هل في تقويم الأسنان مخالفة شرعية؟

منذ 2017-10-27

فتاة أسنانها العُلوية مُتقَدِّمة عن السُّفلية، وتُريد تركيب تقْويم للأسنان؛ حتى تعودَ للخلف، وتطبق الطواحين مع الأسنان، وتسأل: هل في هذا مخالفةٌ شرعية؟ وهل يتعارَض هذا الفعل مع قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}؟

السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاة أسناني العُلوية مُتقَدِّمة كثيرًا عن السُّفلية، ومَن حولي يَنصحني بتركيب تقويم للأسنان حتى تعود للخلف، وتطبق الطواحين مع الأسنان على بعضها (تركيب جسر)؛ فهل هذا فيه مخالفةٌ شرعية؟

أنا أُؤمن بقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وأخاف أن يكونَ في ذلك مخالفة شرعية.

وجزاكم الله خيرًا.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فزادك الله حرصًا وَوَرَعًا أيتها الابنةُ الكريمة، فمما لا شك فيه أن الإنسانَ مِن أحسن المخلوقات صورةً، وأبهاها مَنظرًا، بل هو أحسنُها على الإطلاق، فَجَعَلَهُ الله تعالى أكمل عقلاً وفهمًا وأدبًا وبيانًا؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 - 8]، أما آية سورة التين: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، فجسد الإنسان الظاهر لا ارتباط له بمقصد السورة، وإنما المعنى أن الله خلَقه على الفطرة السليمة، وهي: التوحيدُ واستحسانُ الحسن واستقباحُ القبيح؛ كقوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]؛ أي: دين الله، كما ورَد عن ابن عباس - وهو قولُ مُجاهد وعِكْرِمة أيضًا - في تفسيرِ قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، كما في تفسير الطبري، ومما يُؤَيِّد هذا ويُظهره الآية التي تليها: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5].

فإنه لو حُمل الرد أسفل سافلين على مصير الإنسان في أرذل العمر إلى نقائص قوته - كما فَسَّره كثير مِن المفسرين - لكان نبوُّه عن غرض السورة أشد، وليس ذلك مما يقع فيه تردُّد السامعين حتى يحتاج إلى تأكيده بالقسم، ويدُلُّ لذلك قولُه بعده: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}  [التين: 6]؛ لأنَّ الإيمان أثر التقويم لعقل الإنسان الذي يلهمه السير في أعماله على الطريق الأقوم، ومعاملة بني نوعه السالمين من عدائه مُعاملة الخير معهم، على حسب توافقهم معه في الحق، فذلك هو الأصلُ في تكوين الإنسان إذا سلم مِن عوارضَ عائقةٍ، ومِن ذلك ما يَعْرِض له وهو جنين، إما مِن عاهة تَلحقه لمرض أحد الأبوين، أو لفساد هيكله مِن سقطة أو صدمة في حمله، وما يعرض له بعد الولادة من داء مُعضل يعرض له يترك فيه اختلال مزاجه فيحرف شيئًا من فطرته كالحمق وغيره.

والذي نأخذُه مِن هذه الآية أنَّ الإنسان مخلوقٌ على حالة الفطرة الإنسانية التي فطر الله النوع ليتصفَ بآثارها، وهي الفطرةُ الإنسانية الكاملة في إدراكه إدراكًا مستقيمًا مما يتأدَّى من المحسوسات الصادقة؛ أي: الموافِقة لحقائق الأشياء الثابتة في نفس الأمر، بسبب سلامة ما تُؤدِّيه الحواس السليمة، وما يتلقَّاه العقلُ السليمُ مِن ذلك، ويتصرَّف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمين، بحيث لو جانبتْهُ التَّلْقينات الضَّالة والعوائد الذميمةُ والطبائع المنحرفةُ والتفكير الضار، أو لو تسلطتْ عليه تسلُّطًا ما، فاستطاع دفاعها عنه بدلائل الحق والصواب لجرى في جميع شؤونه على الاستقامة، ولما صدرتْ منه إلا الأفعالُ الصالحةُ.

ولكنه قد يتعثَّر في ذُيول اغتراره، ويُرخي العنان لهواه وشهوته، فترمي به في الضلالات، أو يتغلب عليه دُعاةُ الضلال بعامل التخويف أو الإطماع، فيُتابعهم طوعًا أو كرهًا، ثم لا يلبث أن يستحكمَ فيه ما تقلده، فيعتاده وينسى الصواب والرشد"؛ قاله العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير (30/424- 425).

وأكَّد هذا المعنى الدقيق حكيمُ الإسلام الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن (6/3932) قائلاً: "الحقيقةُ الرئيسيةُ التي تَعْرِضُها هذه السورةُ هي حقيقة الفطرة القويمة التي فَطَر الله الإنسان عليها، واستقامة طبيعتها مع طبيعة الإيمان، والوصول بها معه إلى كمالها المقدور لها، وهبوط الإنسان وسفوله حين ينحرف عن سواء الفطرة واستقامة الإيمان".

وقال (6/ 3933): "والتركيزُ في هذا المقام على خصائصه الروحية، فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة، ويحيد عن الإيمان المستقيم معها؛ إذ إنه من الواضح أن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين.

وفي هذه الخصائص الروحية يتجلَّى تفوُّق التكوين الإنساني، فهو مُهَيَّأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يَفوق مقام الملائكة المقرَّبين، كما تشهد بذلك قصة المعراج؛ حيث وقف جبريل - عليه السلام - عند مقام، وارتفع محمد بن عبدالله - الإنسان - إلى المقام الأسنى.

بينما هذا الإنسان مُهَيَّأ - حين ينتكس - لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوقٌ قطّ: {ثم رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5]؛ حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم؛ لاستقامتِها على فطرتها، وإلهامها تسبيح ربها، وأداء وظيفتها في الأرض على هدى، بينما هو المخلوق في أحسن تقويم، يَجْحَد ربه، ويرتكس مع هواه، إلى درَك لا تملك البهيمة أن ترتكسَ إليه.

{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] فطرةً واستعدادًا، {ثم رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه، وبينه له، وتركه ليختار أحد النجدين.

{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 6]: فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة، ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح، ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها، حتى ينتهوا بها إلى حياة الكمال في دار الكمال، {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6] دائم غير مقطوع".

هذا، وكونُ الإنسان أحسن مخلوقات الله صورة لا يُعارض ولا يَمنع التداوي لإعادة الحالة الطبيعيَّة للإنسان، كما لا ينافي - أقصد حسن خَلْق الإنسان - حكمةَ التفاوت في الجمال وفي سلامة الحواس بين الخلْق؛ فاللهُ سبحانه وتعالى يفعل ذلك لمحبته للشكر، فإنه تعالى يُحب أنْ يُشْكَر كما قال آدم صلى الله عليه وسلم لما عرضت عليه ذريته رأى فضلَ بعضهم على بعض، فقال: رب، لو سَوَّيت بينهم؟ قال: يا آدم، إني أحب أن أُشكرَ، يرى ذو الفضل فضله فيحمدني ويشكرني"؛ مصنف ابن أبي شيبة (7/ 190).

ووظيفةُ تقويم الأسنان هي إعادة الأسنان للحالة الطبيعيَّة، وإزالة العيوب التي تُسَبِّب تشوهًا للخلقة، وهذا بداهةً ليس تغييرًا أو تعديلاً لخَلْق الله، وإنما تحرم ما قُصد منها مجرد التزيُّن والتجمُّل كتفليج الأسنان وبشرها وما شابه.

والحاصلُ أيتها الابنة الكريمة أن عمليات التجميل نوعان:

• تجميلٌ لإزالة العيب الناتج عن حادثٍ أو غيره، أو إعادة العضو لحالته الطبيعية، وهذا لا بأسَ به، ولا حَرَج فيه؛ لحديث عَرْفَجَة بن أسعد: «أنه أُصِيبَ أنفُه يوم الكُلاَب في الجاهليَّة - يومٌ وَقَعَتْ فيه حربٌ في الجاهليَّة - فاتَّخَذَ أنفًا من وَرِق - أي: فضَّة - فأنتن عليه، فأمَرَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَتَّخِذَ أنفًا مِن ذَهَب»؛ رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وحسَّنه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل".

• والثاني: التجميل لزِيادة الحُسْن، وليسَ لإزالة العيب، فلا يجوز بل هو مُحَرَّم؛ لحديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلعن المُتَنَمِّصات، والمُتَفَلِّجات للحُسن، اللاَّتي يُغَيِّرْنَ خَلْق الله»؛ رواه البخاري، ومسلم.

ونسأل الله تعالى أن يوفقك لكل خير.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 4
  • 0
  • 31,567
  • Eman eldawi

      منذ
    عندي سؤال او استفسار كيف أستفسر

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً