أصلي وأصوم.. ولكني كثير الهموم

منذ 2016-11-16
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا شابٌّ في العشرين مِن عمري، أُصَلِّي وأصوم وأقرأ القرآن وأتصدَّق كثيرًا، وأذكُر الله تعالى، وأبتعد عن المُنْكَرات والمعاصي، المشكلة أني بعد كل ذلك أشعُر بالتعاسة، وأن أموري متعسِّرة، مع كثرة الهمّ والغمّ.

أفيدوني كيف أتخلَّص مِن هذه الهموم والغموم؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فعافاك الله أيها الابن الكريم مِن التعاسة، ورزقك السعادة والهناء.

وبعدُ، فإنَّ الفرَح والسرورَ وراحةَ البال وطيبَ الخاطر إنما تنبُع مِن قلبٍ متفائلٍ يرجو الله، ويتوقع الخير والتوفيق في أموره، وهو بابٌ مِن أبواب التوكُّل على الله سبحانه؛ أعني: التفاؤل بالخير، ولعلك تُدرك أيها الابن الكريم لماذا كان رسول الله يُعجبه الفأل الحسن، ويكره الطِّيرة؟

فالسرُّ في هذا: أن الفأل الحسن هو توقُّع الخير، وهو محضُ إحسان ظن بالله، كما أن التشاؤم إساءة ظن بالله - جل وعلا - وفي الحديث القدسي المخرَّج في الصحيحين يقول الله تعالى: «أنا عند ظنِّ عبدي بي»، وفي رواية في مسند أحمد: «إنْ ظنَّ بي خيرًا فله، وإن ظن شرًّا فله».

فانظُرْ - أيها الابن الكريم - كيف بيَّن الله تعالى أنه يُعامِل عبده على حسب ظنه به، ويفعل به ما يتوقعه منه مِن خيرٍ أو شرٍّ، فكلما كان العبدُ حسَن الظن بالله، حسن الرجاء فيما عنده، فإن الله لا يخيب أملَه، ولا يضيع عمله، فإذا دعا الله عز وجل يظن أن الله سيُجيب دعاءَه، وإذا أذنب وتاب واستغفر ظنَّ أن الله سيقبل توبتَه، ويقيل عَثْرَتَهُ، ويغفر ذنبه، وإذا عمل صالحًا ظن أن الله سيقبل عمله، ويجازيه عليه أحسن الجزاء، وهكذا في كل عمل يُحسن الظن بالله سبحانه وتعالى؛ فينشرح صدرُه، ويزول همُّه وغمُّه.

هذا، وأول السبُل العملية التي تُعينك على تخطِّي تلك التعاسة: صِدْقُ الضراعة إلى الله تعالى، فتدعوه وأنت مُوقنٌ بالإجابة؛ كما أمرنا النبيُّ عليه الصلاة والسلام.

ثانيًا: كن دائمًا متعلِّقًا بحسن الرجاء فيما عند الله تعالى، فهذا مِن مُقتضيات التوحيد؛ لأنه مبنيٌّ على علمك برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وحُسن التوكل عليه.

ثالثًا: من القوانين المهمة المؤثرة إيجابيًّا في النفس البشرية: قانون مفاده أنَّ الأفكار الإيجابية تستدعي مواقفَ إيجابية، كما أن الأفكار السلبية تستدعي مواقف سلبية، فدرِّب نفسك أيها الحبيب على كل إيجابيٍّ، وعلى الرغبة في الارتقاء واكتساب المهارات الاجتماعية، وكنْ على ثقةٍ مِن قدراتك في تحقيقه، مُستعينًا بالله تعالى.

رابعًا: لا تُقَلِّل من قدرتك، ولا تتوقفْ طويلاً أمام هواجس التعاسة والهم والغم التي تنتابك، بل تجاوَزْها، وحدِّدْ هدَفَك بوضوحٍ، وابذل الوُسعَ لتحقيقه، مُستمدًّا المددَ مِن الله، مستعينًا مستعيذًا به من نزغات الشيطان الرجيم.

وقد أشار الإمامُ ابن القيِّم - رحمه الله تعالى - إلى قوانين النفس التي أشرتُ إليها، والتي مفادها: أن الإنسان هو مَن يجلب التعاسة أو الفرح لنفسه، فتأمَّلْ كلامه في كتاب ''مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة'' (2/ 256): ''وقد يجعل الله سبحانه تطير العبد وتشاؤمه سببًا لحلول المكروه به، كما يجعل الثقة والتوكل عليه وإفراده بالخوف والرجاء مِن أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر المتطير به. وسرُّ هذا: أن الطيرة إنما تتضمَّن الشرك بالله تعالى، والخوف من غيره، وعدم التوكل عليه والثقة به، كان صاحبُها غرضًا لسهام الشر والبلاء، فيسرع نفوذُها فيه، لأنه لم يتدرَّعْ مِن التوحيد والتوكل بجُنَّةٍ واقية، وكلُّ مَن خاف شيئًا غير الله سُلِّط عليه، كما أن مَن أَحَبَّ مع الله غيره عُذِّب به، ومَن رجا مع الله غيره خُذِلَ من جهته، وهذه أمور تجربتُها تكفي عن أدلتها. والنفس لا بد أن تتطيرَ، ولكن المؤمن القويَّ الإيمان يدفع موجب تطيره بالتوكل على الله، فإن مَن تَوَكَّلَ على الله وحده كفاه من غيره؛ قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100]، ولهذا قال ابن مسعود: "وما منا إلا"؛ يعني: مَن يُقارب التطير، "ولكن الله يُذهبه بالتوكل"؛ انتهى.

خامسًا: قراءة القرآن بتدبُّر، مع الإكثار مِن الأذكار والأدعية التي تُذهب التعاسة والهمّ.

ومنها ما رواه أحمد في مسنده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما قال عبدٌ قط إذا أصابه هَمٌّ وحزَن: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بِيَدِك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدْلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سَمَّيْتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعلَ القرآنَ ربيع قلبي، ونورَ صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همَّه، وأبدله مكان حزنه فرحًا»، قالوا: "يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلمَ هؤلاء الكلمات؟" قال: «أجَل، ينبغي لمن سمعهنَّ أن يتعلمهنَّ».

في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكَرْب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم».

وفي رواية لمسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمرٌ - أي: نزل به أمر مهم، أو أصابه غم - قال ذلك».

وروى الترمذي، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا كربه أمرٌ قال: «يا حيُّ يا قيوم، برحمتك أستغيث»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمرُ رفَع رأسه إلى السماء، فقال: «سبحان الله العظيم»، وإذا اجتهد في الدعاء قال: «يا حيُّ يا قيوم».

أخيرًا اعلمْ أن الهمَّ والتعاسة تنتج عن ضيق الصدر، فعليك بأسباب شرْح الصدر؛ كالصدقة، وفِعْل المعروف، فإن لهما تأثيرًا عجيبًا في شرح الصدر، وذهاب همه وغمه، وقد عقد الإمامُ ابن القيِّم فصلاً في كتابه "زاد المعاد في هدي خير العباد" (2/ 22-26) في أسباب شرح الصدور، فقال: "فأعظم أسباب شرح الصدر: التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراحُ صدر صاحبه؛ قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].

فالهدى والتوحيدُ مِن أعظم أسباب شرْح الصدر، والشركُ والضلالُ مِن أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه، ومنها: النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نورُ الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويُوسعه ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور مِن قلب العبد ضاق وحرج، وصار في أضيق سجنٍ وأصعبه.

ومنها: العلم، فإنه يشرح الصدر ويُوسعه، حتى يكونَ أوسع من الدنيا، والجهل يُورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علمُ العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكلِّ علم، بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو العلمُ النافع، فأهلُه أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم قلوبًا، وأحسنهم أخلاقًا، وأطيبهم عيشًا.

ومنها: الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، ومحبته بكل القلب والإقبال عليه، والتنعُّم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد مِن ذلك، حتى إنه ليقول أحيانًا: إن كنت في الجنة في مثل هذه الحالة، فإني إذًا في عيش طيبٍ!

وللمحبة تأثيرٌ عجيبٌ في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا مَن له حِس به، وكلما كانت المحبةُ أقوى وأشد كان الصدرُ أفسحَ وأشرح، ولا يضيق إلا عند رؤية البطَّالين الفارغين من هذا الشأن، فرؤيتُهم قذى عينه، ومخالطتُهم حمى روحه.

ومِن أعظم أسباب ضيق الصدر: الإعراضُ عن الله تعالى، وتعلُّق القلب بغيره، والغفلة عن ذِكْرِه، ومحبة سواه، فإنَّ مَن أَحَبَّ شيئًا غير الله عذب به، وسجن قلبه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالًا، ولا أنكد عيشًا، ولا أتعب قلبًا، فهما محبتان:

محبة هي جنة الدنيا، وسرور النفس، ولذة القلب، ونعيم الروح وغذاؤها ودواؤها، بل حياتها وقرة عينها، وهي محبة الله وحده بكل القلب، وانجذاب قوى الميل والإرادة، والمحبة كلها إليه.

ومحبةٌ هي عذاب الروح، وغم النفس، وسجن القلب، وضيق الصدر، وهي سبب الألم والنكَد والعناء، وهي محبة ما سِواه سبحانه.

ومِن أسباب شرح الصدر: دوامُ ذِكْرِه على كل حال، وفي كل مَوْطِنٍ، فللذِّكْر تأثيرٌ عجيبٌ في انشراح الصدر ونعيم القلب، وللغفلة تأثيرٌ عجيبٌ في ضيقه وحبسه وعذابه.

ومنها: الإحسانُ إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه والنفع بالبدن وأنواع الإحسان، فإن الكريمَ المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرًا، وأنكدهم عيشًا، وأعظمهم همًّا وغمًّا، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح مثلاً للبخيل والمتصدِّق، كمثل «رجلين عليهما جنتان من حديد، كلما هَمَّ المتصدِّقُ بصدقة اتسعتْ عليه وانبسطتْ، حتى يجر ثيابه ويعفي أثره، وكلما هم البخيل بالصدقة لزمتْ كل حلقة مكانها ولم تتسعْ عليه»، فهذا مثل انشراح صدر المؤمن المتصدِّق، وانفساح قلبه، ومثل ضيق صدر البخيل، وانحصار قلبه.

ومنها: الشجاعة؛ فإن الشجاعَ منشرحُ الصدر، واسع البطان، متسع القلب، والجبان أضيق الناس صدرًا، وأحصرهم قلبًا، لا فرحة له ولا سرور.

ومنها - بل من أعظمها -: إخراجُ دغل القلب من الصفات المذمومة التي توجب ضيقه وعذابه، وتحول بينه وبين حصول البرء، فإنَّ الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرح صدره، ولم يخرجْ تلك الأوصاف المذمومة مِن قلبه، لم يحظَ مِن انشراح صدره بطائل، وغايته أن يكونَ له مادتان تعتوران على قلبه، وهو للمادة الغالبة عليه منهما.

ومنها: ترْك فُضول النظَر والكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم، فإن هذه الفضول تستحيل آلامًا وغمومًا وهمومًا في القلب، تحصره وتحبسه وتضيقه ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا الله، ما أضيق صدر مَن ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهمٍ! وما أنكد عيشه! وما أسوأ حاله! وما أشد حصر قلبه! ولا إله إلا الله ما أنعم عيش مَن ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهمٍ! وكانت همته دائرة عليها، حائمة حولها، فلهذا نصيب وافرٌ من قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13]، ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14]، وبينهما مراتبُ متفاوتةٌ، لا يحصيها إلا اللهُ تبارك وتعالى".اهـ مختصرًا.

وأسال الله تعالى أن يذهب عنك الهم والحزن والتعاسة.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 3
  • 0
  • 29,160

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً