الخوف من ركوب السيارة

منذ 2020-08-29
السؤال:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
بارك الله فيكم، أريد أن أعرض مشكلتي مع السيارة؛ فهي تؤرقني ليل نهار، لا أحب ركوبها أبدًا، أشعر بخوف شديد، خاصة إذا كنّا على جسر عالٍ، وفي المقابل لا أخاف من ركوب الطائرة؛ سبحان الله!

لم أكن موفَّقة في دراستي بسبب غيابي المتكَرِّر؛ لِخَوْفِي الشديد مِن ركوب السيارة، دائمًا أرى في منامي كأنِّي داخل السيارة، وإذ بها تطير بي بين جسر وآخر، وأتعرض لمطاردات، لكني في النهاية أنجو، ثم أشعر بتعب نفسي شديد بعد هذا الحلم.

عَزَمْتُ على الالتحاقِ بالجامعة فكانتْ دراستي انتسابًا - أي: إنَّ الحضور ليس مستمرًّا - فحاوَلْتُ أن أَتَصَبَّرَ في الأيام الأولى؛ لكن كلما ركبت السيارة أُصِبْتُ بالتشنجات، وأتَخَيَّل أني أَتَعَرض لحادث ثم أموت بعدها.

في اليوم الخامس بدأتْ آثار الخوف تظهر عليَّ؛ منها: الغثيان المستمر، وضعف الشهية، وأرق في النوم، وأحلام مزعجة، ولم يتوقفْ عنِّي كل ذلك إلاَّ في آخر يوم من الامتحانات، بعد أن دخلت المنزل.

أريد أن أدرس في الجامعة بانتظام، وهذا يعني ركوب السيارة في اليوم مرتين، وهذا ينتج عنه الآثار السابقة، مما يؤدِّي إلى فشلي في الدراسة.

ماذا أفعل؟ فَكَّرْتُ في الذّهاب إلى طبيبة نفسية؛ لعلها تصف لي دواءً يخفف عني، لكن لا أستطيع. أفيدوني بحل، جزاكم الله خيرًا.

الإجابة:

أختي العزيزة، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
بدايةً، أُبارك لكِ هذا القرارَ الحكيم لاستِكْمال دراستِك انتظامًا، ثمَّ إنَّه لفت انتِباهي حصولُك على معدَّل ممتاز 92% رغم غيابِك ومخاوفك، هذا يعني أنَّكِ تتمتعين بنسبة ذكاء عالية - ما شاء الله عليك - كنتُ أتساءَل: كم سيكون معدَّلك لو كنتِ في أفضل حالاتك؟! وفقكِ الله.

ما تعانين منه يعرف سيكولوجيًّا برُهاب ركوب السيارة Motorphobia، وعلى الأغْلب لو أنَّكِ شحذْتِ ذاكرتَكِ قليلاً، واسترْجعتِ ذكرياتِ طفولتِك، لوجدتِ موقفًا سلبيًّا قد تعرَّضتِ له كان السبب وراءَ هذا الخوف، كتعرُّضكِ مع أهلِك - لا قدَّر الله - لِحادث سير حقيقي، أو كاد أن يحدُث مثلاً، وعلى الأغْلب من فوق جسرٍ أو مكان مرتفع، وعلى الرَّغم من أنَّ الموقِف قد زال وانتهى إلا أنَّ المشاعر المرتبِطة به باقية لم تزل!

الرؤى والأحلام المتعلِّقة بركوب السيَّارة ليستْ سوى انعِكاسات لمخاوفِك ومشاعرك السلبيَّة التي تفكِّرين بها، خصوصًا قبيْل السَّاعات التي تسبِق نومَك، فأنت تَخافين من لحظة مرور السَّيَّارة فوق الجسور، ولهذا تكثُر لديْك الأحلام المرتبِطة بتلك المشكلة، "أرى في منامي وكأنِّي داخل السيَّارة، وتطير بي بين جسر وآخر، ونتعرَّض لمطاردات".

الخوف - يا عزيزتي - شعور طبيعي، إنَّما لكلِّ شيء حدودٌ منطقيَّة متى تَجاوزْناها انتقلْنا إلى مراحلَ اضطِرابيَّة مرَضيَّة تَحتاج منَّا إلى تدخُّل طبِّي؛ طلبًا للحلِّ والعلاج، بعد شفاء الله تعالى، وأنتِ قد بلغْتِ المرحلة المرَضيَّة من الخوف، ومن الجيِّد أنَّكِ مؤمنة بضرورة الذهاب إلى طبيبة نفسيَّة، فما المانع إذن؟

هل كان سيُمانع أهلك من ذهابِك إلى طبيبة أعصاب أو طبيبة جلْدية، أو طبيبة نساء وولادة؟
لا فرْق بين الذَّهاب إلى هؤلاء وبين الذَّهاب إلى طبيبة نفسيَّة، فالمرَض هو القاسم المشترك، والنَّفس تتعب مثلها مثل أي عضْو في جسد الإنسان، وأرى أنَّ لها الأوْلويَّة في العِلاج المبكِّر قبل تفاقُم المرَض وبلوغه إلى مستويات لا يُجْدي معها حتَّى الدواء.

على أيَّة حال، هذه بعْض الإجراءات النفسيَّة التي يُمكنك القيام بها، وأسأل الله الشَّافي أن يضع فيها الشفاء لحالتِك، طبِّقيها لأسبوعين أو ثلاثة على أقلِّ تقدير، ثم خبِّريني بنسبة تحسُّنك، وإن شاء الله تعالى تكون النِّسبة عالية 92% مثلاً، هل تقبَلين بأقلَّ من ذلك؟ لا أظنُّ أنَّكِ من النَّوع الذي يقبل الخسارة، أليس كذلك؟!

علاج رُهاب ركوب السيارة:
تعزيز الإيمان بالقدَر، والتوكُّل على الله:
قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ ‏نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]، تأمَّلي حديث ابن عبَّاس وكوني على قناعة تامَّة بكلِّ ما ورد فيه، خُذي النَّصيحة منه وكأنَّها موجَّهة إليْك مباشرةً من الحبيب المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -:

روى الإمام أحمد في مسنده عن عبدالله بن عبَّاس: أنَّه ركِب خلْف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا فقال له رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يا غُلام، إنِّي معلِّمك كلِمات: احفَظِ الله يَحفظْك، احفَظِ الله تجِده تجاهك، إذا سألتَ فلْتسأل الله، وإذا استعنْتَ فاستعِن بالله، واعلمْ أنَّ الأمَّة لو اجتَمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتَبَه الله لك، ولو اجتَمعوا على أن يضرُّوك لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليْك، رُفِعَت الأقلام وجفَّت الصحُف»، لهذا الحديث الرَّائع شرحٌ مفصَّل في كتابٍ أنصحُك باقتنِائه، اسمه: "نور الاقتِباس في مشكاة وصية النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لابْن عبَّاس"؛ للحافظ زين الدين ابن رجب الحنبلي.

دعاء الركوب:
كنت سأضعُ لك الدعاء مباشرةً؛ لكنِّي آثرتُ كتابة الحديث الذي ورد فيه الدعاء؛ لنقطةٍ علاجيَّة وردت فيه أردت لفْت انتباهِك إليْها، عن علي بن ربيعة قال: شهِدتُ عليًّا أُتِي بدابَّة ليركَبَها، فلمَّا وضع رِجْله في الرِّكاب قال: بسم الله، فلمَّا استوى على ظهْرِها قال: الحمد لله، ثم قال: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف: 13، 14]، ثم قال: الحمدُ لله ثلاثًا، الله أكبر ثلاثًا، سُبحانَك إنِّي قد ظَلَمْتُ نفسي فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحِك، فقلت: من أيِّ شيء ضحِكتَ يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - صنع كما صنعتُ ثم ضحِك، فقلت: من أيِّ شيءٍ ضحكتَ يا رسول الله؟ قال: «إنَّ ربَّك ليعجب من عبْدِه إذا قال: ربِّ اغفر لي ذنوبي؛ إنَّه لا يغفر الذنوب غيرُك»؛ حديث حسن صحيح رواه الترمذي.

النقطة التي أردتُ لفْتَ انتباهِك إليْها هي الضَّحِك بعد قراءة الدعاء، أريدُك أن تفعلي ذلك قدْوةً بالحبيب المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوَّلاً، وكوسيلةٍ علاجيَّة ثانيًا، لا أقول: قهقهي بل أطْلقي ضحكةً سعيدة خفيفة وأنت تتخيَّلين الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - يفعلان ذلك، ستكْسبين حسنتين هنا: حسنة كأجْر وحسنة علاجيَّة، وإذا سألَكِ أحدٌ: لماذا تضحكين؟ فقولي كما قال علي - رضِي الله عنه -: "رأيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - صنع كما صنعتُ ثم ضحك".

التحدُّث مع الذات Self-talk:
يقول د. إبراهيم الفقي: إنَّ 80% من الحديث مع الذَّات هو حديث سلْبي، لاحظي ماذا تقولين لنفسِك هنا: "والآن أريد أن أدرس بانتظام، وهذا معناه حضور يومي، يعني أركب السيَّارة في اليوم مرَّتين ذهابًا وإيابًا، ومعناه: أرق وخوف وتشنُّج وغثيان ونفسيَّة سيِّئة، مما يؤدِّي إلى فشلي في الدراسة ثم انسحابي كالعادة".

حديث كهذا يزيد الأمر سوءًا ولا يحلُّ عقدة المخاوف إطلاقًا؛ لهذا ابدئِي من الآن فصاعدًا بوقْف كل أحاديثك السلبيَّة مع نفسِك، عن خوفك ورعبك من السيَّارة، واستبْدليها بعبارات توكيديَّة إيجابية، قولي مثلاً: "أنا قادرة على ركوب السيَّارة بمنتهى الشَّجاعة، أستطيع الذَّهاب إلى الجامعة دون خوف أو قلق، ونحو ذلك"، كرِّري ذلك مع نفسك خصوصًا قبيْل النَّوم.

تمارين الاسترخاء Relaxation Training:
خِلال جلوسِك في السيَّارة أغْمضي عينيْك وتنفَّسي بعمْق وبطء، أرخي كلَّ عضلاتك المشْدودة تدريجيًّا، ابدئي بالحاجبَيْن والجبين، ثم الفك - يفترض في الاسترخاء الصَّحيح أن يبقى الفم مفتوحا قليلاً - ثم عضلات العنُق والكتفين، فالذراعين والبطن وكذلك قدميك، وخلال ذلك ادْعي دعاء الركوب وتحدَّثي مع نفسك بإيجابيَّة.

العلاج بالتخيل Visualization:
استلْقي على سريرِك وأغْمضي عينيْكِ، ثمَّ أطْلقي الزَّفير بعمق لثلاث مرَّات، بعد ذلك تخيَّلي نفسَك داخل السيَّارة وهي تسير، وكلَّما بدأتْ أعراض المخاوف بالظهور ذكِّري نفسك بأنَّ هذا مجرَّد خيال وعليْك بالاستِرْخاء سريعًا، تنفَّسي بعمْقٍ وأرْخي عضلات جسمِك المشدودة، واستمرِّي في التخيُّل، شجِّعي نفسَك بقدرتِك على الجلوس بصورة هادئة وأنت داخل السيَّارة، تخيَّلي نفسَك وأنت قادرة على ركوب السيَّارة بمنتهى الشَّجاعة والارتِياح، من المهمِّ هنا أن تكون خيالاتُك إيجابيَّة، لا تسمحي للصُّور السلبيَّة بالظُّهور خلال هذا التَّمرين، فقط الخيال الإيجابي هو ما نَحتاج إليْه لعلاج المشكلة، ينصح عادة بممارسة التخيُّل يوميًّا على فترتَين ولمدَّة لا تقل عن 15 دقيقة. 

العلاج السلوكي بالتعريض Exposure therapy:
الطريقة الذهبية لعلاج المخاوف هي بِمواجهتِها، إيَّاك أن تتجنَّبي ركوب السيَّارة، فهذا يُفاقم الحالة لديْك ولا يعالِجها، ولعلَّ قرار دراستِك انتظامًا هو خيرٌ لكِ لعلاج المشكلة نهائيًّا؛ لأنَّك بهذا تُسْدِين لنفسِك خدمة جيِّدةً بتعْريض نفسك مرَّتين في اليوم للمشْكلة التي تُعانين منها، لا بأْس - يا عزيزتي - كلُّ هذه الأعْراض التي ستظهر لديْك هي واردة، لكن لا تستسْلمي لها، تغلَّبي عليْها واكسري حدَّتها بالمواظبة على الذهاب، تَحلَّي بالشَّجاعة وثقي أنَّ الله معكِ سيحفظُك من كل سوء، ما دمت تتوكَّلين عليه في حلِّ أمورك المستعصية.

من الأفضل أن تَجمعي بين كلِّ تلك الطرق النفسيَّة والعلاج الدوائي، لنتيجة أسرع إن شاء الله.

أسألُ الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يأخُذ بيدك، ويُعينك ويشفيك من كل داء، طبِّقي تلك الاستراتيجيَّات ولا تنسَي أن توافيني بتطوُّر حالتك للأفضل، أنا بانتظارِك، أمَّا إن اكتفيت بكلامي، فهذا فالأمر راجعٌ لكِ، لكن المتابعة خطوة مهمَّة، ويؤْسفني بحقٍّ أن أرى أغلبيَّة المستشيرين يتجاهلونَها.

دُمْتِ بألفِ خيْرٍ، ولا تنسَيْني من صالح دعائك.

  • 2
  • 0
  • 1,672

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً