حقيقة تملك السلع وقبضها في بيع المرابحة كما تجريه البنوك الإسلامية
أرجو توضيح حقيقة تملك السلع وقبضها من البنك الإسلامي قبل بيعها للآمر بالشراء في بيع المرابحة المعمول به في البنوك الإسلامية.
بيع المرابحة عند الفقهاء هو بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح. وصورة بيع المرابحة المستعملة الآن في البنوك الإسلامية هي أن يتفق العميل والبنك على أن يقوم العميل بشراء البضاعة بربحٍ معلومٍ بعد شراء البنك لها، وهذه الصورة هي المسماة ببيع المرابحة للآمر بالشراء فيجوز شرعًا للبنك الإسلامي أن يشتري السلعة بناءً على رغبة عميله وطلبه ما دام أن ذلك متفق مع الضوابط الشرعية لعقد البيع.
ومن أهم الضوابط الشرعية لبيع المرابحة هو تملك البنك للسلعة تملكًا حقيقيًا، جاء في معيار المرابحة: "يحرم على المؤسسة أن تبيع سلعة بالمرابحة قبل تملكها لها. فلا يصح توقيع عقد المرابحة مع العميل قبل التعاقد مع البائع الأول لشراء السلعة موضوع المرابحة، وقبضها حقيقةً أو حكمًا بالتمكين أو تسليم المستندات المخولة بالقبض... يجب التحقق من قبض المؤسسة للسلعة قبضًا حقيقيًا أو حكميًا قبل بيعها لعميلها بالمرابحة للآمر بالشراء" (المعيار الشرعي رقم 8 من معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية). وما ورد في المعيار السابق من أنه يحرم البيع قبل التملك وأنه يجب التحقق من قبض المؤسسة للسلعة قبضًا حقيقيًا أو حكميًا قبل بيعها لعميلها بالمرابحة للآمر بالشراء، فهذا مبني على النصوص الشرعية التي منعت البيع قبل التملك، كما في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل فيسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه؟ قال: "لا تبع ما ليس عندك" (رواه أصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/132). وأما مسألة القبض ففيها خلاف بين الفقهاء من حيث ما يشترط فيه القبض وما لا يشترط فيه، قال الشيخ ابن رشد المالكي: "فيما يشترط فيه القبض من المبيعات، وأما بيع ما سوى الطعام قبل القبض، فلا خلاف في مذهب مالك في إجازته، وأما الطعام الربوي فلا خلاف في مذهبه أن القبض شرط في بيعه. وأما غير الربوي من الطعام، فعنه في ذلك روايتان: إحداهما: المنع وهي الأشهر. وبها قال أحمد وأبو ثور، إلا أنهما اشترطا مع الطعام الكيل والوزن. والرواية الأخرى: الجواز. وأما أبو حنيفة فالقبض عنده شرطٌ في كل بيع ما عدا المبيعات التي لا تنتقل ولا تُحَول من الدور والعقار. وأما الشافعي فإن القبض عنده شرط في كل مبيع، وبه قال الثوري. وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس، وقال أبو عبيد وإسحاق: كل شيء لا يكال ولا يوزن فلا بأس ببيعه قبل قبضه، فاشترط هؤلاء القبض في المكيل والموزون، وبه قال ابن حبيب وعبد العزيز بن أبي سلمة وربيعة، وزاد هؤلاء مع الكيل والوزن المعدود. فيتحصل في اشتراط القبض سبعة أقوال: الأول: في الطعام الربوي فقط. والثاني: في الطعام بإطلاق. الثالث: في الطعام المكيل والموزون.الرابع: في كل شيء ينقل. الخامس:في كل شيء. السادس:في المكيل والموزون. السابع: في المكيل والموزون والمعدود" (بداية المجتهد 2/117). ولا بد أن نعرف أنه لم يرد في الشرع تحديد لكيفية القبض، وإنما مرجع ذلك هو العرف والعادة، وقد قرر الفقهاء أن ما لم يرد له في الشرع تحديد فمرجعه إلى أعراف الناس ومعتادهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارة باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر، وتارة بالعرف كالقبض والتفريق وكذلك العقود كالبيع والإجارة والنكاح والهبة وغير ذلك، فما تواطأ الناس على شرط وتعاقدوا فهذا شرط عند أهل العرف" (مجموع الفتاوى 29/448). وقال الإمام القرافي: "وأما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها" (شرح تنقيح الفصول ص 488). وقال العلامة ابن عابدين الحنفي: "والعرف في الشرع له اعتبار.. لذا عليه الحكم قد يدار" (مجموعة رسائل ابن عابدين 2/112). إذا تقرر هذا فإن معرفة حقيقة القبض ترجع إلى العرف وما تعامل به الناس، قال الإمام النووي: "الرجوع فيما يكون قبضًا إلى العادة وتختلف بحسب اختلاف المال" (المجموع 9/276). وورد في الموسوعة الفقهية: "تحديد القبض وتحققه: مذهب المالكية والشافعية والحنابلة أن قبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلاً أو موزونًا أو معدودًا أو مذروعًا، فقبضه بالكيل أو الوزن أو العد أو الذرع... وإن كان جزافًا فقبضه نقله... وإن كان منقولاً من عروض وأنعام، فقبضه بالعرف الجاري بين الناس كما يقول المالكية: كاحتياز الثوب، وتسليم مقود الدابة أو ينقله إلى حيز لا يختص به البائع عند الشافعية. وفصَّل الحنابلة في المنقول من العروض والأنعام فقالوا: إن كان المبيع دراهم أو دنانير، فقبضها باليد، وإن كان ثيابًا فقبضها نقلها. وإن كان حيوانًا، فقبضه تمشيته من مكانه، وإن كان عقارًا فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري، بلا حائل دونه، وتمكينه من التصرف فيه، بتسليمه المفتاح إن وجد، بشرط أن يفرغه من متاع غير المشتري عند الشافعية... واعتبر الحنفية التخلية -وهي: رفع الموانع والتمكين من القبض- قبضًا حكمًا على ظاهر الرواية، وروى أبو الخطاب مثل ذلك عن أحمد وشرط مع التخلية التمييز" (الموسوعة الفقهية الكويتية 9/132-134 بتصرف).
وبما أن قبض الأشياء مبنيٌ على العرف فإن قبض الأشياء المستجدة يكون أيضًا حسب ما يتعارفه الناس، فهنالك صور للقبض مستحدثة كما في قبض الشيكات والكمبيالات والقيد على الحساب ووثائق الشحن ونحوها، وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن القبض وبخاصة صوره المستجدة ما يلي:
أولاً: قبض الأموال كما يكون حسيًا في حالة الأخذ باليد، أو الكيل أو الوزن في الطعام، أو النقل والتحويل إلى حوزة القابض، يتحقق اعتبارًا وحكمًا بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حسًا. وتختلف كيفية قبض الأشياء بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضًا لها.
ثانيًا: إن من صور القبض الحكمي المعتبرة شرعًا وعرفًا:
1- القيد المصرفي لمبلغ من المال في حساب العميل في الحالات التالية:
أ- إذا أُودعَ في حساب العميل مبلغٌ من المال مباشرة أو بحوالة مصرفية.
ب- إذا عقد العميل عقْدَ صرفٍ ناجزٍ بينه وبين المصرف في حال شراء عملة بعملة أخرى لحساب العميل.
ج- إذا اقتطع المصرف -بأمر العميل- مبلغًا من حسابٍ له إلى حسابٍ آخر بعملة أخرى، في المصرف نفسه أو غيره، لصالح العميل أو لمستفيد آخر، وعلى المصارف مراعاة قواعد عقد الصرف في الشريعة الإسلامية. ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي، للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسلم الفعلي.
2- تسلم الشيك إذا كان له رصيد قابل للسحب بالعملة المكتوب بها عند استيفائه وحجَزَه المصرف" (مجلة المجمع الفقهي 6/1/453).
وبناءً على ما سبق فإن القبض المعمول به في البنوك الإسلامية للسلع في بيع المرابحة يكون وفق الضوابط التالية:
1- يجب التحقق من قبض البنك للسلعة قبضًا حقيقيًا أو حكميًا قبل بيعها لعميله بالمرابحة للآمر بالشراء.
2- ينتقل الضمان من البائع الأول إلى البنك بالقبض أو بالتمكين منه. ويجب أن تتضح نقطة الفصل التي ينتقل فيها ضمان السلعة من البائع الأول إلى البنك، ومن البنك إلى عميله، وذلك من خلال مراحل انتقال السلعة من طرف لآخر.
3-إن كيفية قبض الأشياء تختلف بحسب حالها واختلاف الأعراف فيما يكون قبضًا لها، فكما يكون القبض حسيًا في حالة الأخذ باليد أو النقل أو التحويل إلى حوزة القابض أو وكيله يتحقق أيضًا اعتبارًا وحكمًا بالتخلية مع التمكين من التصرف ولو لم يوجد القبض حسًا بما في ذلك المنقولات إذا جرى بها العرف.
4- يعد قبضًا حكميًا تسلم البنك أو وكيله لمستندات الشحن عند شراء البضائع من السوق الخارجية، وكذلك تسلمه لشهادات التخزين التي تعين البضاعة من المخازن التي تدار بطرق مناسبة موثوق بها.
5- فرز البضاعة المشتراة من قبل البنك في مخازن البائع بصورة مميزة يُعد قبضًا صحيحًا لها إذا اقترن بأحد الأمور الآتية:
أ-إ ذا تم الفرز بمعاينة مندوب البنك.
ب- إذا تسلم البنك أوراقًا تثبت ملكيته للسلع المفرزة.
ت- إذا كانت السلع مرقمة وسجلت أرقام السلع المفرزة لصالح البنك" (ضوابط عقد المرابحة الصادرة عن الـهيئة الـشرعية لبنك البلاد الإسلامي).
وهذه الضوابط تعتمد على التخلية وهي رفع الموانع والتمكين من القبض كما سبق، ومستندها ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فكنت على بَكْرٍ صعبٍ -ولد الناقة أول ما يركب وهو نفور لم يذلل- لعمر فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم فيزجره عمر ويرده ثم يتقدم فيزجره عمر ويرده، فقال النبي صلى الله عليه و سلم لعمر: بعنيه. قال هو لك يا رسول الله قال: بعنيه. فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت" (رواه البخاري)، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "وقد احتج به للمالكية والحنفية في أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية وإليه مال البخاري" (فتح الباري 4/335). وقال الكاساني: "والتخلية هي: أن يخلي البائع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما على وجهٍ يتمكن المشتري من التصرف فيه، فيجعل البائع مُسَلمًا للمبيع والمشتري قابضًا له. فالتخلية بين المبيع وبين المشتري قبضٌ وإن لم يتم القبض حقيقةً فإذا هلك يهلك على المشتري" (بدائع الصنائع 5/244).
وخلاصة الأمر أن قبض السلع يحدد بناءً على العرف، حيث لم يرد له تحديد في الشرع، وما كان كذلك فالمرجع فيه للعرف، وأن صور القبض المستجدة كذلك، ومعتمد ما يتم في البنوك الإسلامية من صور للقبض موافق لمبدأ التخلية المقرر في الفقه الإسلامي وعمل به كثير من الفقهاء.
تاريخ الفتوى: 12-6-2010.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: