إثبات صفة النور لله عز وجل
خالد عبد المنعم الرفاعي
علِمتُ أن مِن صفات ربِّنا تعالى أنه نورٌ، وأنه نورُ السماوات واﻷرض، فهل يَختلف معنى صفتِه (نور السماوات والأرض) باختلاف تفسير اﻵية في سورة النور؟!
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الأسماء والصفات -
قرأتُ كتابَ (صفات الله الواردة في الكتاب والسنة)؛ للشيخ علوي السقاف، وعلِمتُ أن من صفات ربِّنا تعالى أنه نورٌ، وأنه نورُ السماوات واﻷرض، فهل يَختلف معنى صفتِه (نور السماوات والأرض) باختلاف تفسير اﻵية في سورة النور؟!
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فهنيئًا لك أيها الابن الكريم قراءتُك في الأسماء والصفات، فالله تعالى وصَف نفسَه بكمالاتها وأشرفِ أنواعها، وما عُبِد الله بمثلِ معرفة عُلوِّها وجمالها وكمالِها الأعظمِ، وتَفرُّدِ الربِّ سبحانه بنُعوت جلاله وصفات كماله، وإن تدبُّر المؤمنِ معانيَها، وتحقيقَه العملَ بمقتضياتها، يجعل نفَسه مشرِقةً بنور الشريعة وضيائها، ويُباشر قلبَه بشاشةُ ما اشتمَلت عليه مِن صلاح القلب والبدن، بشرطِ أن يتلقَّاها صافيةً مِن مِشكاة النبوة، وما أجملَ ما قال شيخ الإسلام ابن القيِّم في كتابه "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص 317):
"والله سبحانه وتعالى دعا عباده إليه من هذا الباب - يَقصِد مطالعة المِنن والإحسان - حتى إذا دخلوا منه، دُعوا مِن الباب الآخر، وهو باب الأسماء والصفات الذي إنما يَدخُلُ منه إليه خَواصُّ عباده وأوليائه، وهو باب المحبِّين حقًّا، الذي لا يدخل منه غيرُهم، ولا يَشبَع مِن معرفته أحدٌ منهم؛ بل كلَّما بدَا له منه علمٌ، ازداد شوقًا ومَحبَّةً".
أما كونُ النورِ صفةً ذاتيةً لله عز وجل، وأنه سبحانه نورُ السماوات والأرض، وأن الله تعالى نورٌ - فدليلُ ذلك الكتاب والسُّنَّة، وتأمَّل ما سأَنقُله لكَ مِن كلام شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وهو يَنقُض كلامَ الرازيِّ في اعتراضه على أهل السُّنَّة في وصفِهم اللهَ تعالى بالنور؛ حيث حرَّف الرازيُّ الآية زاعمًا أن معناها: الله مُنوِّر السماوات والأرض، أو هادٍ لأهل السماوات والأرض، أو مُصلحٌ؛ قال: لأن كلَّ عاقلٍ يَعلَمُ أن الله ليس النورَ المنبسِطَ على الجدران.
فقال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بِدَعِهم الكلامية (5/ 486-493): "الله أخبَر أنه نورُ السماوات والأرض، وليس شيءٌ ممَّا ذكرتَه نورَ السماوات والأرض؛ فإن النارَ جُملةً وتفصيلًا؛ كالموجود في السُّرُج والمصابيح وغير ذلك، إنما يكون في بعض الأرض، أو بعض ما بين السماء والأرض، فضلًا عن أن تكون هذه النيران نورَ السماوات والأرض، وكذلك ضوء الشمس والقمر ليسا نورَ السماوات والأرض، وإن كانا موجودَيْنِ في بعض السماوات، ومُنوِّرَيْنِ لبعض الأرض، فإنَّا نَعلَمُ أن نورَ الشمس التي هي أعظمُ من نور القمر، ليس هو نورَ جميع السماوات والأرض، فإذا كانت هذه الأمور ليست نورَ السماوات والأرض، والله قد أخبَر أنه هو نورُ السماوات والأرض، لم يكن ظاهرُ كلامِه أنَّ الله هو هذه الأنوار، حتى يَجعَل ظاهرَ كلامِ الله باطلًا ومُحالًا وكفرًا وضلالًا بالبُهتان وتحريفِ الكلم عن مواضعه؛ بل لو كان الخطاب: الله هو النور الذي تَشهَدونه في السماوات والأرض، أو الله هو النور الذي في السماوات والأرض - لكان لكلامه وجهٌ، بل قال: هو نور السماوات والأرض، فالمحرِّف لهذه الآية ظنَّ أن مُسمَّى نور السماوات والأرض هي هذه الأنوار المشهودة المخلوقة مِن القمرين والنار، فاعتقَد أن ظاهرَ القرآن هو هذا الباطلُ.
الوجه الثاني: أنه قد ثبَت في الصحيحين عن ابن عباس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام مِن الليل: «اللهم لك الحمدُ أنت نورُ السماوات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمدُ أنت ربُّ السماوات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمدُ أنت قيِّمُ السماوات والأرض ومَن فيهنَّ» .
وهذا يقتضي أن كونَه نورَ السماوات والأرض، أمرٌ مغايرٌ لكونه ربَّ ذلك وقَيِّمَه، ومِن المعلوم أن إصلاحَ ذلك وهدايته، وجَعْلَه نيِّرًا، هو داخلٌ في كونه ربَّه وقَيِّمَه، فعُلِم أن معنى كونه نورَ السماوات والأرض غيرُ ذلك.
الوجه الثالث: أن الله قد قال في كتابه العزيز: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 68، 69] فقد أخبَر أن الأرض يوم القيامة تُشرق بنوره، وقال الإمام أحمدُ في الردِّ على الجَهْميَّة: نقول: إن الله لم يَزَل متكلِّمًا إذا شاء، ولا نقول: إنه قد كان لا يتكلَّم حتى خلَق كلامًا، ولا نقول: إنه قد كان لا يَعلَمُ حتى خلَق لنفسه عِلْمًا، فعَلِمَ، ولا نقول: إنه قد كان ولا قُدرةَ له حتى خلَق لنفسه قُدرةً، ولا نقول: إنه قد كان ولا نورَ له حتى خلَق لنفسه نورًا، ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمةَ له حتى خلَق لنفسه عظمةً، فقالت الجهميَّة لنا لَمَّا وَصَفْنا مِن الله هذه الصفات: إن زعمتُم أن الله ونورَه، واللهَ وقُدرتَه، والله وعظمتَه، فقد قلتُم بقول النصارى حين زعمتُم أن الله لم يزَل، ونورَه لم يزل وقدرتَه، فقلنا: لا نقول: إن الله لم يزَل وقدرتَه، ولم يزَل ونورَه، ولكن لم يزَل بقُدرته وبنورِه، لا متى قَدَرَ ولا كيف قَدَرَ، فكل ما له فهو في نفسه نورٌ، فإن إنارتَه على غيره فرعُ استنارته في نفسِه، ولهذا كان لفظُ النور يَقَعُ على الجواهر المنيرة، وعلى الأعراض القائمة بالمستنير بها أُخرى؛ قال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16]، فجعَل القمرَ نفسَه نورًا، وهو جوهرٌ قائمٌ بنفسِه، ويُقال لضوئه وضوء الشمس: نورٌ.
الوجه الرابع: أنه قد ثبَت في صحيح مسلم عن أبي ذرٍّ قال: سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربَّك؟ قال: «نورٌ أنَّى أَراه!».
وثبَت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعريِّ، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال: «إن الله لا ينام، ولا يَنبغي له أن ينامَ، يَخفِضُ القِسْطَ ويَرفَعُه، يُرفَعُ إليه عملُ الليل قبلَ عملِ النهار، وعملُ النهار قبلَ عملِ الليل، حِجابه النور - أو قال: النار - لو كشَفه لأَحرَقتْ سُبُحاتُ وجهِه ما أدرَكه بصرُه مِن خَلْقِه»، وقال عبدالله بن مسعود: "إن ربَّكم ليس عنده ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السماوات مِن نور وجهِه".
فقد أخبَر في هذا الحديث الصحيح أن له حجابًا من النور أو النار، وهذا ليس هو نورَ وجهه الذي لو كشف هذا الحجابَ، لأَحرَقتْ سُبُحات وجهِه ما أدرَكه بصرُه مِن خَلْقِه،: حدَّثنا محمدُ بنُ كثيرٍ أنبأنا سفيانُ عن عُبيدٍ المُكتِب عن مجاهدٍ عن ابنِ عمرَ، قال: "احتجَب الله مِن خَلْقه بأربعٍ: بنارٍ وظُلمةٍ، ونورٍ وظُلمةٍ"، وقال: حدَّثنا موسى بنُ إسماعيلَ عن حمَّادِ بن سلمةَ عن أبي عِمرانَ الجَوْني عن زُرارةَ بنِ أَوفَى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سأل جبريل: «هل رأيتَ ربَّك؟»، فانتفَض جبريلُ، وقال: يا محمَّدُ، إن بيني وبينه سبعين حجابًا مِن نورٍ، لو دنوتُ مِن أدناها حجابًا، لاحترَقتُ.
الوجه الخامس: أن كونه نورًا أو تسميته نورًا، مما لم يكن يُنازِعُ فيه قُدماءُ الجهمية وأئمَّتُهم الذين يُنكرون الصفاتِ؛ بل كانوا يقولون: إنه نورٌ؛ قال الإمام أحمدُ في الردِّ على الجهمية: وقُلنا للجهمية حين زعَموا أن الله بكلِّ مكانٍ، لا يَخلو منه مكانٌ، فقلنا لهم: أخبِرونا عن قول الله جل ثناؤه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، لِمَ تَجلَّى للجبل إذا كان فيه بزعمِكم؟! فلو كان فيه كما تَزعُمون، لَمْ يكن متجلِّيًا لشيءٍ هو فيه؛ لكنَّ الله تبارك وتعالى على العرش، وتَجلَّى لشيءٍ لم يكن فيه، ورأى الجبلُ شيئًا لم يكن رآه قطُّ قبلَ ذلك، وقلنا للجهمية: الله نورٌ، فقالوا: هو نورٌ كله، فقلنا: قال الله: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]، فقد أخبر جل ثناؤه أن له نورًا، وقلنا لهم: أخبِرونا حين زعَمتُم أن الله في كل مكان، وهو نورٌ، فلِمَ لا يُضيءُ البيت المُظلم مِن النور الذي هو فيه؛ إذ زعمتُم أن الله في كل مكان؟! وما بالُ السِّراج إذا دخل البيت المظلمَ يُضيءُ؟! فعند ذلك تبيَّن كَذِبُهم على الله".
ثم قال بعد ذلك (8/ 66-76): "... ويَتوهَّم بعضُ الناس أن هذه الأنوار قديمةٌ، لزعمِهم أنها مِن نور الله عز وجل؛ بل يقولون: إن هذه الأنوار هي الله، وهو – يقصد الرازيَّ - نَصَبَ الخلافَ مع مَن يقول ذلك، ولكن يَبقى كونُه نورًا مطلقًا، فلم يَذكُر إلا قولين؛ إما أن يكون هو هذا النورَ المحسوس، وإما ألَّا يكون نورًا بحالٍ، وكلا القولين باطلٌ؛ بل هو نورٌ، وله نورٌ، وحِجابه نورٌ، وإن لم يكن ذلك محسوسًا لنا، ولا حاجة في نَفْيِ كونِه هذا النورَ المحسوسَ إلى ما ذكَره من الأدلة، ولكن ضمَّنها نفيَ كونِه نورًا مطلقًا، وذلك باطلٌ، فنتكلَّم على ما ذكَره مِن الوجوه:
قوله في الوجه الأول: "لو كان نورًا في ذاته، لم يكن لهذه الإضافة فائدةٌ"، يقال له: هذا باطلٌ مِن وجوه؛ أحدها: أنه قيُّوم في نفسه، ومع هذا ففي الحديث: «أنت قيُّوم السماوات والأرض ومَن فيهنَّ».
الثاني: أنه قد سمَّى القمرَ نورًا بقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5]، ومع هذا يقال للقمر: نور الأرض.
الثالث: أن كلَّ ما كان موصوفًا بصفةٍ في نفسه - ولها تعلُّق بالغير - أنه يُذكَر اسمُه بإضافةٍ وبغير إضافةٍ، كما يقال: عالِمٌ، ويقال: عالِمُ الدنيا.
وقوله في الوجه الثاني: لو كان كونُه نورَ السماوات والأرض - يعني هذا الضوء المحسوسَ - لوجَب ألَّا يكونَ في شيء مِن السماوات والأرض ظلمةٌ البتَّةَ؛ لأنه تعالى دائمٌ لا يَزول، يقال: على هذا وجوه؛ أحدها: أن هذا بعينه يَرِد في تفسيرك؛ حيث قلتَ: مُنوِّر السماوات والأرض؛ بمعنى: المصلِح وهادي السماوات والأرض، فإن ذلك يَستلزمُ - على قياس قولكَ - ألَّا يكون فيهما شيءٌ من الضلالة أو الظلم والفساد، فما قلتَه في هذا يقال في ذلك.
الثاني: أن كونَه نورًا، أو له نورٌ، لا يوجِب ظهور ذلك لكلِّ أحدٍ؛ فإنه يَحتجبُ عن العباد كما سنَذكره في لفظ الحجاب.
الثالث: أن في تمام الحديث: «ولك الحمد أنت ملكُ السماوات والأرض ومَن فيهنَّ»، ومعلوم أن كونه مَلِكًا لا يُنافي أن يكون مِن عباده مَن جعَلهم ملوكًا، ويكون مُلكُهم مِن مُلكه، لا بمعنى أنه بعضُه، لكن بمعنى أنه بقُدرته ومُلكه، حصل مُلك العبدِ، وكذلك الربُّ والقيُّوم، وكذلك إذا كان هو نورَ السماوات والأرض، لم يَمنعْ أن يكون غيرُه مِن المخلوقات نورًا، وله نورٌ، إذا كان ذلك مِن نوره؛ بمعنى أنه بنوره حصَل ذلك، وحينئذ فهو نورُ السماوات والأرض، ولا يجب أن تَزولَ كلُّ ظلمةٍ؛ لأنه نفسَه لم يَحُلَّ في المخلوقات، وإنما يَلزَم هذا الجهميةَ الذين يقولون: إنه في كل مكان، كما ذكَر ذلك عنهم الأئمةُ - كالإمامِ أحمدَ وغيرِه - فأما أهلُ السُّنة الذين يقولون: إنه فوق العرش، فلا يَلزَمهم ذلك.
وقوله في الوجه الثالث: لو كان نورًا بمعنى الضوء، لوجَب أن يكون ذلك الضوءُ مُغنيًا عن ضوء الشمس والقمر، يقال: هذا إنما يَلزَم لو كان هو - أو نورُه الذي هو نورُه - ظاهرَ المخلوقات، فكان يُغني عن هذه الأنوار، أما إذا كانت هذه الأنوار حادثةً عن نوره المحتجِب عن العباد، لم يَلزَم ذلك.
وقوله في الوجه الرابع: أنه تعالى أزالَ هذه الشُّبهة بقوله: {مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35]، أضاف النور إلى نفسه، وإضافةُ الشيء إلى نفسه مُمتنعةٌ، يقال: هو نورٌ وله نورٌ، فإن اسمَ النور يقال للشيء القائم بنفسه كما سمَّى القمر نورًا، ويقال للصفة القائمة بغيرها، كما يقال: نورُ الشمس والقمر، وقد دلَّ الكتاب والسُّنة على أنه نورٌ، وله نورٌ، وحِجابه النورُ، فالمضاف ليس هو المضافَ إليه، وأيضًا فإن هذا يَلزَمُهم مثله، فإنه إذا فسَّر نورَ السماوات والأرض بأنه هادٍ، أو مصلحٌ، أو مُنوِّرٌ، لَزِمَ أن يقال: مَثَل هاديه أو مُصلِحه أو مُنوِّره، ومعلوم أن هذا باطلٌ، بل يقال: مَثَل هدايته أو إصلاحه أو تنويره، فيكون مُسمَّى النور المضاف ليس هو مُسمَّى النور المضاف إليه على كل تقديرٍ، فعُلِمَ أن هذا لا يَصلُحُ أن يكون دليلًا على صَرْفِ الآية عن ظاهرها، ولا على صحةِ التأويل، وأيضًا فهذا مثلُ اسمِه (السلام)؛ فقد ثبت في صحيح مسلم عن ثوبانَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرَف من صلاته استغفر ثلاثًا، ثم قال: «اللهم أنت السلامُ، ومنك السلامُ، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام»، فأخبَر أنه هو في نفسه السلامُ، وأن منه السلامَ.
وقوله في الوجه الخامس: إنه تعالى قال: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، فبيَّن أنه خالقُ الأنوار، يقال: له وجوه؛ أحدها: أنه إذا أخبَر أنه جاعلُ الظلمات والنور، عُلِم أن النور المجعولَ هو الذي تُعاقبه الظلمات، فيكون هذا موضعَ هذا، وهذا موضع هذا، كما في نور النهار وظُلمة الليل، أما هو نفسه ونورُه، فذاك لا يُعاقبه ظلمةٌ تكون في مَحلِّه، فلا يدخل في هذا العموم.
الثاني: أن هذا يُرَدُّ عليه أيضًا، فإنه فسَّر النور بالهادي والمصلح والمنوِّر، فإن كان قوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، يَعُمُّ هذا النورَ المذكور في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] - لَزِمَ أن يكون قد جعَل نفسَه، وإن لم يَعُمَّ نفسَه، لم يَلزَم أن يكون خالقَ النور المذكور في هذه الآية.
الثالث: أنه من المعلوم أن الله عز وجل لَمَّا قال: إنه خالقُ كلِّ شيءٍ، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] - لم يَدخُلْ هو فيما خلَق من الأشياء، ولا فيما جعَل مِن الماء مِن الأحياء، ولا مِن الأنفس الذائقة للموت، مع أنه قد سُمِّي حيًّا ونفسًا، فكذلك لا يدخل في النور المجعولِ، وإن كان هو سبحانه وتعالى نورًا.
وقوله في الوجه السادس: إن النور يَزول بالظُّلمة، ولو كان تعالى هو عينَ هذا النور المحسوس، لكان قابلًا للعدم، يقال له: لا يقول مسلم: إنه عينُ هذا النور المحسوس، وليس هذا ظاهرَ الآية؛ كما قد بيَّنا.
وقوله في الوجه السابع: إن الأجسام متماثلةٌ، وهي مختلفةٌ في الضوء والظُّلمة، فيكون الضوءُ عَرَضًا قائمًا بالأجسام، يقال له: لا نزاعَ في أن الضوء الذي هو عَرَضٌ قائمٌ بالأجسام، يُسمَّى نورًا مثل شعاع الشمس المنبسطِ على الأرض، وكذلك ضوء القمر المنبسط على الأرض، وكذلك نور النار - كالسِّراج - القائم بالجدران، لكن النور يقال للعَرَض، ويقال للجسم أيضًا، فإن نفسَ النار تُسمَّى نورًا، فإنه إذا سُمِّي ضوءُ النار الذي يكون على الأرض والحيطان نورًا، فالنار الخارجةُ مِن الفتيلة - وهو جسمٌ قائمٌ بنفسه - أَولَى أن يكون نورًا؛ قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5]، فَسُمِّي هذا ضياءً، وهذا نورًا، مع العلم بأنه يقال: ضياء الشمس، ويقال: نور القمر، فعُلِمَ أن الاسم يتناول الجسمَ ويتناول العرَضَ، فعُلِم أن اسم النور في حق الخالق وحقِّ المخلوق، يقال للموصوف القائمِ بنفسه، ويقال للصفة القائمةِ به، ويقال لِما يَحصُل لغيره مِن نوره كالأشعَّة المنعكِسة، وقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35]، يتناول الأقسام الثلاثة؛ فإنه أخبَر أنه نورٌ، وأخبر أن له نورًا، وأخبر أنه كمِشكاةٍ فيها مِصباحٌ، ومعلوم أن المصباح الذي في المِشكاة له نورٌ يقوم به، ونورٌ مُنبسطٌ على ما يَصِل إليه من الأرض والجدران"؛ ا .هـ.
إذا عرَفتَ هذا أيقنتَ - سلَّمكَ الله - أن النور من أسماء الله الحسنى، ومن صفات الله تعالى الذاتية، وأن الاسم والصفة ثابتان بآية النور وغيرها من الآيات والأحاديث الصِّحاح التي ورَدتْ في النقل السابق عن شيخ الإسلام، وبتأمُّل النقلين يَظهَر لك بجلاءٍ أن أهل السُّنة مُتفقون على إثباتهما؛ أعني تسميةَ الله بالنور ووصفَه به؛ بل إن قُدَامَ المتكلِّمين الصفاتيَّة وغيرهم كانوا يُثبتونهما، خلافًا للمعتزلة الذين تأوَّلوا الآية بمعنى الهادي ونحوه، وما رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسَّرها بذلك، لم يَصِحَّ عنه.
أسألُ الله أن يُعلِّمَنا ما يَنفعنا، وأن يَنفعَنا بما علَّمنا، وأن يَزيدَنا عِلمًا.