فصل في معرفة الأصل الذي تفرع منه النزاع
ابن تيمية
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
السؤال: فصل في معرفة الأصل الذي تفرع منه النزاع
الإجابة: فصــل:
وإذا عرف الأصل الذي منه تفرع نزاع الناس في [مسألة كلام الله]، فالذين قالوا: مالا يسبق الحوادث فهو حادث مطلقاً، تنازعوا في كلام الله تعالى.
فقال كثير من هؤلاء: الكلام لا يكون إلا بمشيئة المتكلم وقدرته، فيكون حادثاً كغيره من الحوادث، ثم قالت طائفة: والرب لا تقوم به الحوادث، فيكون الكلام مخلوقاً في غيره، فجعلوا كلامه مخلوقاً من المخلوقات، ولم يفرقوا بين قال وفعل.
وقد علم أن المخلوقات لا يتصف بها الخالق، فلا يتصف بما يخلقه في غيره من الألوان والأصوات، والروائح والحركة، والعلم والقدرة، والسمع والبصر، فكيف يتصف بما يخلقه في غيره من الكلام، ولو جاز ذلك لكان ما يخلقه من إنطاق الجمادات كلامه، ومن علم أنه خالق كلام العباد وأفعالهم يلزمه أن يقول: كل كلام في الوجود فهو كلامه، كما قال بعض الاتحادية:
وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه وهذا قول الجهمية والنجارية والضرارية وغيرهم؛ فإن هؤلاء يقولون: إنه خالق أفعال العباد وكلامهم، مع قولهم: إن كلامه مخلوق، فيلزمهم هذا.
وأما المعتزلة فلا يقولون: إن الله خالق أفعال العباد، لكن الحجة توجب القول بذلك.
وقالت طائفة: بل الكلام لابد أن يقوم بالمتكلم، ويمتنع أن يكون كلامه مخلوقاً في غيره، وهو متكلم بمشيئته وقدرته فيكون كلامه حادثاً بعد أن لم يكن؛ لامتناع حوادث لا أول لها.
وهذا قول الكرامية وغيرهم.
ثم من هؤلاء من يقول: كلامه كله حادث لا محدث.
ومنهم من يقول: هو حادث ومحدث.
وقال كثير من هؤلاء الذين يقولون بامتناع حوادث لا أول لها مطلقاً: الكلام لازم لذات الرب، كلزوم الحياة ليس هو متعلقاً بمشيئته،وقدرته بل هو قديم كقدم الحياة؛ إذ لو قلنا: إنه بقدرته ومشيئته لزم أن يكون حادثاً، وحينئذ فيلزم أن يكون مخلوقاً أو قائماً بذات الرب، فيلزم قيام الحوادث به وذلك يستلزم تسلسل الحوادث؛ لأن القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن ضده.
قالوا: وتسلسل الحوادث ممتنع؛ إذ التفريع على هذا الأصل.
ثم إن هؤلاء لما قالوا بقدم عين الكلام تنازعوا فيه، فقالت طائفة: القديم لا يكون حروفاً ولا أصواتاً؛ لأن الصوت يستحيل بقاؤه كما يستحيل بقاء الحركة، وما امتنع بقاؤه امتنع قدم عينه بطريق الأولى والأحرى، فيمتنع قدم شيء من الأصوات المعينة، كما يمتنع قدم شيء من الحركات المعينة؛ لأن تلك لا تكون كلاماً إلا إذا كانت متعاقبة، والقديم لا يكون مسبوقاً بغيره، فلو كانت الميم من [بسم الله] قديمة مع كونها مسبوقة بالسين والباء لكان القديم مسبوقاً بغيره، وهذا ممتنع، فيلزم أن يكون القديم هو المعنى فقط، ولا يجوز تعدده؛ لأنه لو تعدد لكان اختصاصه بقدر دون قدر ترجيحاً بلا مرجح، وإن كان لا يتناهى لزم وجود أعداد لا نهاية لها في آن واحد.
قالوا: وهذا ممتنع، فيلزم أن يكون معنى واحداً هو الأمر والخبر، وهو معنى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وهذا أصل قول الكلابية والأشعرية.
وقالت طائفة من أهل الكلام والحديث والفقهاء وغيرهم: بل هو حروف قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال، وهي مترتبة في ذاتها لا في وجودها، كالحروف الموجودة في المصحف وليس بأصوات قديمة.
ومنهم من قال: بل هو أيضاً أصوات قديمة ولم يفرق هؤلاء بين الحروف المنطوقة التي لا توجد إلا متعاقبة، وبين الحروف المكتوبة التي توجد في آن واحد، كما يفرق بين الأصوات والمداد؛ فإن الأصوات لا تبقى بخلاف المداد، فإنه جسم يبقى، وإذا كان الصوت لا يبقى امتنع أن يكون الصوت المعين قديماً؛ لأن ما وجب قدمه لزم بقاؤه وامتنع عدمه، والحروف المكتوبة قد يراد بها نفس الشكل القائم بالمداد أو ما يقدر بقدر المداد، كالشكل المصنوع في حجر وورق، فإزالة بعض أجزائه تدل على حدوثه، وقد يراد بالحروف نفس المداد.
وأما الحروف المنطوقة، فقد يراد بها أيضاً الأصوات المقطعة المؤلفة، وقد يراد بها حدود الأصوات وأطرافها، كما يراد بالحرف في الجسم حده ومنتهاه، فيقال: حرف الرغيف وحرف الجبل ونحو ذلك، ومنه قوله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11]، وقد يراد بالحروف الحروف الخيالية الباطنة، وهي ما يتشكل في باطن الإنسان من الكلام المؤلف المنظوم قبل أن يتكلم به.
وقد تنازع الناس، هل يمكن وجود حروف بدون أصوات في الحي الناطق؟ على قولين لهم، وعلى هذا تنازعت هذه الطائفة القائلة بقدم أعيان الحروف، هل تكون قديمة بدون أصوات قديمة أم لابد من أصوات قديمة لم تزل ولا تزال؟ ثم القائلون بقدم الأصوات المعينة تنازعوا في المسموع من القارئ، هل يسمع منه الصوت القديم؟ فقيل: المسموع هو الصوت القديم وقيل: بل المسموع هو صوتان: أحدهما: القديم، والآخر:المحدث، فما لابد منه في وجود القرآن فهو القديم، وما زاد على ذلك فهو المحدث.
وقيل: بل الصوت القديم غير المسموع من العبد.
وتنازعوا في القرآن هل يقال: إنه حال في المصحف والصدور أم لا يقال ذلك؟ على قولين.
فقيل: هو ظاهر في المحدث ليس بحال فيه.
وقيل: بل القرآن حال في الصدور والمصاحف، فهؤلاء الخلقية والحادثية، والاتحادية والاقترانية، أصل قولهم: أن مالا يسبق الحوادث فهو حادث مطلقاً.
ومن قال بهذا الأصل.
فإنه يلزمه بعض هذه الأقوال أو ما يشبه ذلك، فإن من الناس من يجعله حادثاً، يريد أنه كائن بعد أن لم يكن، ويجعل الحادثات إرادات وتصورات لا حروف وأصوات.
والداربي وغيره يميلون إلى هذا القول؛ فإنه إما أن يجعل كلام الله حادثاً أو قديما، وإذا كان حادثاً فإما أن يكون حادثاً في غيره، وإما أن يكون حادثاً في ذاته، وإذا كان قديماً فإما أن يكون القديم المعنى فقط، أو اللفظ فقط، أو كلاهما، فإذا كان القديم هو المعنى فقط لزم ألا يكون الكلام المقروء كلام الله تعالى ثم الكلام في ذلك المعنى قد عرف.
وأما قدم اللفظ فقط، فهذا لم يقل به أحد، لكن من الناس من يقول: إن الكلام القديم هو اللفظ، وأما معناه فليس هو داخلا في مسمى الكلام، بل هو العلم والإرادة وهما قديمان، لكن ليس ذلك داخلا في مسمى الكلام، فهذا يقول: الكلام القديم هو اللفظ فقط إما الحروف المؤلفة وإما الحروف والأصوات، لكنه يقول: إن معناه قديم.
وأما الفريق الثاني الذين قالوا بجواز حوادث لا أول لها مطلقاً، وأن القديم الواجب بنفسه يجوز أن تتعقب عليه الحوادث مطلقاً، وإن كان ممكناً لا واجباً بنفسه فهؤلاء القائلون بقدم العالم كما يقولون بقدم الأفلاك، وأنها لم تزل ولا تزال معلولة لعلة قديمة أزلية، لكن المنتسبون إلى الملل كابن سينا ونحوه منهم، قالوا: إنها صادرة عن الواجب بنفسه الموجب لها بذاته، وأما أرسطو وأتباعه فإنهم قالوا: إن لها علة غائية تتحرك للتشبه بها في تحركها، كما يحرك المعشوق عاشقه، ولم يثبتوا لها مبدعاً موجبا ولا موجباً قائماً بذاته، ولا قالوا: إن الفلك ممكن بنفسه واجب بغيره، بل الفلك عندهم واجب بنفسه، لكن قالوا مع ذلك: إن له علة غائية يتحرك للتشبه بها لا قوام له إلا بها، فجعلوا الواجب بنفسه الذي لا فاعل له مفتقراً إلى علة غائية منفصلة عنه، هذه حقيقة قول أرسطو وأتباعه؛ ولهذا لم يثبتوا الأول عالماً بغيره؛ إذ لم يكن الأول عندهم مبدعا للفلك؛ فإنه إذا كان مبدعا يجب أن يكون عالما بمفعوله، كما قال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
ولهذا كانت أقوالهم في الإلهيات من أعظم الأقوال فسادا، بخلاف أقوالهم في الطبيعيات؛ ولهذا كان قولهم أشد فسادا في العقل والدين من قول ابن سينا وأتباعه، ولم يثبت أرسطو وأتباعه [العلة الأولى] بطريقة الوجود، ولا قسموا الوجود القديم إلى واجب و ممكن، بل الممكن عندهم لا يكون إلا حادثاً، ولا أثبتوا للموجود الواجب الخصائص المميزة للرب عن الأفلاك، بل هذا من تصرف متأخريهم الذين خلطوا فلسفتهم بكلام المعتزلة ونحوهم، وإنما أثبت واجب الوجود بطريقة الوجود ابن سينا وأتباعه.
وحقيقة قول هؤلاء وجود الحوادث بلا محدث أصلا، أما على قول من جعل الأول علة غائية للحركة فظاهر، فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعلا لها، فقولهم في حركات الأفلاك نظير قول القدرية في حركة الحيوان، وكل من الطائفتين قد تناقض قولهم؛ فإن هؤلاء يقولون بأن فعل الحيوان صادر عن غيره؛ لكون القدرة والداعي مستلزمين وجود الفعل، والقدرة والداعي كلاهما من غير العبد.
فيقال لهم: فقولوا هكذا في حركة الفلك بقدرته وداعيه؛ فإنه يجب أن يكونا صادرين عن غيره، وحينئذ فيكون الواجب بنفسه هو المحدث لتلك الحوادث شيئاً بعد شيء، وإن كان ذلك بواسطة العقل، وهذا القول هو الذي يقوله ابن سينا وأتباعه، وهو باطل أيضاً؛ لأن الموجب بذاته القديم الذي يقارنه موجبه ومقتضاه يمتنع أن يصدر عنه حـادث بواسطة أو بلا واسطة، فإن صدور الحوادث عن العلة التامة الأزلية ممتنع لذاته.
وإذا قالوا: الحركة بتوسطه، أي بتوسط حركة الفلك، قيل لهم: فالكلام إنما هو في حدوث الحركة الفلكية؛ فإن الحركة الحادثة شيئاً بعد شيء يمتنع أن يكون المقتضى لها علة تامة أزلية، مستلزمة لمعلولها؛ فإن ذلك جمع بين النقيضين؛ إذ القول بمقارنة المعلول لعلته في الأزل ووجوده معها يناقض أن يتخلف المعلول أو شيء من المعلول عن الأزل، بل يمتنع أن يكون المقتضى لها ذاتا بسيطة لا يقوم بها شيء من الصفات والأحوال المقتضية لحدوث الحوادث المتعاقبة المختلفة، بل يمتنع أن يكون المقتضي لها ذاتا موصوفة لا يقوم بها شيء من الأحوال الموجبة لحدوث الحوادث المذكورة، فإن التجدد والتعدد الموجود في المعلولات يمتنع صدوره عن علة واحدة بسيطة من كل وجه، فصار حقيقة قولهم أن الحوادث العلوية والسفلية لا محدث لها.
وهؤلاء يقولون: كلام الله ما يفيض علي النفوس الصافية، كما أن ملائكة الله عندهم ما يتشكل فيها من الصور النورانية، فلا يثبتون له كلاما خارجاً عما في نفوس البشر، ولا ملائكة خارجة عما في نفوسهم غير [العقول العشرة]، و[النفوس الفلكية التسعة]، مع أن أكثرهم يقولون: إنها أعراض، وقد بين في غير هذا الموضع أن ما يثبتونه من المجردات العقلية التي هي العقول والنفوس والمواد والصور، إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان.
وأما الصنف الثالث، الذين فرقوا بين الواجب والممكن، والخالق والمخلوق، والغنى الذي لا يفتقر إلى غيره، والفقير الذي لا قوام له إلا بالغني، فقالوا: كل ما قارن الحوادث من الممكنات فهو محدث كائن بعد أن لم يكن، وهو مخلوق مصنوع مربوب، وأنه يمتنع أن يكون فيما هو فقير ممكن مربوب شيء قديم، فضلا عن أن تقارنه حوادث لا أول لها؛ ولهذا كانت حركات الفلك دليلا على حدوثه كما تقدم التنبيه على ذلك.
وأما الرب تعالى إذا قيل: لم يزل متكلماً إذا شاء، أو لم يزل فاعلا لما يشاء، لم يكن دوام كونه متكلما بمشيئته وقدرته، ودوام كونه فاعلا بمشيئته وقدرته ممتنعاً، بل هذا هو الواجب؛ لأن الكلام صفة كمال لا نقص فيه، فالرب أحق أن يتصف بالكلام من كل موصوف بالكلام؛إذ كل كمال لا نقص فيه ثبت للمخلوق فالخالق أولى به؛ لأن القديم الواجب الخالق أحق بالكمال المطلق من المحدث الممكن المخلوق؛ ولأن كل كمال ثبت للمخلوق فإنما هو من الخالق، وما جاز اتصافه به من الكمال وجب له؛ فإنه لو لم يجب له لكان إما ممتنعاً وهو محال بخلاف الفرض، وإما ممكناً، فيتوقف ثبوته له على غيره، والرب لا يحتاج في ثبوت كماله إلى غيره؛ فإن معطى الكمال أحق بالكمال، فيلزم أن يكون غيره أكمل منه لو كان غيره معطياً له الكمال، وهذا ممتنع؛ بل هو بنفسه المقدسة مستحق لصفات الكمال، فلا يتوقف ثبوت كونه متكلما على غيره، فيجب ثبوت كونه متكلما، وإن ذلك لم يزل ولا يزال، والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازماً له بدون قدرته ومشيئته، والذي لم يزل متكلما إذا شاء أكمل ممن صار الكلام يمكنه بعد أن لم يكن الكلام ممكناً له.
وحينئذ، فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وإن قيل: إنه ينادى ويتكلم بصوت ولا يلزم من ذلك قدم صوت معين، وإذا كان قد تكلم بالتوراة والقرآن والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديماً لم يستلزم أن تكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة؛ لما علم من الفرق بين النوع والعين، وهذا الفرق ثابت في الإرادة والكلام، والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات، وبه تنحل الإشكالات الواردة على وحدة هذه الصفات وتعددها، وقدمها وحدوثها، وكذلك تزول به الإشكالات الواردة في أفعال الرب، وقدمها وحدوثها، وحدوث العالم.
وإذا قيل: إن حروف المعجم قديمة بمعنى النوع كان ذلك ممكناً، بخلاف ما إذا قيل: إن عين اللفظ الذي نطق به زيد وعمرو قديم، فإن هذا مكابرة للحس. والمتكلم يعلم أن حروف المعجم كانت موجودة قبل وجوده بنوعها.
وأما نفس الصوت المعين الذي قام به التقطيع أو التأليف المعين لذلك الصوت، فيعلم أن عينه لم تكن موجودة قبله، والمنقول عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة مطابق لهذا القول؛ ولهذا أنكروا على من زعم أن حرفاً من حروف المعجم مخلوق، وأنكروا على من قال: [لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف، فقالت: لا أسجد حتى أومر]، مع أن هذه الحكاية نقلت لأحمد عن سري السقطى.
وهو نقلها عن بكر بن خُنَيْس العابد، ولم يكن قصد أولئك الشيوخ بها إلا بيان أن العبد الذي يتوقف فعله على الأمر والشرع هو أكمل من العبد الذي يعبد الله بغير شرع، فإن كثيرا من العباد يعبدون الله بما تحبه قلوبهم، وإن لم يكونوا مأمورين به، فقصد أولئك الشيوخ أن من عبد الله بالأمر ولم يفعل شيئاً حتى يؤمر به،فهو أفضل ممن عبده بما لم يؤمر به، وذكروا هذه الحكاية الإسرائيلية شاهداً لذلك، مع أن هذه لا إسناد لها، ولا يثبت بها حكم، ولكن الإسرائيليات إذا ذكرت على طريق الاستشهاد بها لما عرف صحته لم يكن بذكرها بأس، وقصدوا بذلك الحروف المكتوبة؛ لأن الألف منتصبة وغيرها ليس كذلك، مع أن هذا أمر اصطلاحي، وخط غير العربي لا يماثل خط العربي، ولم يكن قصد أولئك الأشياخ أن نفس الحروف المنطوقة التي هي مباني أسماء الله الحسنى، وكتبه المنزلة، مخلوقة بائنة عن الله، بل هذا شيء لعله لم يخطر بقلوبهم، والحروف المنطوقة لا يقال فيها: إنها منتصبة ولا ساجدة، فمن احتج بهذا من قولهم على أنهم يقولون: إن الله لم يتكلم بالقرآن العربي ولا بالتوراة العبرية، فقد قال عنهم ما لم يقولوه.
وأما الإمام أحمد، فإنه أنكر إطلاق هذا القول، وما يفهم منه عند الإطلاق، وهو أن نفس حروف المعجم مخلوقة، كما نقل عنه أنه قال: ومن زعم أن حرفاً من حروف المعجم مخلوق، فهذا جهمي يسلك طريقاً إلى البدعة، فإنه إذا قال: إن ذلك مخلوق، فقد قال: إن القرآن مخلوق أو كما قال. ولا ريب أن من جعل نوع الحروف مخلوقاً بائناً عن الله كائناً بعد أن لم يكن، لزم عنده أن يكون كلام الله العربي والعبري ونحوهما مخلوقا، وامتنع أن يكون الله متكلماً بكلامه، الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا يكون شيء من ذلك كلامه، فطريقة الإمام أحمد وغيره من السلف مطابقة للقول الثالث، الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول.
وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي.
في كتابه الذي سماه:[الفصول في الأصول]: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرائيني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل عليه السلام مسموعا من الله،والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي نتلوه نحن مقروء بألسنتنا، وفيما بين الدفتين،وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا، ومحفوظاً ومقروءاً، وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق فهو كافر، عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.
والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع، وذكر ما يتعلق بهذا الباب من الكلام في سائر الصفات، كالعلم والقدرة والإرادة، والسمع والبصر والكلام في تعدد الصفة واتحادها، وقدمها وحدوثها، أو قدم النوع دون الأعيان، أو إثبات صفة كلية عمومية متناولة الأعيان، مع تجدد كل معين من الأعيان، أو غير ذلك مما قيل في هذا الباب، فإن هذه مواضع مشكلة، وهي من محارات العقول؛ ولهذا اضطرب فيها طوائف من أذكياء الناس ونظارهم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني عشر.
وإذا عرف الأصل الذي منه تفرع نزاع الناس في [مسألة كلام الله]، فالذين قالوا: مالا يسبق الحوادث فهو حادث مطلقاً، تنازعوا في كلام الله تعالى.
فقال كثير من هؤلاء: الكلام لا يكون إلا بمشيئة المتكلم وقدرته، فيكون حادثاً كغيره من الحوادث، ثم قالت طائفة: والرب لا تقوم به الحوادث، فيكون الكلام مخلوقاً في غيره، فجعلوا كلامه مخلوقاً من المخلوقات، ولم يفرقوا بين قال وفعل.
وقد علم أن المخلوقات لا يتصف بها الخالق، فلا يتصف بما يخلقه في غيره من الألوان والأصوات، والروائح والحركة، والعلم والقدرة، والسمع والبصر، فكيف يتصف بما يخلقه في غيره من الكلام، ولو جاز ذلك لكان ما يخلقه من إنطاق الجمادات كلامه، ومن علم أنه خالق كلام العباد وأفعالهم يلزمه أن يقول: كل كلام في الوجود فهو كلامه، كما قال بعض الاتحادية:
وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه وهذا قول الجهمية والنجارية والضرارية وغيرهم؛ فإن هؤلاء يقولون: إنه خالق أفعال العباد وكلامهم، مع قولهم: إن كلامه مخلوق، فيلزمهم هذا.
وأما المعتزلة فلا يقولون: إن الله خالق أفعال العباد، لكن الحجة توجب القول بذلك.
وقالت طائفة: بل الكلام لابد أن يقوم بالمتكلم، ويمتنع أن يكون كلامه مخلوقاً في غيره، وهو متكلم بمشيئته وقدرته فيكون كلامه حادثاً بعد أن لم يكن؛ لامتناع حوادث لا أول لها.
وهذا قول الكرامية وغيرهم.
ثم من هؤلاء من يقول: كلامه كله حادث لا محدث.
ومنهم من يقول: هو حادث ومحدث.
وقال كثير من هؤلاء الذين يقولون بامتناع حوادث لا أول لها مطلقاً: الكلام لازم لذات الرب، كلزوم الحياة ليس هو متعلقاً بمشيئته،وقدرته بل هو قديم كقدم الحياة؛ إذ لو قلنا: إنه بقدرته ومشيئته لزم أن يكون حادثاً، وحينئذ فيلزم أن يكون مخلوقاً أو قائماً بذات الرب، فيلزم قيام الحوادث به وذلك يستلزم تسلسل الحوادث؛ لأن القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن ضده.
قالوا: وتسلسل الحوادث ممتنع؛ إذ التفريع على هذا الأصل.
ثم إن هؤلاء لما قالوا بقدم عين الكلام تنازعوا فيه، فقالت طائفة: القديم لا يكون حروفاً ولا أصواتاً؛ لأن الصوت يستحيل بقاؤه كما يستحيل بقاء الحركة، وما امتنع بقاؤه امتنع قدم عينه بطريق الأولى والأحرى، فيمتنع قدم شيء من الأصوات المعينة، كما يمتنع قدم شيء من الحركات المعينة؛ لأن تلك لا تكون كلاماً إلا إذا كانت متعاقبة، والقديم لا يكون مسبوقاً بغيره، فلو كانت الميم من [بسم الله] قديمة مع كونها مسبوقة بالسين والباء لكان القديم مسبوقاً بغيره، وهذا ممتنع، فيلزم أن يكون القديم هو المعنى فقط، ولا يجوز تعدده؛ لأنه لو تعدد لكان اختصاصه بقدر دون قدر ترجيحاً بلا مرجح، وإن كان لا يتناهى لزم وجود أعداد لا نهاية لها في آن واحد.
قالوا: وهذا ممتنع، فيلزم أن يكون معنى واحداً هو الأمر والخبر، وهو معنى التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وهذا أصل قول الكلابية والأشعرية.
وقالت طائفة من أهل الكلام والحديث والفقهاء وغيرهم: بل هو حروف قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال، وهي مترتبة في ذاتها لا في وجودها، كالحروف الموجودة في المصحف وليس بأصوات قديمة.
ومنهم من قال: بل هو أيضاً أصوات قديمة ولم يفرق هؤلاء بين الحروف المنطوقة التي لا توجد إلا متعاقبة، وبين الحروف المكتوبة التي توجد في آن واحد، كما يفرق بين الأصوات والمداد؛ فإن الأصوات لا تبقى بخلاف المداد، فإنه جسم يبقى، وإذا كان الصوت لا يبقى امتنع أن يكون الصوت المعين قديماً؛ لأن ما وجب قدمه لزم بقاؤه وامتنع عدمه، والحروف المكتوبة قد يراد بها نفس الشكل القائم بالمداد أو ما يقدر بقدر المداد، كالشكل المصنوع في حجر وورق، فإزالة بعض أجزائه تدل على حدوثه، وقد يراد بالحروف نفس المداد.
وأما الحروف المنطوقة، فقد يراد بها أيضاً الأصوات المقطعة المؤلفة، وقد يراد بها حدود الأصوات وأطرافها، كما يراد بالحرف في الجسم حده ومنتهاه، فيقال: حرف الرغيف وحرف الجبل ونحو ذلك، ومنه قوله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11]، وقد يراد بالحروف الحروف الخيالية الباطنة، وهي ما يتشكل في باطن الإنسان من الكلام المؤلف المنظوم قبل أن يتكلم به.
وقد تنازع الناس، هل يمكن وجود حروف بدون أصوات في الحي الناطق؟ على قولين لهم، وعلى هذا تنازعت هذه الطائفة القائلة بقدم أعيان الحروف، هل تكون قديمة بدون أصوات قديمة أم لابد من أصوات قديمة لم تزل ولا تزال؟ ثم القائلون بقدم الأصوات المعينة تنازعوا في المسموع من القارئ، هل يسمع منه الصوت القديم؟ فقيل: المسموع هو الصوت القديم وقيل: بل المسموع هو صوتان: أحدهما: القديم، والآخر:المحدث، فما لابد منه في وجود القرآن فهو القديم، وما زاد على ذلك فهو المحدث.
وقيل: بل الصوت القديم غير المسموع من العبد.
وتنازعوا في القرآن هل يقال: إنه حال في المصحف والصدور أم لا يقال ذلك؟ على قولين.
فقيل: هو ظاهر في المحدث ليس بحال فيه.
وقيل: بل القرآن حال في الصدور والمصاحف، فهؤلاء الخلقية والحادثية، والاتحادية والاقترانية، أصل قولهم: أن مالا يسبق الحوادث فهو حادث مطلقاً.
ومن قال بهذا الأصل.
فإنه يلزمه بعض هذه الأقوال أو ما يشبه ذلك، فإن من الناس من يجعله حادثاً، يريد أنه كائن بعد أن لم يكن، ويجعل الحادثات إرادات وتصورات لا حروف وأصوات.
والداربي وغيره يميلون إلى هذا القول؛ فإنه إما أن يجعل كلام الله حادثاً أو قديما، وإذا كان حادثاً فإما أن يكون حادثاً في غيره، وإما أن يكون حادثاً في ذاته، وإذا كان قديماً فإما أن يكون القديم المعنى فقط، أو اللفظ فقط، أو كلاهما، فإذا كان القديم هو المعنى فقط لزم ألا يكون الكلام المقروء كلام الله تعالى ثم الكلام في ذلك المعنى قد عرف.
وأما قدم اللفظ فقط، فهذا لم يقل به أحد، لكن من الناس من يقول: إن الكلام القديم هو اللفظ، وأما معناه فليس هو داخلا في مسمى الكلام، بل هو العلم والإرادة وهما قديمان، لكن ليس ذلك داخلا في مسمى الكلام، فهذا يقول: الكلام القديم هو اللفظ فقط إما الحروف المؤلفة وإما الحروف والأصوات، لكنه يقول: إن معناه قديم.
وأما الفريق الثاني الذين قالوا بجواز حوادث لا أول لها مطلقاً، وأن القديم الواجب بنفسه يجوز أن تتعقب عليه الحوادث مطلقاً، وإن كان ممكناً لا واجباً بنفسه فهؤلاء القائلون بقدم العالم كما يقولون بقدم الأفلاك، وأنها لم تزل ولا تزال معلولة لعلة قديمة أزلية، لكن المنتسبون إلى الملل كابن سينا ونحوه منهم، قالوا: إنها صادرة عن الواجب بنفسه الموجب لها بذاته، وأما أرسطو وأتباعه فإنهم قالوا: إن لها علة غائية تتحرك للتشبه بها في تحركها، كما يحرك المعشوق عاشقه، ولم يثبتوا لها مبدعاً موجبا ولا موجباً قائماً بذاته، ولا قالوا: إن الفلك ممكن بنفسه واجب بغيره، بل الفلك عندهم واجب بنفسه، لكن قالوا مع ذلك: إن له علة غائية يتحرك للتشبه بها لا قوام له إلا بها، فجعلوا الواجب بنفسه الذي لا فاعل له مفتقراً إلى علة غائية منفصلة عنه، هذه حقيقة قول أرسطو وأتباعه؛ ولهذا لم يثبتوا الأول عالماً بغيره؛ إذ لم يكن الأول عندهم مبدعا للفلك؛ فإنه إذا كان مبدعا يجب أن يكون عالما بمفعوله، كما قال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
ولهذا كانت أقوالهم في الإلهيات من أعظم الأقوال فسادا، بخلاف أقوالهم في الطبيعيات؛ ولهذا كان قولهم أشد فسادا في العقل والدين من قول ابن سينا وأتباعه، ولم يثبت أرسطو وأتباعه [العلة الأولى] بطريقة الوجود، ولا قسموا الوجود القديم إلى واجب و ممكن، بل الممكن عندهم لا يكون إلا حادثاً، ولا أثبتوا للموجود الواجب الخصائص المميزة للرب عن الأفلاك، بل هذا من تصرف متأخريهم الذين خلطوا فلسفتهم بكلام المعتزلة ونحوهم، وإنما أثبت واجب الوجود بطريقة الوجود ابن سينا وأتباعه.
وحقيقة قول هؤلاء وجود الحوادث بلا محدث أصلا، أما على قول من جعل الأول علة غائية للحركة فظاهر، فإنه لا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعلا لها، فقولهم في حركات الأفلاك نظير قول القدرية في حركة الحيوان، وكل من الطائفتين قد تناقض قولهم؛ فإن هؤلاء يقولون بأن فعل الحيوان صادر عن غيره؛ لكون القدرة والداعي مستلزمين وجود الفعل، والقدرة والداعي كلاهما من غير العبد.
فيقال لهم: فقولوا هكذا في حركة الفلك بقدرته وداعيه؛ فإنه يجب أن يكونا صادرين عن غيره، وحينئذ فيكون الواجب بنفسه هو المحدث لتلك الحوادث شيئاً بعد شيء، وإن كان ذلك بواسطة العقل، وهذا القول هو الذي يقوله ابن سينا وأتباعه، وهو باطل أيضاً؛ لأن الموجب بذاته القديم الذي يقارنه موجبه ومقتضاه يمتنع أن يصدر عنه حـادث بواسطة أو بلا واسطة، فإن صدور الحوادث عن العلة التامة الأزلية ممتنع لذاته.
وإذا قالوا: الحركة بتوسطه، أي بتوسط حركة الفلك، قيل لهم: فالكلام إنما هو في حدوث الحركة الفلكية؛ فإن الحركة الحادثة شيئاً بعد شيء يمتنع أن يكون المقتضى لها علة تامة أزلية، مستلزمة لمعلولها؛ فإن ذلك جمع بين النقيضين؛ إذ القول بمقارنة المعلول لعلته في الأزل ووجوده معها يناقض أن يتخلف المعلول أو شيء من المعلول عن الأزل، بل يمتنع أن يكون المقتضى لها ذاتا بسيطة لا يقوم بها شيء من الصفات والأحوال المقتضية لحدوث الحوادث المتعاقبة المختلفة، بل يمتنع أن يكون المقتضي لها ذاتا موصوفة لا يقوم بها شيء من الأحوال الموجبة لحدوث الحوادث المذكورة، فإن التجدد والتعدد الموجود في المعلولات يمتنع صدوره عن علة واحدة بسيطة من كل وجه، فصار حقيقة قولهم أن الحوادث العلوية والسفلية لا محدث لها.
وهؤلاء يقولون: كلام الله ما يفيض علي النفوس الصافية، كما أن ملائكة الله عندهم ما يتشكل فيها من الصور النورانية، فلا يثبتون له كلاما خارجاً عما في نفوس البشر، ولا ملائكة خارجة عما في نفوسهم غير [العقول العشرة]، و[النفوس الفلكية التسعة]، مع أن أكثرهم يقولون: إنها أعراض، وقد بين في غير هذا الموضع أن ما يثبتونه من المجردات العقلية التي هي العقول والنفوس والمواد والصور، إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان.
وأما الصنف الثالث، الذين فرقوا بين الواجب والممكن، والخالق والمخلوق، والغنى الذي لا يفتقر إلى غيره، والفقير الذي لا قوام له إلا بالغني، فقالوا: كل ما قارن الحوادث من الممكنات فهو محدث كائن بعد أن لم يكن، وهو مخلوق مصنوع مربوب، وأنه يمتنع أن يكون فيما هو فقير ممكن مربوب شيء قديم، فضلا عن أن تقارنه حوادث لا أول لها؛ ولهذا كانت حركات الفلك دليلا على حدوثه كما تقدم التنبيه على ذلك.
وأما الرب تعالى إذا قيل: لم يزل متكلماً إذا شاء، أو لم يزل فاعلا لما يشاء، لم يكن دوام كونه متكلما بمشيئته وقدرته، ودوام كونه فاعلا بمشيئته وقدرته ممتنعاً، بل هذا هو الواجب؛ لأن الكلام صفة كمال لا نقص فيه، فالرب أحق أن يتصف بالكلام من كل موصوف بالكلام؛إذ كل كمال لا نقص فيه ثبت للمخلوق فالخالق أولى به؛ لأن القديم الواجب الخالق أحق بالكمال المطلق من المحدث الممكن المخلوق؛ ولأن كل كمال ثبت للمخلوق فإنما هو من الخالق، وما جاز اتصافه به من الكمال وجب له؛ فإنه لو لم يجب له لكان إما ممتنعاً وهو محال بخلاف الفرض، وإما ممكناً، فيتوقف ثبوته له على غيره، والرب لا يحتاج في ثبوت كماله إلى غيره؛ فإن معطى الكمال أحق بالكمال، فيلزم أن يكون غيره أكمل منه لو كان غيره معطياً له الكمال، وهذا ممتنع؛ بل هو بنفسه المقدسة مستحق لصفات الكمال، فلا يتوقف ثبوت كونه متكلما على غيره، فيجب ثبوت كونه متكلما، وإن ذلك لم يزل ولا يزال، والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازماً له بدون قدرته ومشيئته، والذي لم يزل متكلما إذا شاء أكمل ممن صار الكلام يمكنه بعد أن لم يكن الكلام ممكناً له.
وحينئذ، فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وإن قيل: إنه ينادى ويتكلم بصوت ولا يلزم من ذلك قدم صوت معين، وإذا كان قد تكلم بالتوراة والقرآن والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديماً لم يستلزم أن تكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة؛ لما علم من الفرق بين النوع والعين، وهذا الفرق ثابت في الإرادة والكلام، والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات، وبه تنحل الإشكالات الواردة على وحدة هذه الصفات وتعددها، وقدمها وحدوثها، وكذلك تزول به الإشكالات الواردة في أفعال الرب، وقدمها وحدوثها، وحدوث العالم.
وإذا قيل: إن حروف المعجم قديمة بمعنى النوع كان ذلك ممكناً، بخلاف ما إذا قيل: إن عين اللفظ الذي نطق به زيد وعمرو قديم، فإن هذا مكابرة للحس. والمتكلم يعلم أن حروف المعجم كانت موجودة قبل وجوده بنوعها.
وأما نفس الصوت المعين الذي قام به التقطيع أو التأليف المعين لذلك الصوت، فيعلم أن عينه لم تكن موجودة قبله، والمنقول عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة مطابق لهذا القول؛ ولهذا أنكروا على من زعم أن حرفاً من حروف المعجم مخلوق، وأنكروا على من قال: [لما خلق الله الحروف سجدت له إلا الألف، فقالت: لا أسجد حتى أومر]، مع أن هذه الحكاية نقلت لأحمد عن سري السقطى.
وهو نقلها عن بكر بن خُنَيْس العابد، ولم يكن قصد أولئك الشيوخ بها إلا بيان أن العبد الذي يتوقف فعله على الأمر والشرع هو أكمل من العبد الذي يعبد الله بغير شرع، فإن كثيرا من العباد يعبدون الله بما تحبه قلوبهم، وإن لم يكونوا مأمورين به، فقصد أولئك الشيوخ أن من عبد الله بالأمر ولم يفعل شيئاً حتى يؤمر به،فهو أفضل ممن عبده بما لم يؤمر به، وذكروا هذه الحكاية الإسرائيلية شاهداً لذلك، مع أن هذه لا إسناد لها، ولا يثبت بها حكم، ولكن الإسرائيليات إذا ذكرت على طريق الاستشهاد بها لما عرف صحته لم يكن بذكرها بأس، وقصدوا بذلك الحروف المكتوبة؛ لأن الألف منتصبة وغيرها ليس كذلك، مع أن هذا أمر اصطلاحي، وخط غير العربي لا يماثل خط العربي، ولم يكن قصد أولئك الأشياخ أن نفس الحروف المنطوقة التي هي مباني أسماء الله الحسنى، وكتبه المنزلة، مخلوقة بائنة عن الله، بل هذا شيء لعله لم يخطر بقلوبهم، والحروف المنطوقة لا يقال فيها: إنها منتصبة ولا ساجدة، فمن احتج بهذا من قولهم على أنهم يقولون: إن الله لم يتكلم بالقرآن العربي ولا بالتوراة العبرية، فقد قال عنهم ما لم يقولوه.
وأما الإمام أحمد، فإنه أنكر إطلاق هذا القول، وما يفهم منه عند الإطلاق، وهو أن نفس حروف المعجم مخلوقة، كما نقل عنه أنه قال: ومن زعم أن حرفاً من حروف المعجم مخلوق، فهذا جهمي يسلك طريقاً إلى البدعة، فإنه إذا قال: إن ذلك مخلوق، فقد قال: إن القرآن مخلوق أو كما قال. ولا ريب أن من جعل نوع الحروف مخلوقاً بائناً عن الله كائناً بعد أن لم يكن، لزم عنده أن يكون كلام الله العربي والعبري ونحوهما مخلوقا، وامتنع أن يكون الله متكلماً بكلامه، الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا يكون شيء من ذلك كلامه، فطريقة الإمام أحمد وغيره من السلف مطابقة للقول الثالث، الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول.
وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي.
في كتابه الذي سماه:[الفصول في الأصول]: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرائيني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل عليه السلام مسموعا من الله،والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي نتلوه نحن مقروء بألسنتنا، وفيما بين الدفتين،وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا، ومحفوظاً ومقروءاً، وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق فهو كافر، عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.
والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع، وذكر ما يتعلق بهذا الباب من الكلام في سائر الصفات، كالعلم والقدرة والإرادة، والسمع والبصر والكلام في تعدد الصفة واتحادها، وقدمها وحدوثها، أو قدم النوع دون الأعيان، أو إثبات صفة كلية عمومية متناولة الأعيان، مع تجدد كل معين من الأعيان، أو غير ذلك مما قيل في هذا الباب، فإن هذه مواضع مشكلة، وهي من محارات العقول؛ ولهذا اضطرب فيها طوائف من أذكياء الناس ونظارهم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني عشر.