زعم ابن حزم أن [العود] لم يروه إلا زاذان عن البراء
ابن تيمية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
السؤال: زعم ابن حزم أن [العود] لم يروه إلا زاذان عن البراء
الإجابة: وزعم ابن حزم أن [العود] لم يروه إلا زاذان عن البراء وضعفه، وليس
الأمر كما قاله، بل رواه غير زاذان عن البراء.
وروى عن غير البراء مثل عدي بن ثابت وغيره.
وقد جمع الدارقطني طرقه في مصنف مفرد، مع أن زاذان من الثقات، روى عن أكابر الصحابة كعمر وغيره، وروى له مسلم في [صحيحه] وغيره، قال يحيى بن معين: هو ثقة، وقال حميد بن هلال وقد سئل عنه فقال:هو ثقة، لا يسأل عن مثل هؤلاء، وقال ابن عدي: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عنه ثقة، وكان يتبع الكرابيسي، وإنما رماه من رماه بكثرة كلامه.
وأما المنهال بن عمرو، فمن رجال البخاري.
وحديث [عود الروح] قد رواه عن غير البراء أيضًا.
وحديث زاذان مما اتفق السلف والخلف على روايته وتلقيه بالقبول.
وأرواح المؤمنين في الجنة، وإن كانت مع ذلك قد تعاد إلى البدن، كما أنها تكون في البدن، ويعرج بها إلى السماء كما في حال النوم.
أما كونها في الجنة، ففيه أحاديث عامة، وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء، واحتجوا بالأحاديث المأثورة العامة وأحاديث خاصة في النوم وغيره.
فالأول مثل حديث الزهري المشهور الذي رواه مالك عن الزهري في [موطئه] وشعيب بن أبي حمزة وغيرهما، وقد رواه الإمام أحمد في [المسند] وغيره.
قال الزهري: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك: أن كعب بن مالك الأنصاري وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم كان يحدث أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال" ، فأخبر أنه يعلق في شجر الجنة حتى يرجع إلى جسده، يعني في النشأة الآخرة.
قال أبو عبد اللّه بن منده: ورواه يونس، والزبيدي، والأوزاعي، وابن إسحاق.
وقال عمرو بن دينار، وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه قال... قال صالح بن كَيْسَان، وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، أنه بلغه أن كعبًا قال... رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
قلت: وفي الحديث المشهور حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أبو حاتم في [صحيحه] وقد رواه أيضًا الأئمة.
قال .
وفي لفظ .
قال أبو هريرة: قال اللّه تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، وفي لفظ" .
وهذه الإعادة هي المذكورة في قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] ليست هي النشأة الثانية.
ورواه الحاكم في [صحيحه] عن معمر، عن قتادة عن قسامة بن زهير، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
قال الحاكم: تابعه هشام الدّسْتُوائي، عن قتادة.
وقال همام بن يحيى: عن قتادة، عن أبي الجوزاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
والكل صحيح، وشاهدها حديث البراء بن عازب.
وكذلك رواه الحافظ أبو نعيم من حديث القاسم بن الفضل الحذائي، كما رواه مَعْمَر.
قال: ورواه أبو موسى وبُنْدَار، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، مثله مرفوعًا.
ومن أصحاب قتادة من رواه موقوفًا، ورواه همام عن قتادة، عن أبي الجوزاء، عن أبي هريرة، مرفوعًا نحوه.
وقد روى هذا الحديث النسائي، والبزار في [مسنده] وأبو حاتم في [صحيحه].
وقد روى مسلم في [صحيحه] عن أبي هريرة قال . قال أبو هريرة: فرد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند النوم ، وفي الصحيح أيضًا: أنه كان يقول .
ففي هذه الأحاديث من صعود الروح إلى السماء، وعودها إلى البدن، ما بين أن صعودها نوع آخر، ليس مثل صعود البدن ونزوله.
وروينا عن الحافظ أبي عبد اللّه محمد بن منده في كتاب[الروح والنفس]: حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، ثنا عبد اللّه بن الحسن الحراني، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا موسى بن أيمن، عن مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في تفسير هذه الآية: {"اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا" [الزمر:42].
قال: تلتقي أرواح الأحياء في المنام بأرواح الموتى ويتساءلون بينهم، فيمسك اللّه أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
وروى الحافظ أبو محمد بن أبي حاتم في[تفسيره]: حدثنا عبد اللّه بن سليمان، ثنا الحسن، ثنا عامر، عن الفُرَات، ثنا أسباط عن السدى: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} قال: يتوفاها في منامها.
قال: فتلتقي روح الحي وروح الميت فيتذاكران ويتعارفان.
قال: فترجع روح الحي إلى جسده في الدنيا إلى بقية أجله في الدنيا.
قال: وتريد روح الميت أن ترجع إلى جسده فتحبس.
وهذا أحد القولين وهو أن قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42] أريد بها أن من مات قبل ذلك لقي روح الحي.
والقول الثاني وعليه الأكثرون أن كلا من النفسين الممسكة والمرسلة توفيتا وفاة النوم، وأما التي توفيت وفاة الموت فتلك قسم ثالث؛ وهي التي قدمها بقوله: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة؛ فإن اللّه قال: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، فذكر إمساك التي قضى عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها بالنوم، وأما التي توفاها حين موتها فتلك لم يصفها بإمساك ولا إرسال، ولا ذكر في الآية التقاء الموتى بالنيام.
والتحقيق أن الآية تتناول النوعين؛ فإن اللّه ذكر توفيتين: توفي الموت، وتوفي النوم، وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى.
ومعلوم أنه يمسك كل ميتة، سواء ماتت في النوم أو قبل ذلك، ويرسل من لم تمت.
وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يتناول ما ماتت في اليقظة وما ماتت في النوم، فلما ذكر التوفيتين ذكر أنه يمسكها في أحد التوفيتين ويرسلها في الأخرى، وهذا ظاهر اللفظ ومدلوله بلا تكلف.
وما ذكر من التقاء أرواح النيام والموتي لا ينافي ما في الآية، وليس في لفظها دلالة عليه، لكن قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} يقتضي أنه يمسكها لا يرسلها كما يرسل النائمة، سواء توفاها في اليقظة أو في النوم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم" فوصفها بأنها في حال توفي النوم إما ممسكة وإما مرسلة.
وقال ابن أبي حاتم: ثنا أبي، ثنا عمر بن عثمان، ثنا بَقيَّة؛ ثنا صفوان بن عمرو، حدثني سليم بن عامر الحضرمي؛ أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: أعجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال ! فتكون رؤياه كأخذ باليد، ويرى الرجل الشيء؛ فلا تكون رؤياه شيئًا، فقال على بن أبي طالب: أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ إن اللّه يقول: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فاللّه يتوفي الأنفس كلها، فما رأت وهي عنده في السماء فهو الرؤيا الصادقة.
وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، فأخبرتها بالأباطيل وكذبت فيها، فعجب عمر من قوله.
وذكر هذا أبو عبد اللّه محمد بن إسحاق بن منده في كتاب [الروح والنفس] وقال: هذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره، ولفظه: قال على بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، يقول اللّه تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} والأرواح يعرج بها في منامها، فما رأت وهي في السماء فهو الحق، فإذا ردت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، فما رأت من ذلك فهو الباطل.
قال الإمام أبو عبد اللّه بن منده: وروى عن أبي الدرداء قال: روى ابن لَهِيعَة عن عثمان بن نعيم الرُّعَيْني، عن أبي عثمان الأصْبَحِي، عن أبي الدرداء قال: إذا نام الإنسان عرج بروحه حتى يؤتى بها العَرْش قال: فإن كان طاهرًا أذن لها بالسجود، وإن كان جُنُبًا لم يؤذن لها بالسجود.
رواه زيد بن الحباب وغيره.
وروى ابن منده حديث على وعمر رضي اللّه عنهما مرفوعًا، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد، ثنا محمد بن شعيب، ثنا ابن عياش بن أبي إسماعيل، وأنا الحسن بن علي، أنا عبد الرحمن بن محمد، ثنا قتيبة والرازي، ثنا محمد بن حميد، ثنا أبو زهير عبد الرحمن بن مغراء الدوسي، ثنا الأزهر بن عبد اللّه الأزدي، عن محمد بن عجلان، عن سالم بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه قال: لقي عمر بن الخطاب على بن أبي طالب فقال: يا أبا الحسن، ربما شهدت وغبنا، وربما شهدنا وغبت، ثلاثة أشياء أسألك عنهن، فهل عندك منهن علم؟ فقال على بن أبي طالب: وما هن؟ قال: الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيرًا، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرًا.
فقال: نعم، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول" قال عمر: واحدة.
قال عمر: والرجل يحدث الحديث إذ نسيه، فبينما هو قد نسيه إذ ذكره.
فقال: نعم، سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول .
قال عمر: اثنتان. قال: والرجل يرى الرؤيا: فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب. فقال: نعم، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول .
فقال عمر: ثلاث كنت في طلبهن؛ فالحمد للّه الذي أصبتهن قبل الموت.
ورواه من وجه ثالث:أن ابن عباس سأل عنه عمر، فقال: حدثنا أحمد بن سليمان بن أيوب، ثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد، ثنا آدم بن أبي إياس، ثنا إسماعيل بن عَيَّاش، عن ثعلبة بن مسلم الخَثْعَمِي، عن ابن أبي طلحة القرشي؛ أن ابن عباس رضي اللّه عنه قال لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يا أمير المؤمنين، أشياء أسألك عنها؟ قال: سل عما شئت؛ فقال: يا أمير المؤمنين، مم يذكر الرجل، ومم ينسى؟ ومم تصدق الرؤيا، ومم تكذب؟ فقال له:عمر أما قولك: مم يذكر الرجل ومم ينسى؟ فإن على القلب طَخَاء [الطَّخَاء: ثِقَلٌ وغَشْى، وأصله: الظُّلْمة والغَيْم].
مثل طخاء القمر، فإذا تغشت القلب نسي ابن آدم، فإذا تجلت عن القلب ذكر ما كان ينسى، وأما مم تصدق الرؤيا ومم تكذب؟ فإن اللّه يقول: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] فمن دخل منها في ملكوت السماء فهي التي تصدق، وما كان منها دون ملكوت السماء فهي التي تكذب.
قلت: وفي هذين الطريقين ذكر أن التي تكذب ما لم يكمل وصولها إلى العلو.
وفي الأول ذكر أن ذلك يكون مما يحصل بعد رجوعها.
وكلا الأمرين ممكن؛ فإن الحكم يختلف لفوات شرطه، أو وجود مانعه عن ذلك، قال عكرمة ومجاهد: إذا نام الإنسان فإن له سببا تجري فيه الروح، وأصله في الجسد، فتبلغ حيث شاء اللّه، فما دام ذاهبًا فإن الإنسان نائم، فإذا رجع إلى البدن انتبه الإنسان، فكان بمنزلة شعاع هو ساقط بالأرض وأصله متصل بالشمس.
قال ابن منده: وأخبرت عن عبد اللّه بن عبد الرحمن السمرقندي، عن على بن يزيد السمرقندي وكان من أهل العلم والأدب وله بصر بالطب والتعبيرقال: إن الأرواح تمتد من مَنْخِر الإنسان، ومراكبها وأصلها في بدن الإنسان، فلو خرج الروح لمات، كما أن السراج لو فَرَّقْتَ بينها وبين الفتيلة لطفئت.
ألا ترى أن تركب النار في الفتيلة، وضوءها وشعاعها ملأ البيت، فكذلك الروح تمتد من منخر الإنسان في منامه حتى تأتي السماء، وتَجُول في البلدان، وتلتقي مع أرواح الموتى.
فإذا رآها الملك الموكل بأرواح العباد أراه ما أحب أن يراه وكان المرء في اليقظة عاقلًا ذكيًا صدوقًا لا يلتفت في اليقظة إلى شيء من الباطل رجع إليه روحه، فأدى إلى قلبه الصدق بما أراه اللّه عز وجل على حسب صدقه.
وإن كان خفيفًا نَزِيقًا [أي: خفيفًا].
يحب الباطل والنظر إليه، فإذا نام وأراه اللّه أمرًا من خير أو شر رجع روحه، فحيثما رأى شيئًا من مخاريق الشيطان أو باطلًا وقف عليه كما يقف في يقظته، وكذلك يؤدي إلى قلبه فلا يعقل ما رأى؛ لأنه خلط الحق بالباطل، فلا يمكن معبر يعبر له، وقد اختلط الحق بالباطل.
قال الإمام ابن منده: ومما يشهد لهذا الكلام ما ذكرناه عن عمر وعلى وأبي الدرداء رضي اللّه عنهم.
قلت: وخرج ابن قتيبة في كتاب [تعبير الرؤيا]، قال: حدثني حسين بن حسن المروزي [حسين بن الحسن بن حرب السلمي بن عبد الله المروزي، نزيل مكة.
روى عن ابن المبارك ويزيد بن زريع وابن علية وغيرهم، وروى عنه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وثقه ابن حبان وغير واحد. مات سنة 46هـ]، أخبرنا ابن المبارك عبد اللّه، ثنا المبارك عن الحسن أنه قال: أنبئت أن العبد إذا نام وهو ساجد يقول اللّه تبارك وتعالى .
وإذا كانت الروح تعرج إلى السماء مع أنها في البدن، علم أنه ليس عروجها من جنس عروج البدن الذي يمتنع هذا فيه.
وعروج الملائكة ونزولها من جنس عروج الروح ونزولها، لا من جنس عروج البدن ونزوله.
وصعود الرب عز وجل فوق هذا كله وأجل من هذا كله؛ فإنه تعالى أبعد عن مماثلة كل مخلوق من مماثلة مخلوق لمخلوق.
وإذا قيل: الصعود والنزول والمجيء والإتيان أنواع جنس الحركة، قيل: والحركة أيضًا أصناف مختلفة، فليست حركة الروح كحركة البدن، ولا حركة الملائكة كحركة البدن، والحركة يراد بها انتقال البدن والجسم من حيز، ويراد بها أمور أخرى، كما يقوله كثير من الطبائعية والفلاسفة: منها الحركة في الكم كحركة النمو، والحركة في الكيف كحركة الإنسان من جهل إلى علم، وحركة اللون أو الثياب من سواد إلى بياض، والحركة في الأيْن كالحركة تكون بالأجسام النامية من النبات والحيوان في النمو والزيادة، أو في الذبول والنقصان، وليس هناك انتقال جسم من حيز إلى حيز.
ومن قال: إن الجواهر المفردة تنتقل، فقوله غلط، كما هو مبسوط في موضعه.
وكذلك الأجسام تنتقل ألوانها وطعومها وروائحها، فيسود الجسم بعد ابيضاضه، ويحلو بعد مرارته، بعد أن لم يكن كذلك.
وهذه حركات واستحالات وانتقالات، وإن لم يكن في ذلك انتقال جسم من حيز إلى حيز.
وكذلك الجسم الدائر في موضع واحد كالدولاب والفلك هو بجملته لا يخرج من حيزه، وإن لم يزل متحركا.
وهذه الحركات كلها في الأجسام، وأما في الأرواح فالنفس تنتقل من بغض إلى حب، ومن سخط إلى رضا.
ومن كراهة إلى إرادة، ومن جهل إلى علم، ويجد الإنسان من حركات نفسه وانتقالاتها وصعودها ونزولها ما يجده.
وذلك من جنس آخر غير جنس حركات بدنه.
وإذا عرف هذا؛ فإن للملائكة من ذلك ما يليق بهم، وإن ما يوصف به الرب تبارك وتعالى هو أكمل وأعلى وأتم من هذا كله، وحينئذ فإذا قال السلف والأئمة كحماد بن زيد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهما من أئمة أهل السنة أنه ينزل ولا يخلو منه العرش، لم يجز أن يقال: إن ذلك ممتنع، بل إذا كان المخلوق يوصف من ذلك بما يستحيل من مخلوق آخر، فالروح توصف من ذلك بما يستحيل اتصاف البدن به، كان جواز ذلك في حق الرب تبارك وتعالى أولى من جوازه من المخلوق كأرواح الآدميين والملائكة.
ومن ظن أن ما يوصف به الرب عز وجل لا يكون إلا مثل ما توصف به أبدان بني آدم، فغلطه أعظم من غلط من ظن أن ما توصف به الروح مثل ما توصف به الأبدان.
وأصل هذا: أن قربه سبحانه ودنوه من بعض مخلوقاته، لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش، بل هو فوق العرش، ويقرب من خلقه كيف شاء، كما قال ذلك من قاله من السلف، وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة، قال تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَن ظَلَمَ} [النمل: 7ـ11] وقال في السورة الأخرى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:29-30] وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:51-52] فأخبر أنه ناداه من جانب الطور، وأنه قربه نجيا، وقال تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:34ـ46] وقال تعالى:{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} [النازعات:15ـ20].
وقال ابن أبي حاتم في [تفسيره]: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا معاوية بن هشام، حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] قال: كان ذلك النار، قال اللّه: من في النور، ونودي أن بورك من في النور.
حدثنا على بن الحسين، ثنا محمد بن حمزة، ثنا على بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي؛ أن عكرمة حدثني عن ابن عباس: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّار} قال: كان ذلك النار نوره {وَمَنْ حَوْلَهَا} أي: بورك من في النور ومن حول النور.
وكذلك روى بإسناده من تفسير عطية عن ابن عباس: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} [النمل: 8] يعني نفسه، قال: كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها.
حدثنا أبي، ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري [هو أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الجوهري، الطبري الأصل، البغدادي، الحافظ، ولد بعد السبعين ومائة، وثقه النسائي والخطيب، ومات سنة 249هـ وقيل غير ذلك]، ثنا أبو معاوية، عن شيبان، عن عكرمة: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} [النمل: 8] قال: كان اللّه في نوره.
حدثنا أبو زُرْعَة، ثنا بن أبي شيبة، ثنا على بن جعفر المدائني، عن وَرْقَاء، عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} [النمل:8] قال: ناداه وهو في النور.
حدثنا على بن الحسين المنْجَاني، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا مُفَضَّل بن أبي فَضَالة حدثني ابن ضَمْرَة: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا}، قال: إن موسى كان على شاطئ الوادي إلى أن قال فلما قام أبصر النار فسار إليها، فلما أتاها {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ}، قال: إنها لم تكن نارًا، ولكن كان نور اللّه وهو الذي كان في ذلك النور، وإنما كان ذلك النور منه، وموسى حوله.
حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، ثنا مكي بن إبراهيم، ثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله عز وجل: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} قال: النار نور الرحمة، قال: ضوء من اللّه تعالى {وَمَنْ حَوْلَهَا}: موسى والملائكة.
وروي بإسناده عن ابن عباس: {وَمَنْ حَوْلَهَا} قال: الملائكة.
قال: وروي عن عكرمة، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتاده مثل ذلك.
وروى عن السدي وحده: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ}، قال: كان في النار ملائكة.
وفي صحيح مسلم عن أبي عُبَيْدة، عن أبي موسى، قال: قام فينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال .
ثم قرأ أبو عبيدة: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} وذكر من تفسير الوالبي عن ابن عباس: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ}، يقول: قدس، وعن مجاهد: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} بوركت النار.
كذلك كان يقول ابن عباس وفي السورة الأخرى: ذكر أنه ناداه من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وقوله: {مِنَ الشَّجَرَةِ} هو بدل من قوله: {مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ} [القصص:30] فالشجرة كانت فيه، وقال أيضًا: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم:52] والطور هو الجبل، فالنداء كان من الجانب الأيمن من الطور ومن الوادي فإن شاطئ الوادي جانبه، وقال: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص:44] أي: بالجانب الغربي، وجانب المكان الغربي؛ فدل على أن هذا الجانب الأيمن هو الغربي لا الشرقي، فذكر أن النداء كان من موضع معين وهو الوادي المقدس طوى من شاطئ الوادي الأيمن من جانب الطور الأيمن من الشجرة، وذكر أنه قَرَّبه نَجيا فناداه وناجاه، وذلك المنادى له، والمناجى له، هو اللّه رب العالمين لا غيره، ونداؤه ومناجاته قائمة به، ليس ذلك مخلوقًا منفصلا عنه، كما يقوله من يقول: إن اللّه لا يقوم به كلام، بل كلامه منفصل عنه مخلوق، وهو سبحانه وتعالى ناداه وناجاه ذلك الوقت، كما دل عليه القرآن، لا كما يقوله من يقول: لم يزل مناديًا مناجيًا له، ولكن ذلك الوقت خلق فيه إدراك النداء القديم الذي لم يزل ولا يزال.
فهذان قولان مبتدعان لم يقل واحدًا منها أحد من السلف.
وإذا كان المنادي هو اللّه رب العالمين، وقد ناداه من موضع معين وقربه إليه، دل ذلك على ما قاله السلف من قربه ودنوه من موسى عليه السلام مع أن هذا قرب مما دون السماء.
وقد جاء أيضًا من حديث وهب بن منبه وغيره من الإسرائيليات قربه من أيوب عليه السلام وغيره من الأنبياء عليهم السلام ولفظه الذي ساقه البغوي أنه أضله غمام ثم نودي: يا أيوب، أنا اللّه، يقول:أنا قد دنوت منك، أنزل منك قريبًا.
لكن الإسرائيليات إنما تذكر على وجه المتابعة، لا على وجه الاعتماد عليها وحدها، وهو سبحانه وتعالى قد وصف نفسه في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بقربه من الداعي وقربه من المتقرب إليه، فقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
وثبت في [الصحيحين] عن أبي موسى، أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقربه من العباد بتقربهم إليه مما يقر به جميع من يقول: إنه فوق العرش، سواء قالوا مع ذلك: إنه تقوم به الأفعال الاختيارية أو لم يقولوا.
وأما من ينكر ذلك:
فمنهم من يفسر قرب العباد بكونهم يقاربونه ويشابهونه من بعض الوجوه فيكونون قريبين منه، وهذا تفسير أبي حامد والمتفلسفة؛ فإنهم يقولون: الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة.
ومنهم من يفسر قربهم بطاعتهم، ويفسر قربه بإثابته.
وهذا تفسير جمهور الجهمية؛ فإنهم ليس عندهم قرب ولا تقريب أصلًا.
ومما يدخل في معاني القرب وليس في الطوائف من ينكره قرب المعروف والمعبود إلى قلوب العارفين العابدين؛ فإن كل من أحب شيئًا فإنه لابد أن يعرفه ويقرب من قلبه، والذي يبغضه يبعد من قلبه.
لكن هذا ليس المراد به أن ذاته نفسها تحل في قلوب العارفين العابدين، وإنما في القلوب معرفته وعبادته ومحبته، والإيمان به؛ ولكن العلم يطابق المعلوم.
وهذا الإيمان الذي في القلوب هو [المثل الأعلى] الذي له في السموات والأرض، وهو معنى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، وقوله: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3].
وقد غلط في هذه الآية طائفة من الصوفية والفلاسفة وغيرهم، فجعلوه حلول الذات واتحادها بالعابد والعارف، من جنس قول النصارى في المسيح، وهو قول باطل، كما قد بسط في موضعه.
والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته هو القول المعروف للسلف والأئمة، وهو قول الأشعري وغيره من الكُلابية؛ فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته، وكذلك يثبتون استواءه على العرش بذاته، ونحو ذلك، ويقولون: الاستواء فعل فعله في العرش فصار مستويًا على العرش.
وهذا أيضًا قول ابن عقيل، وابن الزاغوني، وطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم.
وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده؛ فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش.
وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر.
وأول من أنكر هذا في الإسلام الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة، وكانوا ينكرون الصفات والعلو على العرش، ثم جاء ابن كُلاب فخالفهم في ذلك، وأثبت الصفات والعلو على العرش، لكن وافقهم على أنه لا تقوم به الأمور الاختيارية؛ ولهذا أحدث قوله في القرآن: أنه قديم لم يتكلم به بقدرته.
ولا يعرف هذا القول عن أحد من السلف، بل المتواتر عنهم أن القرآن كلام اللّه غيرمخلوق، وأن اللّه يتكلم بمشيئته وقدرته، كما ذكرت ألفاظهم في كتب كثيرة في مواضع غير هذا.
فالذين يثبتون أنه كلم موسى بمشيئته وقدرته كلامًا قائمًا به، هم الذين يقولون:إنه يدنو ويقرب من عباده بنفسه.
وأما من قال: القرآن مخلوق أو قديم، فأصل هؤلاء أنه لا يمكن أن يقرب من شيء ولا يدنو إليه، فمن قال منهم بهذا مع هذا، كان من تناقضه؛ فإنه لم يفهم أصل القائلين بأنه قديم.
وأهل الكلام قد يعرفون من حقائق أصولهم ولوازمها ما لا يعرفه من وافقهم على أصل المقالة، ولم يعرف حقيقتها ولوازمها؛ فلذا يوجد كثير من الناس يتناقض كلامه في هذا الباب.
فإن نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف متظاهرة بالإثبات، وليس على النفي دليل واحد: لا من كتاب ولا من سنة ولا من أثر، وإنما أصله قول الجهمية، فلما جاء ابن كُلاب فرق، ووافقه كثير من الناس على ذلك، فصار كثير من الناس يقر بما جاء عن السلف وما دل عليه الكتاب والسنة، وبما يقوله النفاة مما يناقض ذلك، ولا يهتدي للتناقض: {وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
وبهذا يحصل الجواب عما احتج به من قال: إن ثلث الليل يختلف باختلاف البلاد وهذا قد احتج به طائفة وجعلوا هذا دليلًا على ما يتأولون عليه حديث النزول.
وهذا الذي ذكروه إنما يصح إذا جعل نزوله من جنس نزول أجسام الناس من السطح إلى الأرض، وهو يشبه قول من قال: يخلو العرش منه بحيث يصير بعض المخلوقات فوقه وبعضها تحته! فإذا قدر النزول هكذا كان ممتنعًا؛ لما ذكروه من أنه لا يزال تحت العرش في غالب الأوقات أو جميعها، فإن بين طرفي العمارة نحو ليلة؛ فإنه يقال: بين ابتداء العمارة من المشرق ومنتهاها من المغرب مقدار مائة وثمانين درجة فلكية، وكل خمس عشرة فهي ساعة معتدلة، والساعة المعتدلة هي ساعة من اثنتي عشرة ساعة بالليل أو النهار، إذا كان الليل والنهار متساويين كما يستويان في أول الربيع الذي تسميه العرب الصيف، وأول الخريف الذي تسميه الربيع بخلاف ما إذا كان أحدهما أطول من الآخر، وكل واحد اثنتا عشرة ساعة، فهذه الساعات مختلفة في الطول والقصر، فتغرب الشمس عن أهل المشرق قبل غروبها عن أهل المغرب، كما تطلع على هؤلاء قبل هؤلاء بنحو اثنتي عشرة ساعة أو أكثر.
فإن الشمس على أي موضع كانت مرتفعة من الأرض الارتفاع التام كما يكون عند نصف النهار فإنها تضيء على ما أمامها و خلفها من المشرق والمغرب تسعين درجة شرقية وتسعين غربية، والمجموع مقدار حركتها: اثنتا عشرة ساعة، ستة شرقية، وستة غربية، وهو النهار المعتدل.
ولا يزال لها هذا النهار، لكن يخفي ضوؤها بسبب ميلها إلى جانب الشمال والجنوب، فإن المعمور من الأرض من الناحية الشمالية من الأرض التي هي شمال خط الاستواء المحاذي لدائرة معتدل النهار التي نسبتها إلى القطبين الشمالي والجنوبي نسبة واحدة؛ ولهذا يقال في حركة الفلك: إنها على ذلك المكان دولابية مثل الدولاب، وأنها عند القطبين رحاوية تشبه حركة الرَّحَى، وأنها في المعمور من الأرض حمائلية تشبه حمائل السيوف.
والمعمور المسكون من الأرض، يقال: إنه بضع وستون درجة أكثر من السدس بقليل.
والكلام على هذا لبسطه موضع آخر، ذكرنا فيه دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وسائر من تبعهم من علماء المسلمين على أن الفلك مستدير.
وقد ذكر إجماع علماء المسلمين على ذلك غير واحد، منهم الإمام أبو الحسين بن المنادي الذي له نحو [أربعمائة مصنف] وهو من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد، وأبو محمد بن حزم، وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم.
والمقصود هنا أن الشمس إذا طلعت على أول البلاد الشرقية، فإنه حينئذ يكون إما وقت غروبها وإما قريبًا من وقت غروبها على آخر البلاد الغربية، فإنها تكون بحيث يكون الضوء أمامها تسعين درجة وخلفها تسعين درجة، فهذا منتهي نورها.
فإذا طلعت عليهم كان بينها وبينهم تسعون درجة، وكذلك على بلد تطلع عليه، والحاسب يفرق بين الدرجات كما يفرق بين الساعات، فإن الساعات المختلفة الزمانية كل واحد منها خمس عشرة درجة بحسب ذلك الزمان، فيكون بينها وبين المغرب أيضًا تسعون درجة من ناحية المغرب، وإذا صار بينها وبين مكان تسعون درجة غربية غابت، كما تطلع إذا كان بينها وبينهم تسعون درجة شرقية، وإذا توسطت عليهم وهو وقت استوائها قبل أن تَدْلُكَ [أي تميل عن الاستواء] وتَزِيغَ ويدخل وقت الظهر كان لها تسعون درجة شرقية وتسعون درجة غربية.
وإذا كان كذلك والنزول المذكور في الحديث النبوي على قائله أفضل الصلاة والسلام الذي اتفق عليه الشيخان: البخاري ومسلم، واتفق علماء الحديث على صحته: هو ، وأما رواية النصف والثلثين فانفرد بها مسلم في بعض طرقه، وقد قال الترمذي: إن أصح الروايات عن أبي هريرة: .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعة كثيرة من الصحابة كما ذكرنا قبل هذا؛ فهو حديث متواتر عند أهل العلم بالحديث، والذي لا شك فيه إذا بقي ثلث الليل الآخر.
فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر[النزول] أيضًا إذا مضى ثلث الليل الأول وإذا انتصف الليل؛ فقوله حق وهو الصادق المصدوق، ويكون النزول أنواعًا ثلاثة: الأول إذا مضى ثلث الليل الأول، ثم إذا انتصف وهو أبلغ، ثم إذا بقي ثلث الليل، وهو أبلغ الأنواع الثلاثة.
ولفظ (الليل والنهار) في كلام الشارع إذا أطلق، فالنهار من طلوع الفجر، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم" وقوله ونحو ذلك، فإنما أراد صوم النهار من طلوع الفجر، وكذلك وقت صلاة الفجر، وأول وقت الصيام بالنقل المتواتر المعلوم للخاصة والعامة والإجماع الذي لا ريب فيه بين الأمة، وكذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم .
ولهذا قال العلماء كالإمام أحمد بن حنبل وغيره : إن صلاة الفجر من صلاة النهار.
وأما إذا قال الشارع صلى الله عليه وسلم " فإنما يعني به النهار المبتدئ من طلوع الشمس، لا يريد قط لا في كلامه ولا في كلام أحد من علماء المسلمين بنصف النهار النهار الذي أوله من طلوع الفجر؛ فإن نصف هذا يكون قبل الزوال؛ ولهذا غلط بعض متأخري الفقهاء لما رأى كلام العلماء أن الصائم المتطوع يجوز له أن ينوي التطوع قبل نصف النهار؛ وهل يجوز له بعده؟ على قولين هما روايتان عن أحمد ظن أن المراد بالنهار هنا نهار الصوم الذي أوله طلوع الفجر.
وسبب غلطه في ذلك أنه لم يفرق بين مسمى النهار إذا أطلق، وبين مسمى نصف النهار، فالنهار الذي يضاف إليه نصف في كلام الشارع وعلماء أمته هو من طلوع الشمس، والنهار المطلق في وقت الصلاة والصيام من طلوع الفجر.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بالنزول إذا بقي ثلث الليل، فهذا الليل المضاف إليه الثلث يظهر أنه من جنس النهار المضاف إليه النصف وهو الذي ينتهي إلى طلوع الشمس، وكذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم أو ، فهو هذا الليل.
وكذلك الفقهاء إذا أطلقوا ثلث الليل ونصفه؛ فهو كإطلاقهم نصف النهار.
وهكذا أهل الحساب لا يعرفون غير هذا.
وقد يقال: بل هو الليل المنتهي بطلوع الفجر كما في الحديث الصحيح .
واليوم المعتاد المشروع إلى طلوع الشمس بل إلى طلوع الفجر. فإن كان المراد بالحديث هذا، وحينئذ فإذا قدر ثلث الليل في أول المشرق يكون قبل طلوع الشمس عليهم بأربع ساعات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم .
فقد أخبر بدوامه إلى طلوع الفجر، وفي رواية .
وقد قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] تشهده ملائكة الليل والنهار، وقد قيل: يشهده اللّه وملائكته.
وإذا كان هذا النزول يدوم نحو سدس عند أولئك، فهكذا هو عند كل قوم إذا مضى ثلثًا ليلهم يدوم عندهم سدس الزمان، وأما النزول الذي في النصف أو الثلثين، فإنه يدوم ربع الزمان أو ثلثه، فهو أكثر دوامًا من ذلك.
وإن أريد الليل المنتهي بطلوع الشمس، كان وقت النزول أقل من ذلك فيكون قريبًا من ثمن الزمان وتُسعه، وعلى رواية النصف والثلث يكون قريبًا من سدسه وربعه وأكثر من ذلك.
ومعلوم أن زمن ثلث ليل البلد الشرقي قبل ثلث ليل البلد الغربي كما قد عرف، والعمارة طولها اثنتا عشرة ساعة، مائة وثمانون درجة، فلو قدر أن لكل مقدار ساعة وهو خمس عشرة درجة من المعمور ثلثا غير ثلث مقدار الساعة الأخرى، لكان المعمور ستة وثلاثين ثلثًا، والنزول يدوم في كل ثلث مقدار سدس الزمان، فيلزم أن يكون النزول يدوم ليلًا ونهارًا، أنه يدوم بقدر الليل والنهار ست مرات، إذا قدر أن لكل طول ساعة من المعمور ثلثًا فكيف النزول الإلهي إلى السماء الدنيا لدعاء عباده الساكنين في الأرض؟ فكل أهل بلد من البلاد يبقي نزوله ودعاؤه لهم: هل من سائل؟ هل من داع؟ هل من مستغفر؟ سدس الزمان، والبلاد من المشرق إلى المغرب كثيرة.
والإسلام وللّه الحمد قد انتشر من المشرق إلى المغرب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح [وقوله: (زُوِيَتْ): أي جُمِعت].
وإنما ذكرنا هذا؛ لأنه قد يقال: إن هذا [النزول، والدعاء] إنما هو لعباده المؤمنين الذين يعبدونه ويسألونه ويستغفرونه؛ كما أن [نزول عَشِيَّة عَرَفَة] إنما هو لعباده المؤمنين الذين يحجون إليه، وكما أن رمضان إذا دخل فتحت أبواب الجنة لعباده المؤمنين الذين يصومون رمضان، وعنهم تغلق أبواب النار، وتُصَفَّد [أي: تُوثق وتُقيَّد].
شياطينهم، وأما الكفار الذين يستحلون إفطار شهر رمضان ولا يرون له حرمة ومزية فلا تفتح لهم فيه أبواب الجنة ولا تغلق عنهم فيه أبواب النار، ولا تصفد شياطينهم.
وليس المقصود هنا بسط هذا المعنى، بل المقصود أن النزول إن كان خاصًا بالمؤمنين، فهم وللّه الحمد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وإن كان عامًا؛ فهو أبلغ، فعلى كل تقدير لابد أن يدوم النزول الإلهي على أهل كل بلد مقدار سدس الزمان أو أكثر.
فإنه إذا قيل: ليل صيفهم قصير، قيل: وليل شتائهم طويل، فيعادل هذا هذا، وما نقص من ليل صيفهم زيد في ليل شتائهم؛ ولهذا جاء في الأثر .
وإذا كان كذلك، فلو كان النزول كما يتخيله بعض الجهال من أنه يصير تحت السموات وفوق السماء الدنيا وتحت العرش مقدار ثلث الليل على كل بلد، لم يكن اللازم أنه لا يزال تحت العرش وتحت السموات فقط؛ فإن هذا إنما يكون وحده هو اللازم إذا كان كل سدس من المعمور لهم كلهم ثلث واحد، وكان المجموع ستة أثلاث، فإذا قدر بقاؤه على هؤلاء مقدار ثلث، ثم على هؤلاء الآخرين مقدار ثلث، لزم ألا يزال تحت العرش، أو تحت السموات، أو حيث تخيل الجاهل أن اللّه محصور فيه، فلا يكون قط فوق العرش.
وأما إذا كان لكل بلد ثلث غير الثلث الآخر، وأن أول كل بلد بعد الثلث الآخر، يقدر ما بينهما، وكذلك آخر ثلث ليل البلد الشرقي ينقضي قبل انقضاء ثلث ليل البلد الغربي، وأيضًا، إن كانت مداخلة، فلابد أن يدوم النزول على كل بلد ثلث ليلهم إلى طلوع فجرهم، فيلزم من ذلك أن يقدر أثلاث بقدر عدد البلاد.
وأيضًا، فكما أن ثلث الليل يختلف بطول البلد، فهو يختلف بعرضها أيضًا.
فكلما كان البلد أدخل في الشمال، كان ليله في الشتاء أطول، وفي الصيف أقصر.
وما كان قريبًا من خط الاستواء يكون ليله في الشتاء أقصر من ليل ذاك وليله في الصيف أطول من ليل ذاك، فيكون ليلهم ونهارهم أقرب إلى التساوي.
وحينئذ، فالنزول الإلهي لكل قوم هو مقدار ثلث ليلهم، فيختلف مقداره بمقادير الليل في الشمال والجنوب، كما اختلف في المشرق والمغرب.
وأيضًا، فإنه إذا صار ثلث الليل عند قوم، فبعده بلحظة ثلث الليل عند ما يقاربهم من البلاد، فيحصل النزول الإلهي الذي أخبر به الصادق المصدق أيضًا عند أولئك إذا بقي ثلث ليلهم، وهكذا إلى آخر العمارة.
فلو كان كما توهمه الجاهل، من أنه يكون تحت العرش، وتكون فوقه السماء وتحته السماء؛ لكان هذا ممتنعًا من وجوه كثيرة:
منها: أنه لا يكون فوق العرش قط بل لا يزال تحته، ومنها: أنه يجب على هذا التقدير أن يكون الزمان بقدر ما هو مرات كثيرة جدًا ليقع كذلك، ومنها: أنه مع دوام نزوله إلى سماء هؤلاء إلى طلوع فجرهم، إن أمكن مع ذلك، أن يكون قد نزل على غيرهم أيضًا، ممن ثلث ليلهم يخالف ثلث هؤلاء في التقديم والتأخير والطول والقصر.
فهذا خلاف ما تخيلوه، فإنهم لا يمكنهم أن يتخيلوا نازلًا كنزول العباد، من يكون نازلا على سماء هؤلاء ثلث ليلهم، وهو أيضًا في تلك الساعة نازلًا على سماء آخرين، مع أنه يجب أن يتقدم على أولئك أو يتأخر عنهم، أو يزيد أو يقصر.
وحكى عن بعض الجهال أنه قيل له: فالسموات كيف حالها عند نزوله؟ قال: يرفعها، ثم يضعها، وهو قادر على ذلك.
فهؤلاء الذين يتخيلون ما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم به ربه أنه مثل صفات أجسامهم، كلهم ضالون، ثم يصيرون قسمين:
قسم علموا أن ذلك باطل، وظنوا أن هذا ظاهر النص ومدلوله، وأنه لا يفهم منه معنى إلا ذلك، فصاروا: إما أن يتأولوه تأويلًا يحرفون به الكلم عن مواضعه.
وإما أن يقولوا: لا يفهم منه شيء، ويزعمون أن هذا مذهب السلف.
ويقولون: إن قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} [آل عمران:7] يدل على أن معنى المتشابه لا يعلمه إلا اللّه، والحديث منه متشابه كما في القرآن وهذا من متشابه الحديث، فيلزمهم أن يكون الرسول الذي تكلم بحديث النزول لم يَدْرِ هو ما يقول، ولا ما عنى بكلامه وهو المتكلم به ابتداء.
فهل يجوز لعاقل أن يظن هذا بأحد من عقلاء بنى آدم؟! فضلًا عن الأنبياء! فضلا عن أفضل الأولين والآخرين، وأعلم الخلق، وأفصح الخلق، وأنصح الخلق للخلق صلى الله عليه وسلم؟! وهم مع ذلك يدعون أنهم أهل السنة، وإن هذا القول الذي يصفون به الرسول وأمته هو قول أهل السنة.
ولا ريب أنهم لم يتصوروا حقيقة ما قالوه ولوازمه.
و لو تصوروا ذلك لعلموا أنه يلزمهم ما هو من أقبح أقوال الكفار في الأنبياء، وهم لا يرتضون مقالة من ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم، ولو تنقصه أحد لاستحلوا قتله.
وهم مصيبون في استحلال قتل من يقدح في الأنبياء عليهم السلام، وقولهم يتضمن أعظم القَدْح؛ لكن لم يعرفوا ذلك.
ولازم القول ليس بقول، فإنهم لو عرفوا أن هذا يلزمهم ما التزموه.
وقسم ثان، من الممثلين للّه بخلقه، لما رأوا أن قول هؤلاء منكر، وأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم حق، قالوا مثل تلك الجهالات: من أنه تصير فوقه سماء وتحته سماء، أو أن السموات ترتفع ثم تعود، ونحو ذلك مما يظهر بطلانه لمن له أدنى عقل ولُبٍّ.
وقد ثبت في الصحيحين أنه ينزل، وفي لفظ ، وفي حديث آخر ، وفي صحيح مسلم ، وفي صحيح مسلم أيضًا فما ذكر من تقدم اختلاف الليل في البلاد، يبطل قول من يظن أنه يخلو منه العرش، ويصير تحت العرش أو تحت السماء.
وأما النزول الذي لا يكون من جنس نزول أجسام العباد فهذا لا يمتنع أن يكون في وقت واحد لخلق كثير، ويكون قدره لبعض الناس أكثر، بل لا يمتنع أن يقرب إلى خلق من عباده دون بعض، فيقرب إلى هذا الذي دعاه دون هذا الذي لم يدعه.
وجميع ما وصف به الرب عز وجل نفسه من القرب، فليس فيه ما هو عام لجميع المخلوقات كما في المعية؛ فإن المعية وصف نفسه فيها بعموم وخصوص.
وأما قربه مما يقرب منه، فهو خاص لمن يقرب منه، كالداعي والعابد، وكقربه عشية عرفة، ودنوه إلى السماء الدنيا لأجل الحجاج، وإن كانت تلك العشية بعرفة قد تكون وسط النهار في بعض البلاد، وتكون ليلا في بعض البلاد؛ فإن تلك البلاد لم يَدْنُ إليها، ولا إلى سمائها الدنيا، وإنما دنا إلى السماء الدنيا التي على الحُجَّاج، وكذلك نزوله بالليل.
وهذا كما أن حسابه لعباده يوم القيامة يحاسبهم كلهم في ساعة واحدة، وكل منهم يخلو به كما يخلو الرجل بالقمر ليلة البدر فيقرره بذنوبه، وذلك المحاسب لا يرى أنه يحاسب غيره.
كذلك قال أبو رَزِين: للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال رجل لابن عباس رضي اللّه عنه كيف يحاسب اللّه العباد في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة.
وكذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" .
فهذا يقوله سبحانه وتعالى لكل مُصَلٍّ قرأ الفاتحة، فلو صلى الرجل ما صلى من الركعات قيل له ذلك وفي تلك الساعة يصلي من يقرأ الفاتحة من لا يحصى عدده إلا اللّه، وكل واحد منهم يقول اللّه له كما يقول لهذا، كما يحاسبهم كذلك، فيقول لكل واحد ما يقول له من القول في ساعة واحدة.
وكذلك سمعه لكلامهم يسمع كلامهم كله مع اختلاف لغاتهم، وتفنن حاجاتهم، يسمع دعاءهم سمع إجابة، ويسمع كل ما يقولونه سمع علم و إحاطة لا يشغله سمع عن سمع.
ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، فإنه سبحانه هو الذي خلق هذا كله، وهو الذي يرزق هذا كله وهو الذي يوصل الغذاء إلى كل جزء جزء من البدن على مقداره وصفته المناسبة له، وكذلك من الزرع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس (العقيدة)
وروى عن غير البراء مثل عدي بن ثابت وغيره.
وقد جمع الدارقطني طرقه في مصنف مفرد، مع أن زاذان من الثقات، روى عن أكابر الصحابة كعمر وغيره، وروى له مسلم في [صحيحه] وغيره، قال يحيى بن معين: هو ثقة، وقال حميد بن هلال وقد سئل عنه فقال:هو ثقة، لا يسأل عن مثل هؤلاء، وقال ابن عدي: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عنه ثقة، وكان يتبع الكرابيسي، وإنما رماه من رماه بكثرة كلامه.
وأما المنهال بن عمرو، فمن رجال البخاري.
وحديث [عود الروح] قد رواه عن غير البراء أيضًا.
وحديث زاذان مما اتفق السلف والخلف على روايته وتلقيه بالقبول.
وأرواح المؤمنين في الجنة، وإن كانت مع ذلك قد تعاد إلى البدن، كما أنها تكون في البدن، ويعرج بها إلى السماء كما في حال النوم.
أما كونها في الجنة، ففيه أحاديث عامة، وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء، واحتجوا بالأحاديث المأثورة العامة وأحاديث خاصة في النوم وغيره.
فالأول مثل حديث الزهري المشهور الذي رواه مالك عن الزهري في [موطئه] وشعيب بن أبي حمزة وغيرهما، وقد رواه الإمام أحمد في [المسند] وغيره.
قال الزهري: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك: أن كعب بن مالك الأنصاري وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم كان يحدث أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال" ، فأخبر أنه يعلق في شجر الجنة حتى يرجع إلى جسده، يعني في النشأة الآخرة.
قال أبو عبد اللّه بن منده: ورواه يونس، والزبيدي، والأوزاعي، وابن إسحاق.
وقال عمرو بن دينار، وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه قال... قال صالح بن كَيْسَان، وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، أنه بلغه أن كعبًا قال... رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
قلت: وفي الحديث المشهور حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أبو حاتم في [صحيحه] وقد رواه أيضًا الأئمة.
قال .
وفي لفظ .
قال أبو هريرة: قال اللّه تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، وفي لفظ" .
وهذه الإعادة هي المذكورة في قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] ليست هي النشأة الثانية.
ورواه الحاكم في [صحيحه] عن معمر، عن قتادة عن قسامة بن زهير، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال .
قال الحاكم: تابعه هشام الدّسْتُوائي، عن قتادة.
وقال همام بن يحيى: عن قتادة، عن أبي الجوزاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
والكل صحيح، وشاهدها حديث البراء بن عازب.
وكذلك رواه الحافظ أبو نعيم من حديث القاسم بن الفضل الحذائي، كما رواه مَعْمَر.
قال: ورواه أبو موسى وبُنْدَار، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، مثله مرفوعًا.
ومن أصحاب قتادة من رواه موقوفًا، ورواه همام عن قتادة، عن أبي الجوزاء، عن أبي هريرة، مرفوعًا نحوه.
وقد روى هذا الحديث النسائي، والبزار في [مسنده] وأبو حاتم في [صحيحه].
وقد روى مسلم في [صحيحه] عن أبي هريرة قال . قال أبو هريرة: فرد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند النوم ، وفي الصحيح أيضًا: أنه كان يقول .
ففي هذه الأحاديث من صعود الروح إلى السماء، وعودها إلى البدن، ما بين أن صعودها نوع آخر، ليس مثل صعود البدن ونزوله.
وروينا عن الحافظ أبي عبد اللّه محمد بن منده في كتاب[الروح والنفس]: حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، ثنا عبد اللّه بن الحسن الحراني، ثنا أحمد بن شعيب، ثنا موسى بن أيمن، عن مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في تفسير هذه الآية: {"اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا" [الزمر:42].
قال: تلتقي أرواح الأحياء في المنام بأرواح الموتى ويتساءلون بينهم، فيمسك اللّه أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.
وروى الحافظ أبو محمد بن أبي حاتم في[تفسيره]: حدثنا عبد اللّه بن سليمان، ثنا الحسن، ثنا عامر، عن الفُرَات، ثنا أسباط عن السدى: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} قال: يتوفاها في منامها.
قال: فتلتقي روح الحي وروح الميت فيتذاكران ويتعارفان.
قال: فترجع روح الحي إلى جسده في الدنيا إلى بقية أجله في الدنيا.
قال: وتريد روح الميت أن ترجع إلى جسده فتحبس.
وهذا أحد القولين وهو أن قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42] أريد بها أن من مات قبل ذلك لقي روح الحي.
والقول الثاني وعليه الأكثرون أن كلا من النفسين الممسكة والمرسلة توفيتا وفاة النوم، وأما التي توفيت وفاة الموت فتلك قسم ثالث؛ وهي التي قدمها بقوله: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة؛ فإن اللّه قال: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، فذكر إمساك التي قضى عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها بالنوم، وأما التي توفاها حين موتها فتلك لم يصفها بإمساك ولا إرسال، ولا ذكر في الآية التقاء الموتى بالنيام.
والتحقيق أن الآية تتناول النوعين؛ فإن اللّه ذكر توفيتين: توفي الموت، وتوفي النوم، وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى.
ومعلوم أنه يمسك كل ميتة، سواء ماتت في النوم أو قبل ذلك، ويرسل من لم تمت.
وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يتناول ما ماتت في اليقظة وما ماتت في النوم، فلما ذكر التوفيتين ذكر أنه يمسكها في أحد التوفيتين ويرسلها في الأخرى، وهذا ظاهر اللفظ ومدلوله بلا تكلف.
وما ذكر من التقاء أرواح النيام والموتي لا ينافي ما في الآية، وليس في لفظها دلالة عليه، لكن قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} يقتضي أنه يمسكها لا يرسلها كما يرسل النائمة، سواء توفاها في اليقظة أو في النوم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم" فوصفها بأنها في حال توفي النوم إما ممسكة وإما مرسلة.
وقال ابن أبي حاتم: ثنا أبي، ثنا عمر بن عثمان، ثنا بَقيَّة؛ ثنا صفوان بن عمرو، حدثني سليم بن عامر الحضرمي؛ أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: أعجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال ! فتكون رؤياه كأخذ باليد، ويرى الرجل الشيء؛ فلا تكون رؤياه شيئًا، فقال على بن أبي طالب: أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ إن اللّه يقول: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فاللّه يتوفي الأنفس كلها، فما رأت وهي عنده في السماء فهو الرؤيا الصادقة.
وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، فأخبرتها بالأباطيل وكذبت فيها، فعجب عمر من قوله.
وذكر هذا أبو عبد اللّه محمد بن إسحاق بن منده في كتاب [الروح والنفس] وقال: هذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره، ولفظه: قال على بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، يقول اللّه تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} والأرواح يعرج بها في منامها، فما رأت وهي في السماء فهو الحق، فإذا ردت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها، فما رأت من ذلك فهو الباطل.
قال الإمام أبو عبد اللّه بن منده: وروى عن أبي الدرداء قال: روى ابن لَهِيعَة عن عثمان بن نعيم الرُّعَيْني، عن أبي عثمان الأصْبَحِي، عن أبي الدرداء قال: إذا نام الإنسان عرج بروحه حتى يؤتى بها العَرْش قال: فإن كان طاهرًا أذن لها بالسجود، وإن كان جُنُبًا لم يؤذن لها بالسجود.
رواه زيد بن الحباب وغيره.
وروى ابن منده حديث على وعمر رضي اللّه عنهما مرفوعًا، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد، ثنا محمد بن شعيب، ثنا ابن عياش بن أبي إسماعيل، وأنا الحسن بن علي، أنا عبد الرحمن بن محمد، ثنا قتيبة والرازي، ثنا محمد بن حميد، ثنا أبو زهير عبد الرحمن بن مغراء الدوسي، ثنا الأزهر بن عبد اللّه الأزدي، عن محمد بن عجلان، عن سالم بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه قال: لقي عمر بن الخطاب على بن أبي طالب فقال: يا أبا الحسن، ربما شهدت وغبنا، وربما شهدنا وغبت، ثلاثة أشياء أسألك عنهن، فهل عندك منهن علم؟ فقال على بن أبي طالب: وما هن؟ قال: الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيرًا، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شرًا.
فقال: نعم، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول" قال عمر: واحدة.
قال عمر: والرجل يحدث الحديث إذ نسيه، فبينما هو قد نسيه إذ ذكره.
فقال: نعم، سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول .
قال عمر: اثنتان. قال: والرجل يرى الرؤيا: فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب. فقال: نعم، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول .
فقال عمر: ثلاث كنت في طلبهن؛ فالحمد للّه الذي أصبتهن قبل الموت.
ورواه من وجه ثالث:أن ابن عباس سأل عنه عمر، فقال: حدثنا أحمد بن سليمان بن أيوب، ثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد، ثنا آدم بن أبي إياس، ثنا إسماعيل بن عَيَّاش، عن ثعلبة بن مسلم الخَثْعَمِي، عن ابن أبي طلحة القرشي؛ أن ابن عباس رضي اللّه عنه قال لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يا أمير المؤمنين، أشياء أسألك عنها؟ قال: سل عما شئت؛ فقال: يا أمير المؤمنين، مم يذكر الرجل، ومم ينسى؟ ومم تصدق الرؤيا، ومم تكذب؟ فقال له:عمر أما قولك: مم يذكر الرجل ومم ينسى؟ فإن على القلب طَخَاء [الطَّخَاء: ثِقَلٌ وغَشْى، وأصله: الظُّلْمة والغَيْم].
مثل طخاء القمر، فإذا تغشت القلب نسي ابن آدم، فإذا تجلت عن القلب ذكر ما كان ينسى، وأما مم تصدق الرؤيا ومم تكذب؟ فإن اللّه يقول: {اللَّهُ يَتَوَفي الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] فمن دخل منها في ملكوت السماء فهي التي تصدق، وما كان منها دون ملكوت السماء فهي التي تكذب.
قلت: وفي هذين الطريقين ذكر أن التي تكذب ما لم يكمل وصولها إلى العلو.
وفي الأول ذكر أن ذلك يكون مما يحصل بعد رجوعها.
وكلا الأمرين ممكن؛ فإن الحكم يختلف لفوات شرطه، أو وجود مانعه عن ذلك، قال عكرمة ومجاهد: إذا نام الإنسان فإن له سببا تجري فيه الروح، وأصله في الجسد، فتبلغ حيث شاء اللّه، فما دام ذاهبًا فإن الإنسان نائم، فإذا رجع إلى البدن انتبه الإنسان، فكان بمنزلة شعاع هو ساقط بالأرض وأصله متصل بالشمس.
قال ابن منده: وأخبرت عن عبد اللّه بن عبد الرحمن السمرقندي، عن على بن يزيد السمرقندي وكان من أهل العلم والأدب وله بصر بالطب والتعبيرقال: إن الأرواح تمتد من مَنْخِر الإنسان، ومراكبها وأصلها في بدن الإنسان، فلو خرج الروح لمات، كما أن السراج لو فَرَّقْتَ بينها وبين الفتيلة لطفئت.
ألا ترى أن تركب النار في الفتيلة، وضوءها وشعاعها ملأ البيت، فكذلك الروح تمتد من منخر الإنسان في منامه حتى تأتي السماء، وتَجُول في البلدان، وتلتقي مع أرواح الموتى.
فإذا رآها الملك الموكل بأرواح العباد أراه ما أحب أن يراه وكان المرء في اليقظة عاقلًا ذكيًا صدوقًا لا يلتفت في اليقظة إلى شيء من الباطل رجع إليه روحه، فأدى إلى قلبه الصدق بما أراه اللّه عز وجل على حسب صدقه.
وإن كان خفيفًا نَزِيقًا [أي: خفيفًا].
يحب الباطل والنظر إليه، فإذا نام وأراه اللّه أمرًا من خير أو شر رجع روحه، فحيثما رأى شيئًا من مخاريق الشيطان أو باطلًا وقف عليه كما يقف في يقظته، وكذلك يؤدي إلى قلبه فلا يعقل ما رأى؛ لأنه خلط الحق بالباطل، فلا يمكن معبر يعبر له، وقد اختلط الحق بالباطل.
قال الإمام ابن منده: ومما يشهد لهذا الكلام ما ذكرناه عن عمر وعلى وأبي الدرداء رضي اللّه عنهم.
قلت: وخرج ابن قتيبة في كتاب [تعبير الرؤيا]، قال: حدثني حسين بن حسن المروزي [حسين بن الحسن بن حرب السلمي بن عبد الله المروزي، نزيل مكة.
روى عن ابن المبارك ويزيد بن زريع وابن علية وغيرهم، وروى عنه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وثقه ابن حبان وغير واحد. مات سنة 46هـ]، أخبرنا ابن المبارك عبد اللّه، ثنا المبارك عن الحسن أنه قال: أنبئت أن العبد إذا نام وهو ساجد يقول اللّه تبارك وتعالى .
وإذا كانت الروح تعرج إلى السماء مع أنها في البدن، علم أنه ليس عروجها من جنس عروج البدن الذي يمتنع هذا فيه.
وعروج الملائكة ونزولها من جنس عروج الروح ونزولها، لا من جنس عروج البدن ونزوله.
وصعود الرب عز وجل فوق هذا كله وأجل من هذا كله؛ فإنه تعالى أبعد عن مماثلة كل مخلوق من مماثلة مخلوق لمخلوق.
وإذا قيل: الصعود والنزول والمجيء والإتيان أنواع جنس الحركة، قيل: والحركة أيضًا أصناف مختلفة، فليست حركة الروح كحركة البدن، ولا حركة الملائكة كحركة البدن، والحركة يراد بها انتقال البدن والجسم من حيز، ويراد بها أمور أخرى، كما يقوله كثير من الطبائعية والفلاسفة: منها الحركة في الكم كحركة النمو، والحركة في الكيف كحركة الإنسان من جهل إلى علم، وحركة اللون أو الثياب من سواد إلى بياض، والحركة في الأيْن كالحركة تكون بالأجسام النامية من النبات والحيوان في النمو والزيادة، أو في الذبول والنقصان، وليس هناك انتقال جسم من حيز إلى حيز.
ومن قال: إن الجواهر المفردة تنتقل، فقوله غلط، كما هو مبسوط في موضعه.
وكذلك الأجسام تنتقل ألوانها وطعومها وروائحها، فيسود الجسم بعد ابيضاضه، ويحلو بعد مرارته، بعد أن لم يكن كذلك.
وهذه حركات واستحالات وانتقالات، وإن لم يكن في ذلك انتقال جسم من حيز إلى حيز.
وكذلك الجسم الدائر في موضع واحد كالدولاب والفلك هو بجملته لا يخرج من حيزه، وإن لم يزل متحركا.
وهذه الحركات كلها في الأجسام، وأما في الأرواح فالنفس تنتقل من بغض إلى حب، ومن سخط إلى رضا.
ومن كراهة إلى إرادة، ومن جهل إلى علم، ويجد الإنسان من حركات نفسه وانتقالاتها وصعودها ونزولها ما يجده.
وذلك من جنس آخر غير جنس حركات بدنه.
وإذا عرف هذا؛ فإن للملائكة من ذلك ما يليق بهم، وإن ما يوصف به الرب تبارك وتعالى هو أكمل وأعلى وأتم من هذا كله، وحينئذ فإذا قال السلف والأئمة كحماد بن زيد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهما من أئمة أهل السنة أنه ينزل ولا يخلو منه العرش، لم يجز أن يقال: إن ذلك ممتنع، بل إذا كان المخلوق يوصف من ذلك بما يستحيل من مخلوق آخر، فالروح توصف من ذلك بما يستحيل اتصاف البدن به، كان جواز ذلك في حق الرب تبارك وتعالى أولى من جوازه من المخلوق كأرواح الآدميين والملائكة.
ومن ظن أن ما يوصف به الرب عز وجل لا يكون إلا مثل ما توصف به أبدان بني آدم، فغلطه أعظم من غلط من ظن أن ما توصف به الروح مثل ما توصف به الأبدان.
وأصل هذا: أن قربه سبحانه ودنوه من بعض مخلوقاته، لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش، بل هو فوق العرش، ويقرب من خلقه كيف شاء، كما قال ذلك من قاله من السلف، وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة، قال تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَن ظَلَمَ} [النمل: 7ـ11] وقال في السورة الأخرى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:29-30] وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:51-52] فأخبر أنه ناداه من جانب الطور، وأنه قربه نجيا، وقال تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:34ـ46] وقال تعالى:{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} [النازعات:15ـ20].
وقال ابن أبي حاتم في [تفسيره]: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا معاوية بن هشام، حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] قال: كان ذلك النار، قال اللّه: من في النور، ونودي أن بورك من في النور.
حدثنا على بن الحسين، ثنا محمد بن حمزة، ثنا على بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي؛ أن عكرمة حدثني عن ابن عباس: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّار} قال: كان ذلك النار نوره {وَمَنْ حَوْلَهَا} أي: بورك من في النور ومن حول النور.
وكذلك روى بإسناده من تفسير عطية عن ابن عباس: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} [النمل: 8] يعني نفسه، قال: كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها.
حدثنا أبي، ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري [هو أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الجوهري، الطبري الأصل، البغدادي، الحافظ، ولد بعد السبعين ومائة، وثقه النسائي والخطيب، ومات سنة 249هـ وقيل غير ذلك]، ثنا أبو معاوية، عن شيبان، عن عكرمة: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} [النمل: 8] قال: كان اللّه في نوره.
حدثنا أبو زُرْعَة، ثنا بن أبي شيبة، ثنا على بن جعفر المدائني، عن وَرْقَاء، عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} [النمل:8] قال: ناداه وهو في النور.
حدثنا على بن الحسين المنْجَاني، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا مُفَضَّل بن أبي فَضَالة حدثني ابن ضَمْرَة: {فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا}، قال: إن موسى كان على شاطئ الوادي إلى أن قال فلما قام أبصر النار فسار إليها، فلما أتاها {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ}، قال: إنها لم تكن نارًا، ولكن كان نور اللّه وهو الذي كان في ذلك النور، وإنما كان ذلك النور منه، وموسى حوله.
حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان، ثنا مكي بن إبراهيم، ثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله عز وجل: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} قال: النار نور الرحمة، قال: ضوء من اللّه تعالى {وَمَنْ حَوْلَهَا}: موسى والملائكة.
وروي بإسناده عن ابن عباس: {وَمَنْ حَوْلَهَا} قال: الملائكة.
قال: وروي عن عكرمة، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتاده مثل ذلك.
وروى عن السدي وحده: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ}، قال: كان في النار ملائكة.
وفي صحيح مسلم عن أبي عُبَيْدة، عن أبي موسى، قال: قام فينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال .
ثم قرأ أبو عبيدة: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} وذكر من تفسير الوالبي عن ابن عباس: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ}، يقول: قدس، وعن مجاهد: {أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} بوركت النار.
كذلك كان يقول ابن عباس وفي السورة الأخرى: ذكر أنه ناداه من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وقوله: {مِنَ الشَّجَرَةِ} هو بدل من قوله: {مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ} [القصص:30] فالشجرة كانت فيه، وقال أيضًا: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} [مريم:52] والطور هو الجبل، فالنداء كان من الجانب الأيمن من الطور ومن الوادي فإن شاطئ الوادي جانبه، وقال: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص:44] أي: بالجانب الغربي، وجانب المكان الغربي؛ فدل على أن هذا الجانب الأيمن هو الغربي لا الشرقي، فذكر أن النداء كان من موضع معين وهو الوادي المقدس طوى من شاطئ الوادي الأيمن من جانب الطور الأيمن من الشجرة، وذكر أنه قَرَّبه نَجيا فناداه وناجاه، وذلك المنادى له، والمناجى له، هو اللّه رب العالمين لا غيره، ونداؤه ومناجاته قائمة به، ليس ذلك مخلوقًا منفصلا عنه، كما يقوله من يقول: إن اللّه لا يقوم به كلام، بل كلامه منفصل عنه مخلوق، وهو سبحانه وتعالى ناداه وناجاه ذلك الوقت، كما دل عليه القرآن، لا كما يقوله من يقول: لم يزل مناديًا مناجيًا له، ولكن ذلك الوقت خلق فيه إدراك النداء القديم الذي لم يزل ولا يزال.
فهذان قولان مبتدعان لم يقل واحدًا منها أحد من السلف.
وإذا كان المنادي هو اللّه رب العالمين، وقد ناداه من موضع معين وقربه إليه، دل ذلك على ما قاله السلف من قربه ودنوه من موسى عليه السلام مع أن هذا قرب مما دون السماء.
وقد جاء أيضًا من حديث وهب بن منبه وغيره من الإسرائيليات قربه من أيوب عليه السلام وغيره من الأنبياء عليهم السلام ولفظه الذي ساقه البغوي أنه أضله غمام ثم نودي: يا أيوب، أنا اللّه، يقول:أنا قد دنوت منك، أنزل منك قريبًا.
لكن الإسرائيليات إنما تذكر على وجه المتابعة، لا على وجه الاعتماد عليها وحدها، وهو سبحانه وتعالى قد وصف نفسه في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بقربه من الداعي وقربه من المتقرب إليه، فقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
وثبت في [الصحيحين] عن أبي موسى، أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقربه من العباد بتقربهم إليه مما يقر به جميع من يقول: إنه فوق العرش، سواء قالوا مع ذلك: إنه تقوم به الأفعال الاختيارية أو لم يقولوا.
وأما من ينكر ذلك:
فمنهم من يفسر قرب العباد بكونهم يقاربونه ويشابهونه من بعض الوجوه فيكونون قريبين منه، وهذا تفسير أبي حامد والمتفلسفة؛ فإنهم يقولون: الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة.
ومنهم من يفسر قربهم بطاعتهم، ويفسر قربه بإثابته.
وهذا تفسير جمهور الجهمية؛ فإنهم ليس عندهم قرب ولا تقريب أصلًا.
ومما يدخل في معاني القرب وليس في الطوائف من ينكره قرب المعروف والمعبود إلى قلوب العارفين العابدين؛ فإن كل من أحب شيئًا فإنه لابد أن يعرفه ويقرب من قلبه، والذي يبغضه يبعد من قلبه.
لكن هذا ليس المراد به أن ذاته نفسها تحل في قلوب العارفين العابدين، وإنما في القلوب معرفته وعبادته ومحبته، والإيمان به؛ ولكن العلم يطابق المعلوم.
وهذا الإيمان الذي في القلوب هو [المثل الأعلى] الذي له في السموات والأرض، وهو معنى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، وقوله: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3].
وقد غلط في هذه الآية طائفة من الصوفية والفلاسفة وغيرهم، فجعلوه حلول الذات واتحادها بالعابد والعارف، من جنس قول النصارى في المسيح، وهو قول باطل، كما قد بسط في موضعه.
والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته هو القول المعروف للسلف والأئمة، وهو قول الأشعري وغيره من الكُلابية؛ فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته، وكذلك يثبتون استواءه على العرش بذاته، ونحو ذلك، ويقولون: الاستواء فعل فعله في العرش فصار مستويًا على العرش.
وهذا أيضًا قول ابن عقيل، وابن الزاغوني، وطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم.
وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده؛ فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش.
وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر.
وأول من أنكر هذا في الإسلام الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة، وكانوا ينكرون الصفات والعلو على العرش، ثم جاء ابن كُلاب فخالفهم في ذلك، وأثبت الصفات والعلو على العرش، لكن وافقهم على أنه لا تقوم به الأمور الاختيارية؛ ولهذا أحدث قوله في القرآن: أنه قديم لم يتكلم به بقدرته.
ولا يعرف هذا القول عن أحد من السلف، بل المتواتر عنهم أن القرآن كلام اللّه غيرمخلوق، وأن اللّه يتكلم بمشيئته وقدرته، كما ذكرت ألفاظهم في كتب كثيرة في مواضع غير هذا.
فالذين يثبتون أنه كلم موسى بمشيئته وقدرته كلامًا قائمًا به، هم الذين يقولون:إنه يدنو ويقرب من عباده بنفسه.
وأما من قال: القرآن مخلوق أو قديم، فأصل هؤلاء أنه لا يمكن أن يقرب من شيء ولا يدنو إليه، فمن قال منهم بهذا مع هذا، كان من تناقضه؛ فإنه لم يفهم أصل القائلين بأنه قديم.
وأهل الكلام قد يعرفون من حقائق أصولهم ولوازمها ما لا يعرفه من وافقهم على أصل المقالة، ولم يعرف حقيقتها ولوازمها؛ فلذا يوجد كثير من الناس يتناقض كلامه في هذا الباب.
فإن نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف متظاهرة بالإثبات، وليس على النفي دليل واحد: لا من كتاب ولا من سنة ولا من أثر، وإنما أصله قول الجهمية، فلما جاء ابن كُلاب فرق، ووافقه كثير من الناس على ذلك، فصار كثير من الناس يقر بما جاء عن السلف وما دل عليه الكتاب والسنة، وبما يقوله النفاة مما يناقض ذلك، ولا يهتدي للتناقض: {وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
وبهذا يحصل الجواب عما احتج به من قال: إن ثلث الليل يختلف باختلاف البلاد وهذا قد احتج به طائفة وجعلوا هذا دليلًا على ما يتأولون عليه حديث النزول.
وهذا الذي ذكروه إنما يصح إذا جعل نزوله من جنس نزول أجسام الناس من السطح إلى الأرض، وهو يشبه قول من قال: يخلو العرش منه بحيث يصير بعض المخلوقات فوقه وبعضها تحته! فإذا قدر النزول هكذا كان ممتنعًا؛ لما ذكروه من أنه لا يزال تحت العرش في غالب الأوقات أو جميعها، فإن بين طرفي العمارة نحو ليلة؛ فإنه يقال: بين ابتداء العمارة من المشرق ومنتهاها من المغرب مقدار مائة وثمانين درجة فلكية، وكل خمس عشرة فهي ساعة معتدلة، والساعة المعتدلة هي ساعة من اثنتي عشرة ساعة بالليل أو النهار، إذا كان الليل والنهار متساويين كما يستويان في أول الربيع الذي تسميه العرب الصيف، وأول الخريف الذي تسميه الربيع بخلاف ما إذا كان أحدهما أطول من الآخر، وكل واحد اثنتا عشرة ساعة، فهذه الساعات مختلفة في الطول والقصر، فتغرب الشمس عن أهل المشرق قبل غروبها عن أهل المغرب، كما تطلع على هؤلاء قبل هؤلاء بنحو اثنتي عشرة ساعة أو أكثر.
فإن الشمس على أي موضع كانت مرتفعة من الأرض الارتفاع التام كما يكون عند نصف النهار فإنها تضيء على ما أمامها و خلفها من المشرق والمغرب تسعين درجة شرقية وتسعين غربية، والمجموع مقدار حركتها: اثنتا عشرة ساعة، ستة شرقية، وستة غربية، وهو النهار المعتدل.
ولا يزال لها هذا النهار، لكن يخفي ضوؤها بسبب ميلها إلى جانب الشمال والجنوب، فإن المعمور من الأرض من الناحية الشمالية من الأرض التي هي شمال خط الاستواء المحاذي لدائرة معتدل النهار التي نسبتها إلى القطبين الشمالي والجنوبي نسبة واحدة؛ ولهذا يقال في حركة الفلك: إنها على ذلك المكان دولابية مثل الدولاب، وأنها عند القطبين رحاوية تشبه حركة الرَّحَى، وأنها في المعمور من الأرض حمائلية تشبه حمائل السيوف.
والمعمور المسكون من الأرض، يقال: إنه بضع وستون درجة أكثر من السدس بقليل.
والكلام على هذا لبسطه موضع آخر، ذكرنا فيه دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وسائر من تبعهم من علماء المسلمين على أن الفلك مستدير.
وقد ذكر إجماع علماء المسلمين على ذلك غير واحد، منهم الإمام أبو الحسين بن المنادي الذي له نحو [أربعمائة مصنف] وهو من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد، وأبو محمد بن حزم، وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم.
والمقصود هنا أن الشمس إذا طلعت على أول البلاد الشرقية، فإنه حينئذ يكون إما وقت غروبها وإما قريبًا من وقت غروبها على آخر البلاد الغربية، فإنها تكون بحيث يكون الضوء أمامها تسعين درجة وخلفها تسعين درجة، فهذا منتهي نورها.
فإذا طلعت عليهم كان بينها وبينهم تسعون درجة، وكذلك على بلد تطلع عليه، والحاسب يفرق بين الدرجات كما يفرق بين الساعات، فإن الساعات المختلفة الزمانية كل واحد منها خمس عشرة درجة بحسب ذلك الزمان، فيكون بينها وبين المغرب أيضًا تسعون درجة من ناحية المغرب، وإذا صار بينها وبين مكان تسعون درجة غربية غابت، كما تطلع إذا كان بينها وبينهم تسعون درجة شرقية، وإذا توسطت عليهم وهو وقت استوائها قبل أن تَدْلُكَ [أي تميل عن الاستواء] وتَزِيغَ ويدخل وقت الظهر كان لها تسعون درجة شرقية وتسعون درجة غربية.
وإذا كان كذلك والنزول المذكور في الحديث النبوي على قائله أفضل الصلاة والسلام الذي اتفق عليه الشيخان: البخاري ومسلم، واتفق علماء الحديث على صحته: هو ، وأما رواية النصف والثلثين فانفرد بها مسلم في بعض طرقه، وقد قال الترمذي: إن أصح الروايات عن أبي هريرة: .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعة كثيرة من الصحابة كما ذكرنا قبل هذا؛ فهو حديث متواتر عند أهل العلم بالحديث، والذي لا شك فيه إذا بقي ثلث الليل الآخر.
فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر[النزول] أيضًا إذا مضى ثلث الليل الأول وإذا انتصف الليل؛ فقوله حق وهو الصادق المصدوق، ويكون النزول أنواعًا ثلاثة: الأول إذا مضى ثلث الليل الأول، ثم إذا انتصف وهو أبلغ، ثم إذا بقي ثلث الليل، وهو أبلغ الأنواع الثلاثة.
ولفظ (الليل والنهار) في كلام الشارع إذا أطلق، فالنهار من طلوع الفجر، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم" وقوله ونحو ذلك، فإنما أراد صوم النهار من طلوع الفجر، وكذلك وقت صلاة الفجر، وأول وقت الصيام بالنقل المتواتر المعلوم للخاصة والعامة والإجماع الذي لا ريب فيه بين الأمة، وكذلك في مثل قوله صلى الله عليه وسلم .
ولهذا قال العلماء كالإمام أحمد بن حنبل وغيره : إن صلاة الفجر من صلاة النهار.
وأما إذا قال الشارع صلى الله عليه وسلم " فإنما يعني به النهار المبتدئ من طلوع الشمس، لا يريد قط لا في كلامه ولا في كلام أحد من علماء المسلمين بنصف النهار النهار الذي أوله من طلوع الفجر؛ فإن نصف هذا يكون قبل الزوال؛ ولهذا غلط بعض متأخري الفقهاء لما رأى كلام العلماء أن الصائم المتطوع يجوز له أن ينوي التطوع قبل نصف النهار؛ وهل يجوز له بعده؟ على قولين هما روايتان عن أحمد ظن أن المراد بالنهار هنا نهار الصوم الذي أوله طلوع الفجر.
وسبب غلطه في ذلك أنه لم يفرق بين مسمى النهار إذا أطلق، وبين مسمى نصف النهار، فالنهار الذي يضاف إليه نصف في كلام الشارع وعلماء أمته هو من طلوع الشمس، والنهار المطلق في وقت الصلاة والصيام من طلوع الفجر.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بالنزول إذا بقي ثلث الليل، فهذا الليل المضاف إليه الثلث يظهر أنه من جنس النهار المضاف إليه النصف وهو الذي ينتهي إلى طلوع الشمس، وكذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم أو ، فهو هذا الليل.
وكذلك الفقهاء إذا أطلقوا ثلث الليل ونصفه؛ فهو كإطلاقهم نصف النهار.
وهكذا أهل الحساب لا يعرفون غير هذا.
وقد يقال: بل هو الليل المنتهي بطلوع الفجر كما في الحديث الصحيح .
واليوم المعتاد المشروع إلى طلوع الشمس بل إلى طلوع الفجر. فإن كان المراد بالحديث هذا، وحينئذ فإذا قدر ثلث الليل في أول المشرق يكون قبل طلوع الشمس عليهم بأربع ساعات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم .
فقد أخبر بدوامه إلى طلوع الفجر، وفي رواية .
وقد قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] تشهده ملائكة الليل والنهار، وقد قيل: يشهده اللّه وملائكته.
وإذا كان هذا النزول يدوم نحو سدس عند أولئك، فهكذا هو عند كل قوم إذا مضى ثلثًا ليلهم يدوم عندهم سدس الزمان، وأما النزول الذي في النصف أو الثلثين، فإنه يدوم ربع الزمان أو ثلثه، فهو أكثر دوامًا من ذلك.
وإن أريد الليل المنتهي بطلوع الشمس، كان وقت النزول أقل من ذلك فيكون قريبًا من ثمن الزمان وتُسعه، وعلى رواية النصف والثلث يكون قريبًا من سدسه وربعه وأكثر من ذلك.
ومعلوم أن زمن ثلث ليل البلد الشرقي قبل ثلث ليل البلد الغربي كما قد عرف، والعمارة طولها اثنتا عشرة ساعة، مائة وثمانون درجة، فلو قدر أن لكل مقدار ساعة وهو خمس عشرة درجة من المعمور ثلثا غير ثلث مقدار الساعة الأخرى، لكان المعمور ستة وثلاثين ثلثًا، والنزول يدوم في كل ثلث مقدار سدس الزمان، فيلزم أن يكون النزول يدوم ليلًا ونهارًا، أنه يدوم بقدر الليل والنهار ست مرات، إذا قدر أن لكل طول ساعة من المعمور ثلثًا فكيف النزول الإلهي إلى السماء الدنيا لدعاء عباده الساكنين في الأرض؟ فكل أهل بلد من البلاد يبقي نزوله ودعاؤه لهم: هل من سائل؟ هل من داع؟ هل من مستغفر؟ سدس الزمان، والبلاد من المشرق إلى المغرب كثيرة.
والإسلام وللّه الحمد قد انتشر من المشرق إلى المغرب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح [وقوله: (زُوِيَتْ): أي جُمِعت].
وإنما ذكرنا هذا؛ لأنه قد يقال: إن هذا [النزول، والدعاء] إنما هو لعباده المؤمنين الذين يعبدونه ويسألونه ويستغفرونه؛ كما أن [نزول عَشِيَّة عَرَفَة] إنما هو لعباده المؤمنين الذين يحجون إليه، وكما أن رمضان إذا دخل فتحت أبواب الجنة لعباده المؤمنين الذين يصومون رمضان، وعنهم تغلق أبواب النار، وتُصَفَّد [أي: تُوثق وتُقيَّد].
شياطينهم، وأما الكفار الذين يستحلون إفطار شهر رمضان ولا يرون له حرمة ومزية فلا تفتح لهم فيه أبواب الجنة ولا تغلق عنهم فيه أبواب النار، ولا تصفد شياطينهم.
وليس المقصود هنا بسط هذا المعنى، بل المقصود أن النزول إن كان خاصًا بالمؤمنين، فهم وللّه الحمد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وإن كان عامًا؛ فهو أبلغ، فعلى كل تقدير لابد أن يدوم النزول الإلهي على أهل كل بلد مقدار سدس الزمان أو أكثر.
فإنه إذا قيل: ليل صيفهم قصير، قيل: وليل شتائهم طويل، فيعادل هذا هذا، وما نقص من ليل صيفهم زيد في ليل شتائهم؛ ولهذا جاء في الأثر .
وإذا كان كذلك، فلو كان النزول كما يتخيله بعض الجهال من أنه يصير تحت السموات وفوق السماء الدنيا وتحت العرش مقدار ثلث الليل على كل بلد، لم يكن اللازم أنه لا يزال تحت العرش وتحت السموات فقط؛ فإن هذا إنما يكون وحده هو اللازم إذا كان كل سدس من المعمور لهم كلهم ثلث واحد، وكان المجموع ستة أثلاث، فإذا قدر بقاؤه على هؤلاء مقدار ثلث، ثم على هؤلاء الآخرين مقدار ثلث، لزم ألا يزال تحت العرش، أو تحت السموات، أو حيث تخيل الجاهل أن اللّه محصور فيه، فلا يكون قط فوق العرش.
وأما إذا كان لكل بلد ثلث غير الثلث الآخر، وأن أول كل بلد بعد الثلث الآخر، يقدر ما بينهما، وكذلك آخر ثلث ليل البلد الشرقي ينقضي قبل انقضاء ثلث ليل البلد الغربي، وأيضًا، إن كانت مداخلة، فلابد أن يدوم النزول على كل بلد ثلث ليلهم إلى طلوع فجرهم، فيلزم من ذلك أن يقدر أثلاث بقدر عدد البلاد.
وأيضًا، فكما أن ثلث الليل يختلف بطول البلد، فهو يختلف بعرضها أيضًا.
فكلما كان البلد أدخل في الشمال، كان ليله في الشتاء أطول، وفي الصيف أقصر.
وما كان قريبًا من خط الاستواء يكون ليله في الشتاء أقصر من ليل ذاك وليله في الصيف أطول من ليل ذاك، فيكون ليلهم ونهارهم أقرب إلى التساوي.
وحينئذ، فالنزول الإلهي لكل قوم هو مقدار ثلث ليلهم، فيختلف مقداره بمقادير الليل في الشمال والجنوب، كما اختلف في المشرق والمغرب.
وأيضًا، فإنه إذا صار ثلث الليل عند قوم، فبعده بلحظة ثلث الليل عند ما يقاربهم من البلاد، فيحصل النزول الإلهي الذي أخبر به الصادق المصدق أيضًا عند أولئك إذا بقي ثلث ليلهم، وهكذا إلى آخر العمارة.
فلو كان كما توهمه الجاهل، من أنه يكون تحت العرش، وتكون فوقه السماء وتحته السماء؛ لكان هذا ممتنعًا من وجوه كثيرة:
منها: أنه لا يكون فوق العرش قط بل لا يزال تحته، ومنها: أنه يجب على هذا التقدير أن يكون الزمان بقدر ما هو مرات كثيرة جدًا ليقع كذلك، ومنها: أنه مع دوام نزوله إلى سماء هؤلاء إلى طلوع فجرهم، إن أمكن مع ذلك، أن يكون قد نزل على غيرهم أيضًا، ممن ثلث ليلهم يخالف ثلث هؤلاء في التقديم والتأخير والطول والقصر.
فهذا خلاف ما تخيلوه، فإنهم لا يمكنهم أن يتخيلوا نازلًا كنزول العباد، من يكون نازلا على سماء هؤلاء ثلث ليلهم، وهو أيضًا في تلك الساعة نازلًا على سماء آخرين، مع أنه يجب أن يتقدم على أولئك أو يتأخر عنهم، أو يزيد أو يقصر.
وحكى عن بعض الجهال أنه قيل له: فالسموات كيف حالها عند نزوله؟ قال: يرفعها، ثم يضعها، وهو قادر على ذلك.
فهؤلاء الذين يتخيلون ما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم به ربه أنه مثل صفات أجسامهم، كلهم ضالون، ثم يصيرون قسمين:
قسم علموا أن ذلك باطل، وظنوا أن هذا ظاهر النص ومدلوله، وأنه لا يفهم منه معنى إلا ذلك، فصاروا: إما أن يتأولوه تأويلًا يحرفون به الكلم عن مواضعه.
وإما أن يقولوا: لا يفهم منه شيء، ويزعمون أن هذا مذهب السلف.
ويقولون: إن قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} [آل عمران:7] يدل على أن معنى المتشابه لا يعلمه إلا اللّه، والحديث منه متشابه كما في القرآن وهذا من متشابه الحديث، فيلزمهم أن يكون الرسول الذي تكلم بحديث النزول لم يَدْرِ هو ما يقول، ولا ما عنى بكلامه وهو المتكلم به ابتداء.
فهل يجوز لعاقل أن يظن هذا بأحد من عقلاء بنى آدم؟! فضلًا عن الأنبياء! فضلا عن أفضل الأولين والآخرين، وأعلم الخلق، وأفصح الخلق، وأنصح الخلق للخلق صلى الله عليه وسلم؟! وهم مع ذلك يدعون أنهم أهل السنة، وإن هذا القول الذي يصفون به الرسول وأمته هو قول أهل السنة.
ولا ريب أنهم لم يتصوروا حقيقة ما قالوه ولوازمه.
و لو تصوروا ذلك لعلموا أنه يلزمهم ما هو من أقبح أقوال الكفار في الأنبياء، وهم لا يرتضون مقالة من ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم، ولو تنقصه أحد لاستحلوا قتله.
وهم مصيبون في استحلال قتل من يقدح في الأنبياء عليهم السلام، وقولهم يتضمن أعظم القَدْح؛ لكن لم يعرفوا ذلك.
ولازم القول ليس بقول، فإنهم لو عرفوا أن هذا يلزمهم ما التزموه.
وقسم ثان، من الممثلين للّه بخلقه، لما رأوا أن قول هؤلاء منكر، وأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم حق، قالوا مثل تلك الجهالات: من أنه تصير فوقه سماء وتحته سماء، أو أن السموات ترتفع ثم تعود، ونحو ذلك مما يظهر بطلانه لمن له أدنى عقل ولُبٍّ.
وقد ثبت في الصحيحين أنه ينزل، وفي لفظ ، وفي حديث آخر ، وفي صحيح مسلم ، وفي صحيح مسلم أيضًا فما ذكر من تقدم اختلاف الليل في البلاد، يبطل قول من يظن أنه يخلو منه العرش، ويصير تحت العرش أو تحت السماء.
وأما النزول الذي لا يكون من جنس نزول أجسام العباد فهذا لا يمتنع أن يكون في وقت واحد لخلق كثير، ويكون قدره لبعض الناس أكثر، بل لا يمتنع أن يقرب إلى خلق من عباده دون بعض، فيقرب إلى هذا الذي دعاه دون هذا الذي لم يدعه.
وجميع ما وصف به الرب عز وجل نفسه من القرب، فليس فيه ما هو عام لجميع المخلوقات كما في المعية؛ فإن المعية وصف نفسه فيها بعموم وخصوص.
وأما قربه مما يقرب منه، فهو خاص لمن يقرب منه، كالداعي والعابد، وكقربه عشية عرفة، ودنوه إلى السماء الدنيا لأجل الحجاج، وإن كانت تلك العشية بعرفة قد تكون وسط النهار في بعض البلاد، وتكون ليلا في بعض البلاد؛ فإن تلك البلاد لم يَدْنُ إليها، ولا إلى سمائها الدنيا، وإنما دنا إلى السماء الدنيا التي على الحُجَّاج، وكذلك نزوله بالليل.
وهذا كما أن حسابه لعباده يوم القيامة يحاسبهم كلهم في ساعة واحدة، وكل منهم يخلو به كما يخلو الرجل بالقمر ليلة البدر فيقرره بذنوبه، وذلك المحاسب لا يرى أنه يحاسب غيره.
كذلك قال أبو رَزِين: للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال رجل لابن عباس رضي اللّه عنه كيف يحاسب اللّه العباد في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة.
وكذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" .
فهذا يقوله سبحانه وتعالى لكل مُصَلٍّ قرأ الفاتحة، فلو صلى الرجل ما صلى من الركعات قيل له ذلك وفي تلك الساعة يصلي من يقرأ الفاتحة من لا يحصى عدده إلا اللّه، وكل واحد منهم يقول اللّه له كما يقول لهذا، كما يحاسبهم كذلك، فيقول لكل واحد ما يقول له من القول في ساعة واحدة.
وكذلك سمعه لكلامهم يسمع كلامهم كله مع اختلاف لغاتهم، وتفنن حاجاتهم، يسمع دعاءهم سمع إجابة، ويسمع كل ما يقولونه سمع علم و إحاطة لا يشغله سمع عن سمع.
ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، فإنه سبحانه هو الذي خلق هذا كله، وهو الذي يرزق هذا كله وهو الذي يوصل الغذاء إلى كل جزء جزء من البدن على مقداره وصفته المناسبة له، وكذلك من الزرع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس (العقيدة)