وأنَّ ذلك غاية النعيم، وأعلى الكرامات، وأفضل فضيلة؛ وقد أجمع الصحابةُ والتابعون ومَن بعدهم مِن أئمة الهدى على ذلك؛ واحتجوا بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22]؛ فقد تواترت الأحاديثُ على إثباتها عن أكابر الصحابة؛ كأبي بكر الصديق وأبي هريرة وأبي سعيد وجرير بن عبد الله وصهيب وابن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي موسى وأنس. روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذْ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: "إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تضامُّون في رؤيته"، وفي رواية عند البخاري: "إنكم سترون ربكم عيانًا".

المسألة الثانية: الرُّؤية القلبيَّة؛ أعني الرُّؤية المناميَّة، وهذه ثابتةٌ عند أهل السنة، وهي لا تُنافي معتقد أهل السنة في شيءٍ؛ أعني: نفي رؤية الله سبحانه وتعالى في الدنيا، فالمؤمنُ قد يرى ربَّه في المنام في الدنيا، وهي رؤيةٌ لا حقيقة المرئي - سبحانه وعز وجل - ومِن هذا القبيل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المسؤول عنه في الاستشارة، وفي غيره من الأحاديث الصحيحة؛ كحديث اختصام الملأ الأعلى الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، قال - أحسبه في المنام - فقال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلتُ: لا، قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدتُ بردَها بين ثديي - أو قال: في نحري - فعلمتُ ما في السماوات، وما في الأرض، قال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلتُ: نعم، في الكفَّارات، والكفارات المكث في المساجد بعد الصلاة، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، ومَن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان مِن خطيئته كيوم ولدتْه أمه، وقال: يا محمد، إذا صليتَ فقل: اللهمَّ إني أسألك فِعل الخيرات، وترْك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردتَ بعبادك فتنةً فاقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجاتُ إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام" [رواه أحمد، والترمذي عن ابن عباس].
فالحديثُ إذًا ليس خارجًا عن سياق الأحاديث الأخرى الواردة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو أيضا في الرؤية المنامية كما سنوضِّحه، وليس في الرؤية البصرية كما يفهم مِن عرض الحديث: "رأيتُ ربي كشابٍّ أمرد"؛ وكأنه في الرؤية البصرية، وهو ليس كذلك.
فيكون ما نُسِب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وقد ذكرتَه في استشارتك، من الأكاذيب التي يروِّجها أعداء السنة؛ فكلام شيخ الإسلام مسطور في أكثر كتبه، مصرح بنفي ما تقوَّل عليه، وما أكثر ما يُرمَى به شيخ الإسلام ابن تيمية من خصوم أهل السنة؛ توصلًا بهذا إلى الطعن في العقيدة الإسلامية؛ لأنه هو مَن نافح عن العقيدة الوسطى، وردَّ على عامَّة أهل الضلال؛ من فلاسفة، ومناطقة، ومتكلمين، وغلاة الصوفية، وغيرهم، فكثر أعداؤه في الله وحاسدوه، وسأنقل لك أخي الكريم بعضًا من درر الكلام لشيخ الإسلام؛ لتعلم صدق ما أقول، وإن كان يكفينا أن نقف موقف المانع مما قيل عنه مما يوهم أنه يقول بالرؤية البصرية، وأن الله سبحانه على تلك الصورة حتى يزحزحنا عنه نصٌّ من كلامه، ولك أن تعجبَ أخي الكريم - من أن ما رمي به شيخ الإسلام مما نقلتُه هنا قد حكم هو نفسه - أعني: شيخ الإسلام بكفر قائله - بل جعله أكفر من النصارى، ومن الحلولية والاتحادية، وأضل من أتباع الدجال، وسأنقل لك الكلام بطوله، لاشتماله على مسائل كبار في عقيدة أهل السنة، وإن كان نقل تصحيح حديث الشاب الأمرد عن أئمة هذا الشأن كالإمام أحمد؛ ليفرق بين الرؤيتين:
قال رحمه الله تعالى في "مجموع الفتاوى" (3/ 389 - 394): "وبالجملة؛ أن كل حديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه في الأرض، وفيه: أنه نزل له إلى الأرض، وفيه: أن رياض الجنة من خطوات الحق، وفيه: أنه وطئ على صخرة بيت المقدس؛ كل هذا كذبٌ باطل باتفاق علماء المسلمين من أهل الحديث وغيرهم.
وكذلك كل مَن ادعى أنه رأى ربه بعينيه قبل الموت، فدعواه باطلة باتفاق أهل السنة والجماعة؛ لأنهم اتفقوا جميعهم على أن أحدًا من المؤمنين لا يرى ربه بعيني رأسه حتى يموت، وثبت ذلك في صحيح مسلم، عن النوَّاس بن سمعان، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه لما ذكر الدجال قال: واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت".
وكذلك روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ أُخَر، يحذر أمته فتنة الدجال، وبيَّن لهم أن أحدًا منهم لن يرى ربَّه حتى يموت؛ فلا يظنن أحدٌ أن هذا الدجَّال الذي رآه هو ربه، ولكن الذي يقع لأهل حقائق الإيمان من المعرفة بالله، ويقين القلوب، ومشاهدتها، وتجلياتها؛ هو على مراتب كثيرة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان، قال: "الإحسان أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينِه؛ فإذا كان إيمانه صحيحًا، لم يَرَهُ إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص، رأى ما يشبه إيمانه، ورؤيا المنام لها حكمٌ غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل؛ لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق.
وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة أيضًا من الرؤيا نظير ما يحصل للنائم في المنام؛ فيرى بقلبه مثل ما يرى النائم، وقد يتجلَّى له من الحقائق ما يشهده بقلبه، فهذا كله يقع في الدنيا، وربما غلب أحدَهم ما يشهده قلبه، وتجمعه حواسُّه، فيظن أنه رأى ذلك بعيني رأسه حتى يستيقظ، فيعلم أنه منام، وربما علم في المنام أنه منام؛ فهكذا من العباد مَن يحصل له مشاهدةٌ قلبية تغلب عليه حتى تفنيَه عن الشعور بحواسه، فيظنها رؤيةً بعينه، وهو غالط في ذلك، وكل مَن قال من العباد المتقدمين أو المتأخرين: إنه رأى ربه بعيني رأسه؛ فهو غالطٌ في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان.
نعم؛ رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضًا للناس في عرصات القيامة؛ كما تواترتِ الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة؛ ليس دونها سَحَاب، وكما ترون القمر ليلة البدر؛ صحوًا ليس دونه سحاب".
ودين الله وسط بين تكذيب هؤلاء بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في الآخرة؛ وبين تصديق الغالية؛ بأنه يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل.
وهؤلاء الذين يزعم أحدُهم أنه يراه بعيني رأسه في الدنيا، هم ضلَّال كما تقدم فإن ضموا إلى ذلك أنهم يرونه في بعض الأشخاص إما بعض الصالحين، أو بعض المردان، أو بعض الملوك، أو غيرهم عظم ضلالهم وكفرهم، وكانوا حينئذٍ أضلَّ من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى بن مريم، بل هم أضلُّ من أتباع الدجَّال الذي يكون في آخر الزمان، ويقول للناس: أنا ربكم، ويأمر السماء فتمطر، والأرض فتُنبِت، ويقول للخربة: أخرجي كنوزَكِ فتتبعه كنوزها، وهذا هو الذي حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وقال: "ما من خلق آدم إلى قيام الساعة فتنةٌ أعظم مِن الدجال"، وقال: "إذا جلس أحدكم في الصلاة، فليستعذْ بالله من أربعٍ؛ ليقلْ: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال"؛ فهذا ادَّعى الربوبية، وأتى بشبهاتٍ فتن بها الخلق؛ حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت"؛ فذكر لهم علامتينِ ظاهرتينِ يعرفهما جميع الناس؛ لعلمِه صلى الله عليه وسلم بأن مِن الناس مَن يضل، فيجوز أن يرى ربه في الدنيا في صورة البشر؛ كهؤلاء الضلَّال الذين يعتقدون ذلك، وهؤلاء قد يسمون الحلولية والاتحادية؛ وهم صنفان: قوم يخصونه بالحلول أو الاتحاد في بعض الأشياء؛ كما يقوله النصارى في المسيح عليه السلام والغالية في علي رضي الله عنه ونحوه؛ وقوم في أنواع من المشايخ، وقوم في بعض الملوك، وقوم في بعض الصور الجميلة؛ إلى غير ذلك من الأقوال التي هي شر مِن مقالة النصارى، وصنف يعمون فيقولون بحلوله أو اتحاده في جميع الموجودات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات وغيرها كما يقول ذلك قومٌ من الجهمية، ومَن تبعهم مِن الاتحادية؛ كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني والبلياني وغيرهم.
ومذهب جميع المرسلين ومَن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتب: أن الله سبحانه خالق العالمين، ورب السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم، والخلق جميعهم عباده، وهم فقراء إليه، وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه؛ ومع هذا فهو معهم أينما كانوا؛ كما قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]؛ فهؤلاءِ الضلَّال الكفار الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه، وربما يعين أحدهم آدميًّا؛ إما شخصًا أو صبيًّا أو غير ذلك، ويزعم أنه كلَّمهم يستتابون؛ فإن تابوا، وإلا ضربتْ أعناقهم وكانوا كفارًا؛ إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم؛ فإن المسيح رسول كريم، وجيه عند الله في الدنيا والآخرة ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إنه هو الله، وإنه اتَّحد به، أو حلَّ فيه؛ قد كفَّرهم وعظم كفرهم، بل الذين قالوا: إنه اتخذ ولدًا؛ حتى قال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا . وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا . إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93] ؛ فكيف بمَن يزعم في شخصٍ من الأشخاص أنه هو؟ هذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن عليًّا رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت هو الله، وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار، وأمر بأخاديد خدتْ لهم عند باب كندة، وقذفهم فيها بعد أن أجَّلهم ثلاثًا ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفقت الصحابة رضي الله عنهم على قتْلِهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء" اهـ.
فتبيَّن لك رعاك الله أنه حكم بكفرِ مَن قال: إنه يرى الله في صورة شابٍّ أمرد، بل قال: إنه من أضلِّ الناس، وأغلظهم كفرًا، وأنه قول للحلولية والاتحادية؛ وهما فرقتان ناريتان خارجتان عن الثلاث والسبعين فرقةً، فهل يظن بعد هذا أنه يصحح الحديث؟

هذا، وقد وزاد الكلام بيانًا بما يدفع الالتباس في كتابه العظيم "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" (1/ 326، 327): "الإنسان قد يرى ربه في المنام، ويخاطبه، فهذا حق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثلما رأى في المنام؛ فإن سائر ما يرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلًا، ولكن لا بد أن تكون الصورة التي رآه فيها مناسبةً ومشابهةً لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده حقًّا؛ أتي من الصور وسمع من الكلام ما يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس". قال بعض المشايخ: "إذا رأى العبد ربَّه في صورةٍ، كانت تلك الصورة حجابًا بينه وبين الله، وما زال الصالحون وغيرهم يرون ربهم في المنام ويخاطبهم"، وما أظن عاقلًا ينكر ذلك، فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه؛ إذ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره، وهذه مسألة معروفة، وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين، وحكوا عن طائفة مِن المعتزلة وغيرهم إنكار رؤية الله، والنقل بذلك متواتر عمَّن رأى ربه في المنام؛ ولكن لعلهم قالوا: "لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام"، فيكونون قد جعلوا مثل هذا من أضغاث الأحلام، ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم، نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤيةً صحيحةً؛ كسائر ما يرى في المنام؛ فهذا مما يقوله المتجهمة، وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلفُ الأمة وأئمتها، بل ولما اتفق عليه عامَّة عقلاء بني آدم، وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى وإنما ذلك بحسب حال الرائي، وصحة إيمانه وفساده، واستقامة حاله، وانحرافه.
وقول مَن يقول: ما خطر بالبال، أو دار في الخيال، فالله بخلافه، ونحو ذلك؛ إذا حمل على مثل هذا، كان محملًا صحيحًا، فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله في نفسه مثل ذلك؛ فإنه ليس هو في نفسه مثل ذلك، بل نفس الجن والملائكة لا يتصورها الإنسان، ويتخيلها على حقيقتها، بل هي على خلاف ما يتخيله، ويتصوره في منامه ويقظته، وإن كان ما رآه مناسبًا مشابهًا لها؛ فالله تعالى أجل، وأعظم" انتهى.
وأما حديث الشاب الأمرد، فرواه الطبراني وغيره عن أم الطفيل، قالتْ: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رأيت ربي في المنام في صورة شاب موفر في خضر، عليه نعلانِ من ذهب، وعلى وجهه فراش من ذهبٍ"، وله ألفاظ كثيرة، جمعها شيخ الإسلام في كتابه "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" (7/ 150-390)، وهو بحث ماتع أثبت فيه الرؤية القلبية، ثم في آخره: "إذا تبين أن هذا كان في المنام، فرؤية الله تعالى في المنام جائزة بلا نزاع بين أهل الإثبات، وإنما أنكرها طائفة من الجهمية؛ وكأنهم جعلوا ذلك باطلًا، وإلا، فما يمكنهم إنكار وقوع ذلك" اهـ.
قال في "بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية" (7/ 195 إلى آخر البحث): "وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرح فيه بأنه رأى ذلك في المنام، وهذه الألفاظ نظير الألفاظ التي في حديث ابن عباس، قال الخلَّال أبو بكر المروزي، قال قرئ على أبي عبد الله شاذان: حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن محمدًا رأى ربه.. فذكر الحديث، قلتُ: إنهم يطعنون في شاذان؛ يقولون ما رواه غير شاذان، قال: بلى قد كتبته عن عفان عن رجل عن حماد بن سلمة عن قتادة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي"، وقال المروزي في موضع آخر: قلتُ لأبي عبد الله: فشاذان كيف هو؟ قال: ثقة، وجعل يُثبِته، وقال في هذا: يشنِّع به علينا؟ قلت: أفليس العلماء تلقته بالقبول؟ قال: بلى، قلتُ: إنهم يقولون: إن قتادة لم يسمع من عكرمة، قال: هذا لا يدري الذي قال، وغضب وأخرج إليَّ كتابه فيه أحاديث بما سمع قتادة من عكرمة، فإذا ستة أحاديث، سمعت عكرمة؛ حدثنا - أي: الخلال - بهذا المروزي عن أبي عبد الله، قال أبو عبد الله: قد ذهب مَن يحسن هذا، وعجب من قول مَن قال: لم يسمع، وقال: سبحان الله! هو قدم البصرة فاجتمع عليه الخلق، وقال يزيد بن حازم: رواه حماد بن زيد أن عكرمة سأل عن شيء من التفسير، فأجابه قتادة؛ أنبأ المروزي: حدثني عبد الصمد بن يحيى الدهقان: سمعت شاذان يقول: أرسلت إلى أبي عبدالله أحمد بن حنبل؛ أستأذنه في أن أحدث بحديث قتادة عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "رأيت ربي"، قال: حدث به، فقد حدَّث به العلماء، قال الخلال: أنبأ الحسن بن ناصح قال: حدثنا الأسود بن عامر شاذان: ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه جعدًا قططًا أمرد في حلة حمراء"؛ والصواب: "حلة خضراء"... إلى أن قال: قال القاضي يعني القاضي أبا يعلى في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات: وظاهر رواية إبراهيم بن هانئ يدل على صحته؛ لأن أحمد قال لأحمد بن عيسى في منزل عمه: حدثهم به، ولا يجوز أن يأمره أن يحدثهم بحديث يعتقد ضعفه لا سيما فيما يتعلق بالصفات، قال: وقد صححه أبو زرعة الدمشقي فيما سمعه من أبي محمد الخلال وأبي طالب العشاري وأبي بكر بن بشر عن علي بن عمر الحافظ وهو الدارقطني فيما خرجه في آخر كتاب الرؤية..
قال القاضي: "فظاهر الكلام من أبي زرعة إثباتًا لرجال حديث أم الطفيل، وتعريفًا لهم، وبيانًا عن عدالتهم"، قال: "وهو ظاهر ما عليه أصحابنا؛ لأن أبا بكر الخلال ذكر حديث أم الطفيل في سننه، ولم يتعرَّض للطعن عليه، وأخرج إليَّ أبو إسحاق البرمكي جزءًا فيه حكايات.. وأبلغت أن الطبراني قال: حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في الرؤية صحيح، وقال: "مَن زعم أني رجعت عن هذا الحديث بعد ما حدثت به فقد كذب"، وقال: هذا حديث رواه جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من التابعين عن ابن عباس، وجماعة من تابعي التابعين عن عكرمة، وجماعة من الثقات عن حماد بن سلمة، قال: وقال أبي رحمه الله: روى هذا الحديث جماعةٌ من الأئمة الثقات عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أسماءهم بطولها، وأخبرنا محمد بن عبيد الله الأنصاري: سمعت أبا الحسن عبيد الله بن محمد بن معدان يقول: سمعت سليمان بن أحمد يقول: سمعت ابن صدقة الحافظ يقول: "مَن لم يؤمنْ بحديث عكرمة؛ فهو زنديق"، وأخبرنا محمد بن سليمان قال: سمعت بندار بن أبي إسحاق يقول: سمعتُ علي بن محمد بن أبان يقول: سمعت البراذعي يقول: سمعتُ أبا زرعة الرازي يقول: "مَن أنكر حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي عز وجل"؛ فهو معتزلي، وسمعت علي بن أحمد بن مهران المديني قال: حضرت أبا عبد الله بن مهدي، وحضر عندنا جماعة فتذاكروا حديث عكرمة، وأنكره بعضهم، وكنت قد حفظتُه فحدَّثت به بطوله، فقام إليَّ أبو عبد الله، وقبَّل رأسي، ودعا لي، قال: وحدثنا محمد بن محمد بن الحسن، قال: حدثنا أحمد بن محمد اللخمي: سمعت محمد بن علي بن جعفر البغدادي، قال: سمعت أحمد بن محمد بن هانئ الأثرم يقول: سألت أبا عبدالله أحمد بن حنبل عن حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي".. الحديث؟
فقال أحمد بن حنبل: "هذا الحديث رواه الكبر عن الكبر عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم فمَن شكَّ في ذلك، أو في شيء منه؛ فهو جهمي لا تقبل شهادته، ولا يسلم عليه، ولا يعاد في مرضه"، قلت: "في هذه الرواية عن أحمد نظر"، وأنبأنا أحمد بن محمد بن عبد الله بن إسحاق: حدثنا محمد بن يعقوب: حدثنا أحمد بن محمد قال: حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال: "رأيت أبي يصحِّح هذه الأحاديث، ويذهب إليها، وجمعها، وحدثناها".
وروى بإسناده عن عبد الوهاب الورَّاق قال: سمعتُ أسود بن سالم يقول في هذه الأحاديث التي جاءتْ في الرؤية قال: "نحلف عليها بالطلاق والعتاق أنها حق".
قلت: قد جعل أحمد حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس الذي فيه: "في صورة شاب أمرد له وفرة"، هو الحديث المشهور عن ابن عائش الذي أرسله وأسنده، الذي فيه وضع الكف بين كتفيه عن معاذ، وفيه التصريح بأنه كان في المنام بالمدينة؛ فإن معاذًا لم يصلِّ خلف النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالمدينة، وحديث أم الطفيل المتقدم أيضًا يصرح بأنه كان في المنام، وحديث ثوبان مثل حديث معاذ؛ فيه أنه تأخَّر عن صلاة الصبح، وثَوْبَان لم يصلِّ خلفه إلا بالمدينة، مع أن السياقين سواء، وهذه الأحاديث كلها ترجع إلى هذه الأحاديث الأربعة؛ حديث أم الطفيل، وحديث ابن عائش عن معاذ، وحديث ثوبان، وحديث ابن عباس".
إلى أن قال: ".. وكلها - يعني: روايات الحديث - فيها ما يبيِّن أن ذلك كان في المنام، وأنه كان بالمدينة إلا حديث عكرمة عن ابن عباس، وقد جعل أحمد أصلهما واحدًا، وكذلك قال العلماء".
وقال: "... وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرَّح فيه بأنه رأى ذلك في المنام" انتهى.
ولعله بهذا العرض قد بان لك الفارق بين الرؤيتين البصرية والمنامية، وأن امتناع الأولى لا يعني امتناع الثانية؛ عقلًا، ولا شرعًا، وأن حديث الشاب الأمرد والذي صححه أئمة الحديث إنما هو في الرؤية المنامية، والله الموفِّق لسواء السبيل.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 14
  • 4
  • 53,727

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً