هل يُذكر الحبيب محمد (صلي الله عليه وسلم) إذا خَدِرت الرِّجل؟

منذ 2018-09-19

إن هذه الروايةَ لا تصحُّ من جهة سندها، وعلى طريقة من يتساهل في جهالة الحال، والاكتفاء بالمعاصرة ولو لم يثبت اللقاء، فتبقى الرواية محلَّ شكٍّ لا يمكنهم إقامة الدليل على صحتها، ولو سلَّمنا بصحَّتها فلا يثبت فيها أن ابن عمر دعا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته

السؤال:

ورد عن ابن عمر في (الأدب المفرد) أنه إذا تخدَّرت قدمه ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- فهل هذا العمل مشروع؟

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فهذا الأثر رواه البخاري في "الأدب المفرد" (964) فقال: حدثنا أبو نُعَيم، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن سعد قال: خَدِرَت رِجلُ ابن عمر، فقال له رَجُل: اذكر أحبَّ الناس إليك، فقال: محمد.

وقد رواه ابن سعد في "الطبقات" (4/154) أيضًا من طريق شيخ البخاري أبي نُعَيم – واسمه: الفضل ابن دُكَين – عن سفيان – وهو الثوري – عن أبي إسحاق، به.

 

وتابع سفيانَ الثوريَّ على روايته له على هذا الوجه زهيرُ بن معاوية، فرواه عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن عبد الرحمن بن سعد، عن ابن عمر، به. أخرجه ابن سعد في "الطبقات" أيضًا، وإبراهيم الحربي في "غريب الحديث" (2/674)، والبغوي في "الجعديات" (2539).

ورواه شعبةُ، وإسرائيل بن يونس، وأبو بكر بن عياش، فخالفوا فيه سفيانَ الثوريَّ، وزهيرَ بن معاوية.

 

أما شعبةُ فأخرج روايته إبراهيمُ الحربيُّ في "غريب الحديث" (2/673) فقال: حدثنا عفان، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عمَّن سمع ابن عمر قال: خَدِرَت رِجلُه، فقيل: اذكر أحبَّ الناس، قال: يا محمد.

 

وأما إسرائيلُ فأخرج روايته ابنُ السني في "عمل اليوم والليلة" (170) فقال: حدثنا محمد ابن خالد بن محمد البردعي، ثنا حاجب بن سليمان، ثنا محمد بن مصعب، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الهيثم بن حنش، قال: كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فخَدِرَت رِجلُه، فقال له رَجُل: اذكر أحبَّ الناس إليك: فقال: يا محمد، قال: فقام، فكأنما نَشِطَ من عِقال.

 

وأما أبو بكر بن عياش فأخرج روايته ابن السني أيضًا (168) فقال: حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي وعمرو بن الجنيد بن عيسى، قالا: ثنا محمود بن خداش، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا أبو إسحاق السَّبيعي، عن أبي سعيد قال: كنت أمشي مع ابن عمر رضي الله عنهما، فخَدِرَت رِجلُه، فجلس فقال له رَجُل: اذكر أحبَّ الناس إليك، فقال: يا محمَّداه، فقام فمشى.

 

وأرجحُ هذه الطرق: روايةُ سفيان الثوري رحمه الله؛ لأمرين:

1 - أن سفيان لا يُدانيه في الحفظ أحدٌ ممن روى هذا الحديثَ عن أبي إسحاق.

2 - أن زهير بن معاوية قد تابع سفيانَ على هذه الرواية.

 

ولو لم نرجِّح رواية سفيان ومن وافقه، لأصبح الحديث مضطربًا؛ للاختلاف فيه على أبي إسحاق كما سبق.

ومع ذلك فرواية شعبة ضعيفةٌ لإبهام الراوي عن ابن عمر، وقد يكون هو عبد الرحمن بن سعد، والله أعلم.

ورواية إسرائيل لا تصحُّ عنه؛ ففي سندها محمد بن مصعب القَرْقَساني، وهو صدوق، لكنه كثيرُ الغلط، كما في "التقريب" (6302).

ومع ذلك فالراوي عن ابن عمر هو الهيثم بن حنش، وهو مجهول الحال، لم يوثَّق من إمام معتبر.

ورواية أبي بكر بن عياش فيها أبو سعيد الراوي عن ابن عمر، ولا ندري من هو؟ وقد يكون هو عبد الرحمن بن سعد، ومع ذلك فأبو بكر بن عياش مُتَكَلَّمٌ في حفظه، وفي "التقريب" (7985): « ثقة عابد، إلا أنه لما كَبِرَ ساء حفظُه، وكتابه صحيح »، ولم يتَّضح أن روايته هذه من كتابه.

 

ومادام الراجحُ هو رواية سفيان الثوري، فالكلامُ عليها من ثلاثة أوجه:

1 - الوجه الأول: النظر في صحة الرواية، وذلك بمعرفة حال عبد الرحمن بن سعد، وسماع أبي إسحاق السَّبيعي منه. 

 

أما عبد الرحمن بن سعد: فهو القرشي الكوفي مولى عبد الله بن عمر، وهو مجهول الحال – فيما أرى – لم أجد من وثَّقه، سوى ذكر ابن حبان له في "الثقات" (5/97)، وقاعدته معروفة في ذكر من لا يُعرف بعدالة ولا جرح في كتاب "الثقات".

 

وأما قولُ الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (6/168): « قلت: وقال النسائي: ثقة »، فأخشى أن تكونَ هذه عبارة النسائي التي قالها في الراوي الذي قبله، وهو عبد الرحمن بن سعد المدني الأعرج، فهو يشتبه معه في الطبقة، ولذا ذكر المزِّي في "تهذيب الكمال" (17/139-140) توثيقَ النسائي للمدني الأعرج، ولم يذكر توثيقه للكوفي مولى ابن عمر، ولم يعرفه يحيى بن معين، ففي "تاريخ ابن معين" رواية الدوري (2953): « سمعت يحيى يقول: الحديث الذي يروونه: خَدِرَت رِجلُ ابن عمر، وهو أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن سعد. قيل ليحيى: من عبد الرحمن بن سعد؟ قال: لا أدري ». شك العباس: سعيد، أو سعد.

 

وأما سماعُ أبي إسحاق السَّبيعي من عبد الرحمن هذا فلم أجده في شيءٍ من الكتب، ليس في هذه الرواية فقط، بل عنه مطلقًا، وأبو إسحاق موصوفٌ بالتدليس، وقد احتمل بعض الأئمَّة عنعنته لكن روايته هذه عنه تبعث على الرِّيبة بقرينة حاجتنا إلى ثبوت لقائه به في الجملة ولو مرَّة!!.

 

ولا تتقوَّى هذه الرِّواية بالرِّواية الأخرى التي أخرجها ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (169) فقال: حدثنا جعفر بن عيسى أبو أحمد، ثنا أحمد بن عبد الله بن روح، ثنا سلام بن سليمان، ثنا غياث بن إبراهيم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خَدِرَت رِجلُ رَجُل عند ابن عباس، فقال ابنُ عباس: اذكر أحبَّ الناس إليك، فقال: محمد صلى الله عليه وسلم، فذهب خَدَرُه.

 

فهذه الروايةُ لو لم يكن فيها سوى غياث بن إبراهيم لكفى، فقد قال عنه الإمام أحمد: « ترك الناسُ حديثَه »، وقال يحيى بن معين: « ليس بثقة »، وقال الجوزجاني: « كان فيما سمعت غيرَ واحد يقول: يضع الحديث »، وقال البخاري: « تركوه »، فكيف وفيها من لو ذهبنا نتتبَّعه لازدادت وهاءً؛ كسلام بن سليمان، وغيره؟!

 

2 - الوجه الثاني: جاء في باقي الروايات أن ابن عمر لما قيل له: اذكر أحبَّ الناس إليك، قال: « يا محمد »، هكذا بياء النداء، أما روايةُ سفيان الثوري ففيها: « محمد » دون ياء النداء، وهذا هو الرَّاجح، وإذا ذُكِر الحُفَّاظ فسفيان بالنسبة إليهم سماء.

 

3 - هذه الرواية موقوفة، وكما هو ظاهر: لم يبتدئ ابن عمر ذكرَ اسم من يحبُّ ابتداء، ولكن طُلب منه ذلك ففعله، ومن المعلوم أن طائفة من أهل العلم توسَّعوا في باب الرُّقى، ورأوا جوازها مطلقًا، مالم يكن فيها شرك، أخذًا بعموم حديث عَوْفِ بن مالكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قال: كنا نَرْقِي في الجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى في ذلك؟ فقال: « اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقاكُم، لا بَأْسَ بالرُّقَى ما لم يَكُنْ فيه شِرْكٌ ». أخرجه مسلم في "صحيحه" (2200).

وفي "سنن أبي داود" (3887) عن الشِّفاءِ بِنْتِ عبد اللَّهِ قالت: دخل عَلَيَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا عِنْدَ حَفْصَةَ، فقال لي: « ألا تُعَلِّمِينَ هذه رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كما عَلَّمْتِهَا الكِتابَةَ؟ ».

 

ورقية النملة هذه من رقى الجاهلية كما في "مستدرك الحاكم" (4/57) من حديث عثمان بن سليمان بن أبي حَثْمة، عن أبيه، عن أمه الشفاء بنت عبد الله: أنها كانت ترقي برقى في الجاهلية، وأنها لما هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قدمت عليه فقالت: يا رسول الله، إني كنت أرقي برقى في الجاهلية، وقد رأيت أن أعرضها عليك، فقال اعرضيها، فعرضتها عليه، وكانت منها رقية النملة، فقال: « ارقي بها وعلِّميها حَفصَة »، بسم الله صلوب، حين يعود من أفواهها ولا تضر أحدًا، اللهم اكشف البأس رب الناس، قال: ترقي بها على عود كَرْم سبع مرات، وتضعه مكانًا نظيفًا، ثم تدلكه على حجر، وتطليه على النُّورَة.

وهذا العلاج الذي ذُكِر في قصة ابن عمر هذه لخَدَر الرِّجل من هذا القبيل، مما كانت العرب تستعمله في جاهليتها، وفي ذلك أشعارٌ وأقوال انظرها في الموضع السابق من "عمل اليوم والليلة" لابن السني، و"الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني (7/47)، و"صبح الأعشى" (1/463)، و"ديوان عمر بن أبي ربيعة" (ص11)، وغيرها كثير.

 

وخلاصة ماتقدَّم: إن هذه الروايةَ لا تصحُّ من جهة سندها، وعلى طريقة من يتساهل في جهالة الحال، والاكتفاء بالمعاصرة ولو لم يثبت اللقاء، فتبقى الرواية محلَّ شكٍّ لا يمكنهم إقامة الدليل على صحتها، ولو سلَّمنا بصحَّتها فلا يثبت فيها أن ابن عمر دعا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وليس هذا الذي فعله ابن عمر مما يُظَنُّ أنه تلقَّاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو مما اعتادته العرب في جاهليتها وإسلامها، وهذا مما يوسِّع فيه طائفةٌ من أهل العلم، ومنهم ابن القيِّم وغيره، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

  • 1
  • 0
  • 37,471

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً