المعاريض مندوحة عن الكذب - 2

منذ 2016-12-24
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين».

أحيانًا يَسألني بعضُ الناس: هل عملت الذنب الفلاني؟ فأتحرَّج عن الجواب، فلا أدري أأكذب وأجيب بالنفي وأصير كذابًا؟ أو أجيب بنعم وأصير من المجاهرين بالذنب؟

أحتاج إلى نصائحكم، وجزاكم الله خيرًا.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فبدايةً لا بد أن نُقَرِّر قاعدةً شرعيةً نرُدُّ الأمر إليها فيما سنَذْكُره لاحقًا - إن شاء الله - وهي: وُجوبُ ستر المسلم على نفسه، وأنه لا يُخْبِر أحدًا بما وَقَع فيه مِن معصيةٍ؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، مَن أصاب مِن هذه القاذورات شيئًا، فليستترْ بستر الله؛ فإنه مَن يُبْدِ لنا صفحته نُقِمْ عليه كتاب الله»؛ وهو ظاهرُ الدلالة على وجوب ستر المسلم في خاصة نفسه إذا أتى فاحشةً أو اقترف ذنبًا، وفي ذلك من الحِكَم الجليلة ما لا يكاد يخفى على أحدٍ، والتي منها: أن المعصية إذا استتر بها صاحبها لا تضر إلا به، وإن انتشرتْ أضرت بالمجتمع ككل؛ فالطبائعُ سراقةٌ، والحديثُ عن المعاصي يجرئ الآخرين عليها.

عن عائشةَ - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما ستر الله على عبدٍ ذنبًا في الدنيا، إلا ستر عليه في الآخرة»، وفي الصحيحين عن أبي هريرة، يقول: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل أمتي معافًى إلا المجاهرين، وإن مِن الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملاً، ثم يصبح قد سَتَرَهُ ربُّه، فيقول: يا فلان قد عملتَ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، فيبيت يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه»؛ والمجاهرُ: الذي أظهر معصيته، وكشف ما ستر الله عليه، فيحدِّث بها.


قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 487): "قال ابن بطالٍ: في الجهر بالمعصية استخفافٌ بحقِّ الله ورسوله وبصالحي المؤمنين، وفيه ضَرْبٌ من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تُذِلُّ أهلها، ومن إقامة الحدِّ عليه إن كان فيه حدٌّ ومن التعزير إن لم يوجبْ حدًّا، وإذا تمحَّضَ حق الله فهو أكرم الأكرمين، ورحمتُه سَبَقَتْ غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحْه في الآخرة، والذي يُجاهر يَفُوته جميع ذلك، وبهذا يُعْرَف موقع إيراد حديث النجوى عقب حديث الباب، وقد استشكلت مطابقته للترجمة مِن جهة أنها معقودةٌ لستر المؤمن على نفسه، والذي في الحديث سترُ الله على المؤمن.

والجواب: أن الحديث مصرحٌ بذم من جاهر بالمعصية، فيستلزم مَدْح مَن يستتر، وأيضًا فإنَّ سترَ الله مستلزمٌ لستر المؤمن على نفسه، فمَن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربَّه، فلم يستره، ومَن قصد التستر بها حياءً مِن ربه ومن الناس مَنَّ الله عليه بستره إياه".

أما إنْ سألك أحدٌ عن ذنبٍ، فلا يجوز لك أن تخبره، ولكن يجوز لك التعريض؛ وهو أن تقول كلامًا يُفْهَم منه شيءٌ، ويُقصد به شيءٌ آخر.

قال الإمام البخاري: باب المعاريض مندوحةٌ عن الكذب، وقال إسحاق: سمعتُ أنسًا: مات ابنٌ لأبي طلحة، فقال: كيف الغلام؟ قالتْ أم سليمٍ: هدأ نَفَسُه، وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أنها صادقةٌ.

و(مندوحةٌ): سعةٌ يستغني بها المسلم عن الاضطرار إلى الكذب.

فإذا سألك بعض الناس: هل عملتَ الذنب الفلاني؟ فقل مثلاً: وهل يعمل هذا مَن يخشى الله؟ أو تقول: أعوذ بالله من ذلك، أو عافانا الله وإياك، ونحو هذا من الكلام.

وروى البخاري في الأدب المفرد، وصحَّحه الألباني، قال عمر: "أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب؟!".

فإن لم تتمكنْ من التعريض، فيجوز لك الكذب إذا احتجتَ إليه للستر على نفسك؛ فقد جاء في "غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب" عند ذكر الأمور التي يُرَخَّص فيها في الكَذِب:  "فهذا ما ورَد فيه النص، ويُقاس عليه ما في معناه؛ ككذبه لستر مال غيره عن ظالمٍ، وإنكاره المعصية للستر عليه أو على غيره، ما لم يجاهر الغير بها، بل يلزمه الستر على نفسه، وإلا كان مجاهرًا".

وأسأل الله أن يغفرَ ذُنُوبنا، ويَسْتُرنا في الدنيا والآخرة.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 0
  • 0
  • 21,296

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً