كِرَاءِ الأَرْضِ والشَّجَر بِالسّنَةِ

منذ 2013-02-05
السؤال:

هل يجوز كِرَاءِ الأرضِ والشَّجَر بالسنَةِ؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فلا حَرَجَ في كراء الأرضِ لِمنفعةٍ مُباحة بذَهَبٍ أو فِضَّة أو ما يقومُ مَقامَهُما من نُقودٍ ماليَّة أو بقدْرٍ منَ الطَّعام معلوم إلى أجل معلوم؛ ففي الحديث المتَّفق عليْهِ أنَّ حنظلة بْنَ قَيس سأل رافع بن خديج عن كِراء الأَرْض؟ فقال: ""نَهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن كِراء الأرْض، قال: فقُلْتُ: بِالذَّهب والفضَّة؟ قال: إنَّما نَهى عنْها بِبَعْضِ ما يَخرُج منها، أمَّا بالذَّهب والفِضَّة فَلا بَأْس"، وفي رواية لمسلم: "أَمَّا شَىْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلاَ بَأْسَ بِهِ".

قال الإمام ابن المنْذِر رحِمه الله في كتاب "الإجماع": "وأجْمعوا على أنَّ اكْتِراءَ الأَرْضِ بالذَّهب والفِضَّة وقتًا مَعلومًا جائزٌ، وانْفَرَدَ طاوُوس والحَسَنُ فَكَرِهاها". اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابْنُ تيمية رحِمه الله في "الفتاوى الكبرى": "قَد ثَبَتَ إباحةُ كِراء الأرض بالسُّنَّة واتّفاق الفُقَهاء المَتبوعين".

وذهب إلى عَدَم جَواز كِراء الأرض مُطْلقًا طاووس والحَسَن البَصْري وأَخَذَ بِه ابن حَزْم، واحتَجُّوا بِأدلة مُطْلقة منها ما جاء في "الصَّحيحيْنِ" من حديث رافع بن خديج أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْهِ وسلَّم "نَهى عن كِراء الأرض"، وهذا لفظ مختصر، وتقدم لفظ الحديث بتمامه، وهو يوضح أنه يجوز كراؤها بالذهب والفضة، وقد بيَّن شيخُ الإسلام رحِمه الله أن النَّهي عن كراء الأرض مَحمولٌ على صورةٍ معيَّنة فقال: "المراد بذلك الكِراء الذي كانوا يعتادونه من الكِراء والمعاوضة اللَّذَيْنِ يَرجع كلٌّ مِنْهُما إلى بَيْعِ الثَّمرة قبل أن تصلُح، وإلى المُزارعة المشروط فيها جزءٌ مُعَيَّن، وهذا نَهيٌ عمَّا فيه مَفسدةٌ راجِحة". اهـ.

والراجح جواز إجارة الأرض بمبلغ مقطوع، وعدم جواز الإجارة بجزء من الخارج من الأرض وهو قول أكثَر أهل العلم؛ لِجهالة العِوض في عَقْدِ الإجارة.

أمَّا استِئْجار الشَّجر من أجل الانتِفاع بالثَّمر، فقد اختلف فيه أهل العلم فمَنَعَ منه الجُمهور؛ لأنَّه بيع منافع وهي هنا الثَّمرة، وأجازه ابْنُ عقيل وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم.

قال في "الإنصاف": "لا تَجوزُ إجارةُ أرضٍ وشجر لِحَملِها، على الصَّحيحِ مِن المذهب، وعليْهِ جَماهيرُ الأصحاب، وقَطَعَ بِه أكثَرُهم وحَكاهُ أبو عبيدٍ إجْماعًا، وجوَّزه ابْنُ عقيل تبعًا للأرض، واختارَهُ الشَّيخ تقيّ الدِّين وصاحب الفائق".

وقال في "الفروع": "وجوَّز شيخُنا إجارة الشجر مفردًا ويقوم عليها المستأْجِر، فإنْ تلفَتِ الثمرة فلا أُجرة، وإن نَقَصَتْ عن العادة فالفَسخُ أو الأرْشُ لعدم المنفعة المقصودة بالعَقد، وهي كجائحة" اهـ.

وقد نصر شيخُ الإسلام ابن تَيْمية القول بالجواز وأجاب على اعتراضات الجمهور فقال في مجموع الفتاوى: "وقول القائل: الإجارة إنَّما تكون على المنافِع دونَ الأعيان، ليس هو قولاً للَّه ولا لِرَسولِه ولا الصَّحابة ولا الأئِمَّة؛ وإنَّما هو قولٌ قالتْهُ طائفةٌ منَ النَّاس، فيُقال لهؤلاء: لا نسلم أنَّ الإجارة لا تكونُ إلاَّ على المنافع فَقَطْ؛ بل الإجارة تكونُ على ما يتجدَّد ويَحدُث ويُسْتَخْلَف بَدَله مع بقاء العَين؛ كمياه البئر وغير ذلك سواءٌ كان عينًا أو منفعةً، كما أنَّ الموقوفَ يَكونُ ما يتجدَّد وما تَحدث فائِدتُه شيئًا بعدَ شيْء سواءٌ كانتِ الفائدة منفعةً أو عينًا كالتَّمر واللَّبَنِ والماءِ النَّابع، وكذلِكَ العاريَّة، وهو عمَّا يَكونُ الانتِفاعُ بِما يَحدث ويستخلف بدله، يقال: أفْقر الظَّهرَ وأعْرى النَّخلة ومنَح النَّاقة، فإذا منحهُ النَّاقة يشرب لبنها ثُمَّ يردّها أو أعْراهُ نَخلة يأكل ثَمَرها ثُمَّ يردّها وهو مثل أن يُفْقِره ظهرًا يركَبُه ثُمَّ يردُّه، وكذلكَ إكْراءُ المرأة أو طيرٍ أو ناقةٍ أو بقرةٍ أو شاةٍ يَشْرَبُ لبَنَهَا مدَّة معلومةً، فهو مثل أن يكون دابَّة يركَبُ ظهرَها مدَّة معلومة، وإذا تغيَّرت العادة في ذلك كان تغيُّر العادة في المنفعة يملك المستأجر؛ إمَّا الفَسْخ وإمَّا الأرْش، وكذلك إذا أَكْرَاهُ حديقةً يستعْمِلُها حولاً أو حولَيْنِ كما فعَلَ عُمَر بن الخطاب لَمَّا قبِل حديقة أسيد بن الحضير ثلاثَ سنينَ وأخذ المال وقضى بهِ دينًا كان عليه، وإذا كان المستأجِرُ هو الذي يقوم على هذه الدوابّ فهو إجارة وهو أوْلَى بِالجَواز من إجارة الظِّئر".

وقال: "ليس في أُصُولِ الشَّرع ما يَنْهَى عن بَيْعِ كل معدوم؛ بل المَعْدُوم الَّذي يحتاج إلى بَيْعِه وهو معروفٌ في العادة: يَجوزُ بَيْعُه كما يَجوزُ بَيْعُ الثَّمرة بعد بدو صلاحها؛ فإنَّ ذلِكَ يصحُّ عند جُمهور العُلماء، كما دلَّتْ عليْهِ السُّنَّة مع أنَّ الأجزاء التي تُخْلَق بَعْدُ معدومة وقد دخلَتْ في العقد". اهـ.

وقد نَصَرَ هذا القَوْلَ ابْنُ القيِّم في "زاد المعاد" من وجوهٍ كثيرةٍ نَذْكُر بعضَها وتُراجَعُ البقيَّة لأهمّيَّتها، قال: "فإن قيل: مَوْرِدُ عقد الإجارة إنَّما هو المنافع لا الأعيان، ولِهذا لا يَصِحُّ استِئْجار الطَّعام ليأْكُلَه والماء ليشْرَبَه، وأمَّا إجارة الظِّئر فعلى المنفعة وهي وَضْع الطفل في حِجْرِها وإلقامُه ثديَها واللبن يدْخُل ضِمْنًا وتَبَعًا، فهُوَ كنقْعِ البِئْرِ في إجارة الدَّار ويغتفر فيما دخل ضِمْنًا وتبعًا ما لا يُغْتَفَر في الأصول والمتبوعات.

قيل: الجوابُ عن هذا من وجوه:
أحدُها: مَنْعُ كَوْنِ عقْدِ الإجارة لا يَرِدُ إلا على منفعةٍ فإنَّ هذا ليس ثابتًا بالكِتاب ولا بالسُّنَّة ولا بالإجْماع، بَل الثَّابتُ عن الصحابة خلافُه، كما صحَّ عن عُمَر رضي الله عنه ولا يُعلم له في الصحابة مُخالف.

وغايةُ ما معكم قياسُ مَحلّ النّزاع على إجارة الخُبْزِ للأَكْل والماء للشُّرب، وهذا من أفسد القياس فإنَّ الخُبْزَ تذْهَبُ عينُه ولا يُستَخْلَف مثلُه بِخلاف اللبن ونقْع البِئْر فإنَّه لمَّا كان يُستخْلف ويَحدُثُ شيئًا فشيئًا كان بِمَنزلة المنافع.

الوَجْه الثاني: وهو أنَّ الثَّمر يَجري مَجرى المنافع والفوائد في الوقف والعاريَّة ونَحوها، فيجوز أن يقف الشجرة ليَنْتَفع أهْلُ الوَقْفِ بِثَمراتِها كما يَقِفُ الأرض لينتفع أهْلُ الوقف بغلَّتِها، ويَجوز إعارة الشَّجرة كما يَجوز إعارة الظَّهر وعاريَّة الدَّار ومنيحة اللَّبن، وهذا كله تبرُّع بنماء.

الوجْهُ الثالث: وهو أنَّ الأعيان نوعان: نوعٌ لا يُسْتخلف شيئًا فشيئًا بل إذا ذَهَبَ ذَهَبَ جُملةً، ونوعٌ يُسْتَخْلَف شيئًا فشيئًا كلَّما ذَهَبَ منه شيءٌ خلَفَهُ شيء مِثْلُه، فهذا رُتْبَةٌ وُسْطى، فينبَغِي أن يُنْظَر في شبهِه بأيّ النَّوعَيْنِ فيلحق به.

الوَجْهُ الرَّابع: وهو أنَّ الله سُبحانَه نصَّ في كِتابِه على إجارة الظِّئر وسمَّى ما تأْخُذه أجرًا، وليس في القُرآنِ إجارةٌ منصوصٌ عليْها في شريعَتِنا إلا إجارة الظِّئْر بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطَّلاق: 6].

الوَجْهُ الخامس: وهو أنَّ الأصل في العُقُود وجوب الوفاء إلاَّ ما حرَّمَهُ اللهُ ورسولُه؛ فإنَّ المُسْلِمين على شُرُوطِهم إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالاً، فلا يُحرَّم من الشُّروط والعُقُود إلاَّ ما حرَّمه الله ورسولُه وليس مع المانِعِين نصٌّ بالتَّحريم البتَّة، وإنَّما معهُم قياسٌ قد عُلِمَ أنَّ بيْن الأصْلِ والفَرع فيه من الفَرْق ما يَمنع الإلحاقَ وأنَّ القِياسَ الذي مَعَ مَن أجازَ ذلك أقْرَبُ إلى مُساواة الفَرْعِ لأصْلِه.

الوجه السادس: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليْهِ وسلَّم ندب إلى منيحة العنْز والشَّاة للَبَنِها وحضَّ على ذلك، وليس ببيعٍ ولا هِبة، فإنَّ هِبَة المعدوم المَجْهول لا تَصِحُّ وإنَّما هو عارية الشَّاة للانتفاع بلَبَنِها.

الوَجْه السابع: أنَّ المستوفَى بعقد الإجارة على زَرْع الأرض هو عيْنٌ من الأعيان، وهو المُغَلّ، وليس له مقصودٌ في منفعة الأرض غَيْر ذلك". اهـ. باختصار
وهذا القَوْلُ هو الظَّاهِرُ والأَنْسبُ بِقَواعِدِ الشَّرع ومَقاصِده،، والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 2
  • 2
  • 26,145

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً