قوله في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس
قوله في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس
قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه الله تعالى:
في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس، وقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، و قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فإنه ينفي التحريم عن غيرها، ويثبته لها، لكن هل أثبتها للجنس أو لكل واحد من العلماء كما يقال: إنما يحج المسلمون، وذلك أن المستثنى هل هو مقتضى، أو شرط؟ ففي الآية وأمثالها هو مقتضى فهو عام؛ فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف، فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات وترك السيئات، وكل عاص فهو جاهل ليس بتام العلم، تبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم.
وإذا كان كذلك فعدم العلم ليس شيئاً موجوداً، بل هو مثل عدم القدرة وعدم السمع وعدم البصر، والعدم ليس شيئاً، وإنما الشيء الموجود والله خالق كل شىء فلا يضاف العدم المحض إلى الله تعالى، لكن قد يقترن به موجود، فإذا لم يكن عالماً، والنفس بطبعها تحركه فإنها حية، والحركة الإرادية من لوازم الحياة، ولهذا أصدق الأسماء: الحارث والهمام، وفي الحديث إلخ، وفيه ، فإذا كان كذلك، فإن هداها الله علمها ما ينفعها وما يضرها، فأرادت ما ينفعها وتركت ما يضرها، والله سبحانه تفضل على بني آدم بأمرين؛ هما أصل السعادة:
أحدهما: أن كل مولود يولد على الفطرة، كما في الصحيحين، ولمسلم عن عياض ابن حمار مرفوعاً الحديث، فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت محبة لله تعبده لا تشرك به شيئاً، ولكن يفسدها من يزين لها من شياطين الإنس والجن، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية [الأعراف:172]، وتفسير هذه الآية مبسوط في غير هذا الموضع.
الثاني: أن الله تعالى هدى الناس هداية عامة، بما جعل فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5]، وقال تعالى: {الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4]، وقال تعالى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1-3]، وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، ففي كل واحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له، وقد هداه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الآخرة، وجعل في فطرته محبة لذلك.
لكن قد يعرض الإنسان عن طلب علم ما ينفعه وذلك الإعراض أمر عدمي، لكن النفس من لوازمها الإرادة والحركة فإنها حية حياة طبيعية، لكن سعادتها أن تحيا الحياة النافعة فتعبد الله، ومتى لم تحى هذه الحياة كانت ميتة، وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجباً لعذابها، فلا هي حية متنعمة بالحياة، ولا ميتة مستريحة من العذاب، قال تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} [الأعلى: 13]، فالجزاء من جنس العمل لما كان في الدنيا ليس بحي الحياة النافعة ولا ميتاً عديم الإحساس، كان في الآخرة كذلك، والنفس إن علمت الحق وأرادته، فذلك من تمام إنعام الله عليها، وإلا فهي بطبعها لابد لها من مراد معبود غير الله، ومرادات سيئة؛ فهذا تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده وهذا عدم.
والقدرية يعترفون بهذا، وبأن الله خلق الإنسان مريداً، لكن يجعلونه مريداً بالقوة والقبول، أي قابلاً لأن يريد هذا وهذا، وأما كونه مريداً لهذا المعين وهذا المعين، فهذا عندهم ليس مخلوقا لله، وغلطوا بل الله خالق هذا كله، وهو الذي ألهم النفس فجورها وتقواها، وكان صلى الله عليه وسلم يقول إلخ، والله سبحانه جعل إبراهيم وأهل بيته أئمة يدعون بأمره، وجعل آل فرعون أئمة يدعون إلى النار، ولكن هذا إلى الله لوجهين من جهة علته الغائية، ومن جهة سببه:
أما العلة الغائية، فإنه إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير، وإن كان شراً إضافياً، فإذا أضيف مفرداً توهم المتوهم مذهب جهم بن صفوان: أن الله خلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد، لا لحكمة ولا لرحمة، والكتاب والسنة والاعتبار يبطل هذا، كما إذا قيل: محمد وأمته يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض؛ كان هذا ذما لهم، وكان باطلاً، وإذا قيل: يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا ويقتلون من منعهم من ذلك؛ كان هذا مدحاً لهم وكان حقاً.
فإذا قيل: إن الرب تعالى حكيم رحيم أحسن كل شىء خلقه وهو أرحم الراحمين، والخير بيديه والشر ليس إليه، لا يفعل إلا خيراً، وما خلقه من ألم لبعض الحيوان، ومن أعماله المذمومة، فله فيه حكمة عظيمة ونعمة جسيمة، كان هذا حقاً وهو مدح للرب.
وأما إذا قيل: يخلق الشر الذي لا خير فيه، ولا منفعة لأحد، ولا له فيه حكمة ولا رحمة، ويعذب الناس بلا ذنب، لم يكن مدحاً له بل العكس، وقد بينا بعض ما في خلق جهنم وإبليس والسيئات من الحكمة والرحمة وما لم نعلم أعظم، والله سبحانه وتعالى يستحق الحمد والحب والرضا لذاته ولإحسانه هذا حمد شكر، وذاك حمد مطلقا.
وقد ذكرنا في غير هذا أن ما خلقه فهو نعمة يستحق عليها الشكر، وهو من آلائه؛ ولهذا قال في آخر سورة النجم: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:55]، وفي سورة الرحمن يذكر: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] ونحو ذلك، ويقول عقبه: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال طائفة واللفظ للبغوي ثم ذكر قوله:{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:44] قال: كل ما ذكر الله عز وجل من قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، فإنه مواعظ وهو نعمة؛ لأنه يزجر عن المعاصي، وقال آخرون منهم: الزجاج، وابن الجوزي، في الآيات، أي: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بهذه الأشياء؛ لأنها كلها نعم في دلالتها إياكم على توحيده ورزقه إياكم ما به قوامكم، هذا قالوه في سورة الرحمن، وقالوا في قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:55]، فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تشكك، وقيل: تشك وتجادل، وقال ابن عباس: تكذب.
قلت: ضمن تتمارى معنى تكذِّب؛ ولهذا عداه بالتاء، فإنه تفاعل من المراء، يقال: تمارينا في الهلال، ومراء في القرآن كفر، وهو يكون لتكذيب وتشكيك، ويقال: لما كان الخطاب لهم، قال: تتمارى، أي يتمارون، ولم يقل: تمتري؛ لأن التفاعل يكون بين اثنين. قالوا:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، قيل: الوليد بن المغيرة، فإنه قال: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 36-38]، ثم التفت إليه فقال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} كما قال: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ. وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ. فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 14-16].
ففي كل ما خلقه إحسان إلى عباده يشكر عليه، وله فيه حكمة تعود إليه يستحق أن يحمد عليها لذاته، فجميع المخلوقات فيها إنعام إلى عباده كالثقلين المخاطبين بقوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} من جهة أنها آيات يحصل بها هدايتهم، وتدل على وحدانيته، وصدق أنبيائه؛ ولهذا قال عقيبه: {هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم:56] قيل: محمد، وقيل: القرآن، وهما متلازمان، يقول: هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل، والكتب الأولى.
وقوله: {مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى}، أي: من جنسها، فأفضل النعم نعمة الإيمان، وكل مخلوق فهو من الآيات التي يحصل بها ما يحصل من هذه النعمة، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111]، وقال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8].
وما يصيب الإنسان إن كان يسره فهو نعمة بينة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة؛ لأنه يكفر خطاياه ويثاب عليه بالصبر، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها العبد، {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} الآية [البقرة:216]، وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر، أما الضراء فظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، كما قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر؛ فلهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين، لكن لما كان في السراء اللذة، وفي الضراء الألم، اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} إلى قوله:{إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية [هود:9-11].
وأيضاً، صاحب السراء أحوج إلى الشكر، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر، فإن صبر هذا وشكر هذا واجب، وأما صبر السراء فقد يكون مستحباً، وصاحب الضراء قد يكون الشكر في حقه مستحباً، واجتماع الشكر والصبر يكون مع تألم النفس وتلذذها، وهذا حال يعسر على كثير وبسطه له موضع آخر.
والمقصود أن الله تعالى منعم بهذا كله؛ وإن كان لا يظهر في الابتداء لأكثر الناس، فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، وأما ذنوب الإنسان فهي من نفسه، ومع هذا فهي مع حسن العاقبة نعمة، وهي نعمة على غيره لما يحصل له بها من الاعتبار، ومن هذا قوله:"اللهم لا تجعلني عبرة لغيري، ولا تجعل غيري أسعد بما علمتني مني"، وفي دعاء القرآن: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس:85]، وكما فيه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
واجعلنا أئمة لمن يقتدى بنا، ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا، والآلاء في اللغة هي النعم، وهي تتضمن القدرة .
والله تعالى في القرآن يذكر آياته الدالة على قدرته وربوبيته، ويذكر آياته التي فيها نعمه إلى عباده، ويذكر آياته المبينة لحكمته، وهي متلازمة، لكن نعمة الانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس ظاهرة لكل أحد؛ فلهذا استدل بها في [سورة النحل]، وتسمى [سورة النعم]، كما قاله قتادة وغيره.
وعلى هذا فكثير من الناس يقول: الحمد أعم من الشكر من جهة أسبابه؛ فإنه يكون على نعمة وغيرها، والشكر أعم من جهة أنواعه، فإنه يكون بالقلب واللسان واليد، فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة، لم يكن الحمد إلا على نعمة، والحمد لله على كل حال.
لكن هذا فهم من عرف ما في المخلوقات من النعم، والجهمية والجبرية بمعزل عن هذا، وكذلك القدرية الذين يقولون: لا تعود الحكمة إليه، بل ما ثم إلا نفع الخلق، فما عندهم إلا شكر، كما ليس عند الجهمية إلا قدرة، والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة لا يظهر فيها وصف حمد، وحقيقة مذهبهم: أنه لا يستحق الحمد؛ فله ملك بلا حمد، كما أن عند المعتزلة له نوع من الحمد بلا ملك، وعند السلف له الملك والحمد تامين.
قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، فله الوحدانية في إلهيته، وله العدل وله العزة والحكمة، وهذه الأربعة إنما يثبتها السلف وأتباعهم، فمن قصر عن معرفة السنة نقص الرب بعض حقه.
والجهمي الجبري لا يثبت عدلاً ولا حكمة، ولا توحيد إلهيته، بل توحيد ربوبيته، والمعتزلي لا يثبت توحيد إلهيته، ولا عدلا ولا عزة ولا حكمة، وإن قال: إنه يثبت حكمة ما، معناها يعود إلى غيره، فتلك لا تكون حكمة، فمن فعل لا لأمر يرجع إليه بل لغيره، فهذا عند العقلاء قاطبة ليس بحكيم، وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة، فقد ثبت أنه رأس الشكر، فهو أول الشكر والحمد، وإن كان على نعمة وعلى حكمة، فالشكر بالأعمال هو على نعمته، وهو عبادة له لإلهيته التي تتضمن حكمته، فقد صار مجموع الأمور داخلا في الشكر.
ولهذا عظم القرآن أمر الشكر، ولم يعظم أمر الحمد مجرداً إذ كان نوعاً من الشكر، وشرع الحمد الذي هوالشكر مقولا أمام كل خطاب مع التوحيد، ففي الفاتحة الشكر مع التوحيد، والخطب الشرعية لابد فيها من الشكر والتوحيد.
والباقيات الصالحات نوعان: فسبحان الله وبحمده فيها الشكر والتنزيه والتعظيم، ولا إله إلا الله والله أكبر فيها التوحيد والتكبير، وقد قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وهل الحمد على الأمور الاختيارية كما قيل في العزم، أم عام؟ فيه نظر ليس هذا موضعه.
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول هذا لفظ الحديث.
و[أحق] أفعل التفضيل، وقد غلط فيه طائفة فقالوا: حق ما قال العبد، وهذا ليس بسديد، فإن العبد يقول الحق والباطل؛ بل حق ما يقوله الرب، كما قال: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص:84]، ولكن أحق خبر مبتدأ محذوف، أي: الحمد أحق ما قال العبد، ففيه أن الحمد أحق ما قاله العبد، ولهذا وجب في كل صلاة.
وإذا قيل: يخلق ما هو شر محض، لم يكن هذا موجباً لمحبة العباد له، وحمدهم، بل العكس؛ ولهذا كثير من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم نظماً ونثراً، وكثير من شيوخهم وعلمائهم يذكر ذلك، وإن لم يقله بلسانه، فقلبه ممتلئ به، لكن يرى أن ليس في ذكره منفعة، أو يخاف من المسلمين، وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا، ويقيمون حجج إبليس وأتباعه على الله، وهو خلاف ما وصف به نفسه في قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [هود:101]، فقوله: أحق ما قال العبد، يقتضى أن حمده أحق ما قاله العبد؛ لأنه سبحانه لا يفعل إلا الخير وهو سبحانه.
ونفسه متحركة بالطبع حركة لابد فيها من الشر حكمة بالغة ونعمة سابغة.
فإذا قيل: فلم لا خلقها على غير هذا الوجه؟ قيل: كان يكون ذلك خلقاً غير الإنسان، وكانت الحكمة بخلقه لا تحصل، وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} إلى قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، فعلم من الحكمة في خلق هذا مالم تعلمه الملائكة، فكيف يعلمه آحاد الناس، ونفس الإنسان خلقت، كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:19-21]، وقال: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، فقد خلق خلقة تستلزم وجود ما خلق منها، لحكمة عظيمة ورحمة عميمة فهذا من جهة الغاية مع أن الشر لا يضاف إليه سبحانه.
وأما الوجه الثاني: من جهة السبب فإن هذا الشر إنما وجد لعدم العلم والإرادة التي تصلح النفس، فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة الله ومحبته، وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك، وهذا كله من فضل الله وإحسانه؛ لكن النفس المدينة لما حصل لها من زين لها السيئات من شياطين الإنس والجن مالت إلى ذلك، وكان ذلك مركباً من عدم ما ينفع، وهذا الأصل ووجود هذا العدم لا يضاف إلى الله تعالى وهؤلاء القول فيهم كالقول فيها، خلقهم لحكمة، فلما كان عدم ما تصلح به هو أحد السببين، والشر المحض هو العدم المحض، وهو ليس شيئاً، والله خالق كل شىء فكانت السيئات منها باعتبار أنها مستلزمة للحركة الإرادية.
والعبد إذا اعترف أن الله خالق أفعاله، فإن اعترف إقراراً بخلق الله لكل شىء وبكلماته التامات، واعترافاً بفقره إليه، وأنه إن لم يهده فهو ضال، فخضع لعزته وحكمته، فهذا حال المؤمنين، وإن اعترف احتجاجاً بالقدر، فهذا الذنب أعظم من الأول، وهذا من أتباع الشيطان.
وهنا سؤال سأله طائفة: وهو أنه لا يقضي للمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له، وقد قضى عليه السيئات، وعنه جوابان:
أحدهما: أن أعمال العباد لم تدخل في الحديث؛ ولكن ما يصيبه من النعم والمصائب؛ ولهذا قال: (إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له) إلخ. وهذا ظاهر اللفظ فلا إشكال.
والثاني: إن قدر دخولها، فقد قال صلى الله عليه وسلم" ، فإذا قضى له بأن يحسن فهو مما يسره، فإذا قضى له بسيئة، فهو إما يستحق العقوبة إذا لم يتب، فإن تاب أبدلت حسنة فيشكر عليها، وإن لم يتب ابتلى بمصائب تكفرها فيصبر عليها فيكون ذلك خيراً له وهو قال: لا يقضى الله للمؤمن، والمؤمن المطلق هو الذي لا يضره الذنب؛ بل يتوب منه فيكون حينئذ كما جاء في عدة آثار: إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة، يعمله فلا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه واستغفاره وشهوده لفقره، وفاقته إليه سبحانه.
وفي قوله: {فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] من الفوائد: أن العبد لا يطمئن إلى نفسه، فإن الشر لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بملام الناس وذمهم، ولكن يرجع إلى الذنوب فيتوب منها، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، فبذلك يحصل له الخير ويدفع عنه الشر؛ ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6- 7].
فإنه إذا هداه هذا الصراط، أعانه على طاعته وترك معصيته فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة، والذنوب من لوازم النفس، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب، ويدخل في ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه؛ ولهذا أمر به في كل صلاة لفرط الحاجة إليه، وإنما يعرف بعض قدره من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن المأمورين بهذا الدعاء، ورأى ما فيها من الجهل والظلم الذي يقتضى شقاءها في الدنيا، والآخرة، فيعلم أن الله تعالى بفضله ورحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر.
ومما قال ذلك أن الله تعالى لم يقص علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبرها، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول، وكانا مشتركين في المقتضى والحكم، فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل فرعون ومن قبله لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط؛ لكن الأمر كما قال تعالى:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43]، وقال:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52]، وقال تعالى:{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118]، وقال:{يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30]؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم" ،، وقال ، وكلا الحديثين في الصحيحين .
ولما كان في غزوة حنين، كان للمشركين سدرة يعلقون عليها أسلحتهم، فقال بعض الناس : {اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ" [الأعراف: 38]، .
وقد بين القرآن أن السيئات من النفس وإن كانت بقدر الله فأعظمها جحود الخالق والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة له سبحانه، أو إلها من دونه، وكل هذين وقع، فإن فرعون وإبليس كل واحد منهما يطلب أن يعبد ويطاع من دون الله، وهذا الذي في فرعون وإبليس غاية الظلم والجهل، وفي نفوس سائر الإنس والجن شعبة من هذا، وهذا إن لم يعن الله العبد ويهده وإلا وقع في بعض ما وقع فيه فرعون وإبليس بحسب الإمكان، قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، إلا أنه قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر.
وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس رأى الواحد يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، والنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجده يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43]، والناس عنده كما هم عند ملوك الكفار من الترك وغيرهم: [يال، ياغي]، أي صديقي وعدوي، فمن وافق هواهم، كان ولياً وإن كان كافراً، وإن لم يوافقه، كان عدوا وإن كان من المتقين، وهذه حال فرعون.
والواحد من هؤلاء يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه، لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون من دعوى الإلهية وجحود الصانع، وهؤلاء وإن أقروا بالصانع، فإذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادة الله المتضمنة ترك طاعتهم عادوه، كما عادى فرعون موسى عليه السلام وكثير من الناس عنده عقل وإيمان لا يطلب هذا الحد، بل تطلب نفسه ما هو عنده، فإذا كان مطاعاً مسلماً طلب أن يطاع في أغراضه، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل.
وإن كان عالماً أو شيخاً أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، وربما أبغض نظيره حسداً وبغياً، كما فعلت اليهود لما بعث الله تعالى من يدعو إلى مثل ما دعى إليه موسى قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا}الآية [البقرة:91]، وقال:ّ{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4]، وقال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [الشورى:14]؛ ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون، وسلط عليهم من انتقم به منهم، فقال تعالى عن فرعون: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ}الآية [القصص: 4]؛ ولهذا قال تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:38].
والله سبحانه إنما خلق الخلق لعبادته ليذكروه ويشكروه ويعبدوه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبدوه وحده، ويكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وقد أمر الرسل كلهم بهذا، وألا يتفرقوا فيه فقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، وقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية [المؤمنون:51- 52].
قال قتادة: أي: دينكم واحد، وربكم واحد، والشريعة مختلفة، وكذلك قال الضحاك.
وعن ابن عباس: أي دينكم دين واحد، قال ابن أبي حاتم، وروى عن سعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن نحو ذلك.
قال الحسن: بين لهم ما يتقون، وما يأتون، ثم قال: إن هذه سنتكم سنة واحدة، وهكذا قال جمهور المفسرين، والأمة: الملة والطريقة، كما قال:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 23]، كما تسمى الطريق إماماً، لأن السالك فيها يؤتم به، فكذلك السالك يؤمه ويقصده، والأمة أيضاً: معلم الخير الذي يأتم به الناس، وإبراهيم عليه السلام جعله الله إماماً، وأخبر أنه كان أمة.
وأمر الله تعالى الرسل أن تكون ملتهم ودينهم واحداً، لا يتفرقون فيه كما في الصحيحين ، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} الآية [الشورى:13]؛ ولهذا كان يصدق بعضهم بعضا لا يختلفون مع تنوع شرائعهم، فمن كان من المطاعين من الأمراء والعلماء والمشايخ متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم أمر بما أمر به ودعا إليه، وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه، فإن الله يحب ذلك، فيحب ما يحبه الله؛ لأن قصده عبادة الله وحده، وأن يكون الدين لله، ومن كره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك؛ فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود، وله نصيب من حال فرعون وأشباهه، فمن طلب أن يطاع دون الله فهذا حال فرعون، ومن طلب أن يطاع مع الله فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، والله سبحانه أمر ألا يعبد إلا إياه ولا يكون الدين إلا له، وتكون الموالاة فيه والمعاداة فيه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعان إلا به.
فالمتبع للرسل يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل؛ ليكون الدين لله لا له، فإذا أمر غيره بمثل ذلك، أحبه وأعانه وسر به؛ وإذا أحسن إلى الناس، فإنما يحسن إليهم ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد من عليه بأن جعله محسناً فيرى أن عمله لله وبالله، وهذا مذكور في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكورا، ولا يمن عليه بذلك، فإنه قد علم أن الله هو المان عليه إذ استعمله في الإحسان، فعليه أن يشكر الله إذ يسره لليسرى، وعلى ذلك أن يشكر الله إذ يسر له ما ينفعه، ومن الناس من يحسن إلى غيره ليمن عليه، أو ليجزيه بطاعته له وتعظيمه إياه أو نفع آخر، وقد يمن عليه فيقول: أنا فعلت وفعلت بفلان فلم يشكر ونحو ذلك، فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه، فلا عمل لله ولا عمل به، فهو كالمرائي.
وقد أبطل الله صدقة المنان وصدقة المرائي، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ. وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:264- 265].
قال قتادة: تثبيتاً من أنفسهم: احتساباً من عند أنفسهم.
وقال الشعبي: يقيناً وتصديقاً من أنفسهم.
وقيل: يخرجونها طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله يعلمون أن ما أخرجوه خير لهم مما تركوه.
قلت: إذا كان المعطي محتسباً للأجر من الله لا من الذي أعطاه فلا يمن عليه.
الفرق السادس: أن ما يبتلى به من الذنوب وإن كان خلقاً لله فهو عقوبة له على عدم فعل ما خلقه الله له وفطره عليه، فإنه خلقه لعبادته وحده، ودل عليه الفطرة، فلما لم يفعل ما خلق له وما فطر عليه، عوقب على ذلك، بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، قال تعالى: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} إلى قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء:63-65]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل:99- 100]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ. وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201-202].
فتبين أن الإخلاص يمنع من تسلط الشيطان، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، فكان إلهامه لفجوره عقوبة له وعدم فعل الحسنات ليس أمراً موجوداً حتى يقال: إن الله خلقه، ومن تدبر القرآن، تبين له أن عامة ما يذكر الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل، كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} الآية [الأنعام: 125]، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وقال: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8-10]، وهذا وأمثاله يذكر فيه أعمالاً عاقبهم بها على فعل محظور وترك مأمور، ولابد لهم من حركة وإرادة، فلما لم يتحركوا بالحسنات، حركوا بالسيئات عدلاً من الله، كما قيل: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
وهذا الوجه إذا حقق يقطع مادة كلام طائفتي القدرية المكذبة والمجبرة الذين يقولون: خلقها لذلك، والتعذيب لهم ظلم، يقال لهم: إنما أوقعهم فيها وطبع على قلوبهم عقوبة لهم، فما ظلمهم ولكن ظلموا أنفسهم، يقال: ظلمته، إذا نقصته حقه، قال تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} [الكهف:33].
وكثير منهم يسلمون أن الله خلق من الأعمال ما يكون جزاء على عمل متقدم، ويقولون: خلق طاعة المطيع لكن ما خلق شيئاً من الذنوب ابتداء، بل جزاءً ،فيقولون: أول ما يفعل العبد لم يحدثه الله، وما ذكرنا يوجب أن يكون الله خالق كل شىء، لكن أولها عقوبة على عدم فعله لما خلق له، والعدم لا يضاف إلى الله، فما أحدثه فأوله عقوبة على هذا العدم، وسائرها قد يكون عقوبة على ما وجد، وقد يكون عقوبة على استمراره على العدم، فما دام لا يخلص لله لا يزال مشركاً والشيطان مسلط عليه.
ثم تخصيصه سبحانه لمن هداه بأن استعمله ابتداء فيما خلق له تخصيص بفضله، وهذا منه لا يوجب الظلم ولا يمنع العدل؛ ولهذا يقول تعالى:{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105]، وكذلك الفضل هو أعلم به، كما خص بعض الأبدان بقوى لا توجد في غيرها، وبسبب عدم القوة قد تحصل له أمراض وجودية، وغير ذلك من حكمته، وتحقيق هذا يدفع شبهات هذا الباب.
ومما ذكر فيه العقوبة على عدم الإيمان قوله تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] هذا من تمام قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109]، فذكر أن هذا التقليب يكون لمن لم يؤمنوا به أول مرة، وهذا عدم الإيمان، لكن يقال: هذا بعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وقد كذبوا وتركوا الإيمان، وهذه أمور وجودية؛ لكن الموجب هو عدم الإيمان، وما ذكر شرط في التعذيب، كإرسال الرسول، فإنه قد يشتغل عن الإيمان بما جنسه مباح لا يستحق به العقوبة، إلا لأنه شغله عن الإيمان، ومن الناس من يقول ضد الإيمان هو تركه، وهو أمر وجودي لا ضد له إلا ذلك.
الفرق السابع: أن السيئات التي هي المصائب ليس لها سبب إلا ذنبه الذي من نفسه، وما يصير من الخير لا تنحصر أسبابه؛ لأنه من فضل الله يحصل بعمله وبغيره عمله، وعمله من إنعام الله عليه، وهو سبحانه لا يجزيه بقدر العمل، بل يضاعفه، فلا يتوكل إلا على الله ولا يرجع إلا إليه، فهو يستحق الشكر المطلق العام التام، وإنما يستحق غيره من الشكر ما يكون جزاء على ما يسره الله على يديه من الخير، كشكر الوالدين، فإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس؛ لكن لا يبلغ من قول أحد وإنعامه أن يشكر بمعصية الله أو يطاع بمعصيته، فإنه هو المنعم، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53]، وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:31]، وجزاؤه على الطاعة والشكر وعلى المعصية والكفر لا يقدر أحد على مثله؛ فلهذا لم يجز أن يطاع مخلوق في معصية الخالق، وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} الآية [العنكبوت: 8]، وفي الآية الأخرى:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15].
والمقصود أنه إذا عرف أن النعم كلها من الله، صار توكله ورجاؤه له سبحانه، وإذا علم ما يستحقه من الشكر الذي لا يستحقه غيره.
والشر انحصر سببه في النفس، فعلم من أين يأتي، فاستغفر واستعان بالله واستعاذ به مما لم يعمل بعد؛ كما قال من قال من السلف: لا يرجْوَنَّ عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه، وهذا خلاف قول الجهمية الذين يقولون: يعذب بلا ذنب، ويخافونه ولو لم يذنبوا، فإذا صدق بقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، علم بطلان هذا القول، وقد تقدم قول ابن عباس وغيره: إن ما أصابهم يوم أحد كان بذنوبهم، لم يستثن من ذلك أحدا، وهذا من فوائد تخصيص الخطاب لئلا يظن أنه عام مخصوص.
الفرق الثامن: أن السيئة إذا كانت من النفس، والسيئة خبيثة مذمومة، ووصفها بالخبث في مثل قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26]، قال جمهور السلف: الكلمات الخبيثة للخبيثين، وقال بعضهم: الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين، وقال تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} إلى قوله:{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم:24-26]، وقال:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل، فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث، لم يكن محلها إلا ما يناسبها، فمن أراد أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس كالسنانير لم يصلح، ومن أراد أن يجعل الكذاب شاهدا لم يصلح، وكذلك من أراد أن يجعل الجاهل معلماً، أو الأحمق سائساً، فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة، بل إذا كان في النفس خبث طهرت، وهذبت، كما في الصحيح" الحديث.
وإذا علم أن السيئة من نفسه لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7- 8]، وعلم أن الرب جارية أفعاله على قانون العدل والإحسان، وفي الصحيح" الحديث، وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة، وهو سبحانه قد شهد أن لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط، وهم قصدوا مناقضة المعتزلة في القدر والوعيد؛ فلهذا سلك مسلك جهم من ينتسب إلى السنة والحديث وأتباع السلف، وكذلك سلكوا في الإيمان والوعيد، مسلك المرجئة الغلاة، جهم وأتباعه، وجهم اشتهر عنه نوعان من البدعة:
نوع في الأسماء والصفات، فغلا في النفي، ووافقه على ذلك الباطنية والفلاسفة ونحوهم، والمعتزلة في الصفات دون الأسماء، والكلابية ومن وافقهم من الفقهاء وأهل الحديث في نفي الصفات الاختيارية، والكَرَّامية ونحوهم وافقوه على أصل ذلك، وهو امتناع دوام ما لا يتناهى، وأنه يمتنع أن يكون لم يزل متكلماً إذا شاء، وفعّالاً إذا يشاء لامتناع حوادث لا أول لها، وعن هذا الأصل نفي وجود ما لا يتناهي في المستقبل، وقال بفناء الجنة والنار، ووافقه أبو الهذيل إمام المعتزلة على هذا لكن قال تتناهى الحركات.
فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهمية، وأما الكلابية في الصفات. وكذلك الأشعرية، ولكنهم كما قال أبو إسماعيل الأنصاري: الأشعرية الإناث هم مخانيث المعتزلة، ومن الناس من يقول: المعتزلة مخانيث الفلاسفة؛ لأنه لم يعلم أن جهما سبقهم إلى هذا الأصل، أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه، والشهرستاني يذكر أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة؛ لأنه إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية معهم بخلاف أئمة السنة، فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية، وهم المشهورون عند السلف بنفي الصفات، وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف.
وأما المعتزلة، فامتازوا بالمنزلة بين المنزلتين لما أحدثه عمرو بن عبيد، وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة، وكان ذلك بعد موت الحسن.
وبدعة القدرية حدثت قبل ذلك بعد موت معاوية؛ ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس وغيرهما، وابن عباس مات قبل ابن الزبير، وابن عمر مات عقب موته، وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين، فبقى الناس يخوضون في القدر بالحجاز والشام والعراق، وأكثره كان بالشام والعراق والبصرة، وأقله كان بالحجاز فلما حدثت المعتزلة وتكلموا بالمنزلة بين المنزلتين، وقالوا: بإنفاذ الوعيد وخلود أهل التوحيد، وأن النار لا يخرج منها من دخلها ضموا إلى ذلك القدر فإنه به يتم.
ولم يكن الناس إذ ذاك أحدثوا شيئاً من نفي الصفات، إلى أن ظهر الجعد بن درهم وهو أولهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً ثم نزل فذبحه، وهذا كان بالعراق.
ثم ظهر جهم من ناحية المشرق من ترمذ، ومنها ظهر رأى جهم؛ ولهذا كان علماء السنة بالمشرق أكثر كلاماً في رد مذهبهم من أهل الحجاز والشام والعراق، مثل إبراهيم بن طهمان، وخارجة بن مصعب، ومثل عبد الله بن المبارك، وأمثالهم، وقد تكلم في ذمهم مالك وابن الماجشون وغيرهما، وكذلك الأوزاعي، وحماد بن زيد وغيرهم، وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد وغيره من علماء السنة، فإنهم في إمارة المأمون قووا وكثروا، فإنه قد كان بخراسان مدة واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمانية عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين ومائتين، وفيها كانت محنته مع المعتصم، ومناظرته لهم، فلما رد عليهم ما احتجوا به، وذكر أن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه أشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه لئلا تنكسر حرمة الخلافة، فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة وخافوا فأطلقوه، وكان ابن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات من جميع الطوائف.
وعلماء السنة: كابن المبارك وأحمد وإسحاق والبخاري يسمون هؤلاء جميعهم جهمية، وصار كثير من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن خصومه كانوا هم المعتزلة، وليس كذلك، بل المعتزلة نوع منهم.
والمقصود هنا أن جهما اشتهر عنه بدعتان: إحداهما: نفي الصفات.
والثانية: الغلو في القدر والإرجاء.
فجعل الإيمان مجرد معرفة القلب، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة، وهذان مما غلت المعتزلة في خلافه فيهما، وأما الأشعري فوافقه على أصل قوله، ولكن قد ينازعه منازعات لفظية.
وجهم لا يثبت شيئاً من الصفات، لا الإرادة ولا غيرها، فإذا قال: إن الله يحب الطاعات ويبغض المعاصي، فمعناه الثواب والعقاب، والأشعري يثبت الصفات كالإرادة فاحتاج إلى الكلام فيها هل هي المحبة أم لا؟ فقال: المعاصي يحبها الله ويرضاها كما يريدها، وذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك، وأهل السنة قبله على أن الله لا يحب المعاصي.
وشاع هذا القول في كثير من الصوفية فوافقوا جهما في مسائل الأفعال والقدر، وخالفوه في الصفات كأبي إسماعيل الأنصاري صاحب ذم الكلام، فإنه من المبالغين في ذم الجهمية في نفي الصفات، وله كتاب في تكفير الجهمية، ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة، وربما كان يلعنهم، وقال بعض الناس بحضرة نظام الملك: أتلعن الأشعرية ؟ فقال: ألعن من يقول ليس في السموات إله، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، وقام من عنده مغضباً، وهو مع هذا في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال أبلغ من الأشعرية، لا يثبت سبباً ولا حكمة، بل يقول: إن مشاهدة العارف الحكم لا يبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة، والحكم عنده هو المشيئة؛ لأن العارف عنده من يصل إلى مقام الفناء، والحسنة والسيئة يفترقان في حظ العبد لكونه ينعم بهذه ويعذب بهذه، والالتفات إلى هذا من حظوظ النفس، ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق.
والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وهذا من جهة المخلوق كان أعقل منهم، فإنهم يدعون أن العارف لا يفرق، وغلطوا في حق العبد وحق الرب، أما العبد فيلزمهم أن يستوى عنده جميع الحوادث، وهذا محال قطعاً، فعزلوا الفرق الرحماني، وفرقوا بالطبعي الهوائي الشيطاني، ومن هنا وقع خلق منهم في المعاصي، وآخرون في الفسوق، وآخرون في الكفر حتى جوزوا عبادة الأصنام، ثم كثير منهم ينتقل إلى الوحدة ويصرحون بعبادة كل موجود.
والمقصود الكلام على من نفى الحكم والأسباب والعدل في القدر موافقة لجهم وهي بدعته الثانية بخلاف الإرجاء، فإنه منسوب إلى طوائف غيره فهؤلاء يقولون: إن الرب يجوز أن يفعل كل ما يقدر عليه؛ ولهذا تجد من اتبعهم غير معظم للأمر والنهي، والوعد والوعيد، بل ينحل عنه أو عن بعضه، ويتكلف لما يعتقده، فإنهم إذا وافقوا جهما والأشعري في أن الحسن والقبيح كونه مأموراً أو محظوراً، وذلك فرق يعود إلى حظ العبد، وهم يدعون الفناء عن الحظوظ، فتارة يقولون في امتثال الأمر والنهي: إنه من مقام التلبيس، وتارة يقولون: يفعل هذا لأجل أهل المارستان، أي العامة، كما يقوله الشيخ المغربي، إلى أنواع أخر.
ومن سلك مسلكهم إذا عظم الأمر والنهي غايته أن يقول كما نقل عن الشاذلي: يكون الجمع في قلبك مشهوداً، والفرق على لسانك موجوداً، كما يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي؛ مثل دعوى أن الله يعطيه على المعصية أعظم مما يعطيه على الطاعة، ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات أو أفضل، ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما يوجد في حزب الشاذلي.
وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات أكبر الأولياء من يكون فاجراً، بل كافراً، ويقولون: هذه موهبة وعطية، ويظنون أن تلك من كرامات الأولياء، وتكون من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:101-103].
وقد قال صلى الله عليه وسلم الحديث.
والمسلمون الذين جاءهم كتاب الله القرآن عدل كثير ممن أضله الشيطان من المنتسبين إليهم إلى أن نبذ كتاب الله وراء ظهره، واتبع ماتتلوه الشياطين، فلا يعظم من أمر القرآن بموالاته، ويعادى من أمر القرآن بمعاداته، بل يعظم من رآه يأتي ببعض الخوارق التي تأتي بمثلها السحرة والكهان بإعانة الشياطين لهم، وهي تحصل بما تتلوه الشياطين.
ثم منهم من يعرف أن هذا من الشياطين، ولكن يعظمه لهواه ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، كالذين قال الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:51- 52]، وهؤلاء ضاهوا الذين قال الله تعالى فيهم:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 101- 102] ومنهم من لا يعرف أنه من الشياطين، وقد يقع في هذا طوائف من أهل الكلام والعلم، وأهل العبادة والتصوف، حتى جوزوا عبادة الكواكب والأصنام لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة التي تعينهم عليها الشياطين، لما يحصل بها بعض أغراضهم من الظلم والفواحش، فلم يبالوا بشركهم بالله وبكفرهم به وبكتابه إذا نالوا ذلك، ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس وتعظيمهم له لرئاسة أو مال ينالونه، وإن كانوا قد علموا الكفر والشرك ودعوا إليه، بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقاد أنه خاطب الجمهور بما لا حقيقة له في الباطن للمصلحة، كما يقول ذلك من يقوله من الملاحدة الباطنية، ودخل في رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء وهؤلاء، وهذا مما ضاهوا به فارس والروم.
فإن فارس كانت تعظم الأنوار، وتسجد للشمس وللنار، والروم كانوا قبل النصرانية مشركين، يعبدون الكواكب والأصنام، فهؤلاء شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى، فإن هؤلاء ضاهوا أهل الكتاب فيما بدل أو نسخ، وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له.
وقال رحمه الله تعالى: فالنفوس مفطورة على علم ضروري موجود فيها بالخالق الذي خلق السماوات، وأنه خلق السماوات والأرض ليس شيء منها خلق الناس، كما قال موسى لفرعون لما قال له:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23-24] وقال {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [ طـه:49-50 ].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد الثامن.
- التصنيف: