هل يشعر الأموات بنا؟
هل الأموات يشْعُرون بنا ويستمعون لدعواتنا؟ وهل يَشْعرون بالوَحْدة، وبوَحْشَة القبر؟ وهل تعود الأرواحُ إلى أجسادِهم بعد خروجِها قبل يوم البَعْث؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:
فإنَّ ما يتعلق بالبَعْث والنُّشور وأحوالِ البَرْزَخ وما يشعُر به الأمواتُ، وسماعهم مِن عدمه، وغير ذلك مِن الغيب الذي يجب الإيمانُ به، وترْك الخوض فيه إلا بدليلٍ شرعي صريحٍ من الكتاب أو السنة الصحيحة، وقد ثبت أن الأموات يسمعون كلام الأحياء؛ وهو قولُ أكثر العلماء، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن الميت: «
»، وبخطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لقتلى بدرٍ من المشركين -بعد أن ترَكَهُم ثلاثة أيامٍ-: « »، فسمع عمرُ قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، كيف يسمعوا، وأنى يجيبوا، وقد جيَّفوا؟ قال: « »، ثم أمر بهم فسحبوا، فأُلْقوا في قليب بدرٍ. (متفقٌ عليه)وأما تفصيلات ذلك السماع فلا نعرفه؛ لعدم ورود الأدلة في كيفية ذلك السماع؛ ولذلك قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله- لما سئل: هل الميت يسمع كلام زائره؟ فأجاب: "نعم يسمع الميت في الجملة"، ثم قال: بعد ذكر أدلة سماع الأموات: "فهذه النصوصُ وأمثالُها تُبَيِّن أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمعُ له دائمًا، بل قد يسمع في حالٍ دون حالٍ، كما قد يعرض للحي، فإنه قد يسمع أحيانًا خطاب مَن يخاطبه، وقد لا يسمع لعارضٍ يعرض له، وهذا السمع سمع إدراكٍ ليس يترتب عليه جزاءٌ". ا.هـ مِن مجموع الفتاوى (24/ 364).
والحقُّ الذي لا مراء فيه أنَّ الميتَ يشعُر ويسمع كلام الحي في الجملة، ولا يجب أن يكونَ السمعُ له دائمًا، بل قد يسمع في حالٍ دون حالٍ؛ كما قرَّره شيخُ الإسلام ابن تيميَّة.
وإن كنت أُذَكِّر الأخت الكريمة بأن العلمَ بشعور الميت وسماعه لغيره لا ينفع في شيءٍ غير الإيمان بذلك، والتصديق بخبر الصادق المصدوق، وعلينا - جميعًا - أن نشغلَ أنفُسنا بتعلُّم ما يُقَرِّبنا إلى الله، وجنته، ونعيمه، وما يُبعده عن غضب ربه.
وأما السؤال عما إذا كان الميت يشعُر بالوحدة، أو وحشة القبر؟
فالذي يظهر مِن عموم الأدلة -في هذا الباب- أن ذلك يختلف باختلاف الأموات؛ كما في حديث البراء بن عازبٍ الطويل: «لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، قال: « »، قال: ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}[الحج: 31]، قال: « ».
»، ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {وأما سؤالك: هل تعود الأرواح إلى الأجساد قبل يوم البعث؟
قال ابن القيم في "الروح" (ص: 74): "جعل الله -سبحانه وتعالى- لابن آدم معادين وبعثين يجزي فيهما الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
فالبعث الأول: مُفارَقة الروح للبدن، ومصيرُها إلى دار الجزاء الأول.
والبعث الثاني: يوم يرد الله الأرواح إلى أجسادها، ويبعثها مِن قبورها إلى الجنة أو النار". انتهى.
وقال في الفوائد (ص: 5): "وتأمَّل كيف دلَّت السورة - صريحًا - على أنَّ الله - سبحانه - يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى، فينعمه، ويعذبه، كما ينعم الروح التي آمنت بعينها، ويعذب التي كفرت بعينها". انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (24/ 365): "وأما قول القائل: هل تُعاد روحه إلى بدنه ذلك الوقت، أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره؟
فإن روحه تُعاد إلى البدن في ذلك الوقت؛ كما جاء في الحديث، وتعاد -أيضًا- في غير ذلك، وأرواح المؤمنين في الجنة كما في الحديث الذي رواه النسائي، ومالكٌ، والشافعي، وغيرهم: «
»، وفي لفظٍ: « »، ومع ذلك فتتصل بالبدن متى شاء الله، وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك، وظهور الشعاع في الأرض، وانتباه النائم.هذا وجاء في عدة آثارٍ: أن الأرواح تكون في أفنية القبور؛ قال مجاهدٌ: الأرواح تكون على أفنية القبور سبعة أيامٍ من يوم دفن الميت لا تفارقه، فهذا يكون أحيانًا، وقال مالك بن أنسٍ: بلغني أنَّ الأرواح مُرسَلةٌ تذهب حيث شاءتْ. والله أعلم". اهـ.
رَزَقَنا الله جميعًا صدق الإيمان بالغيب.
- التصنيف:
- المصدر: