حكم من علق طلاق زوجته على دخول ابنه البيت
خالد عبد المنعم الرفاعي
ما حكم اذ اقسم شخص علي ابنه لا يدخل البيت واذ دخل قال لزوجته انتي طلق
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإنَّ من علق طلاقَ زوجتِه على دخول ابنه البيت، فقال أنتِ طالق إن دخل ابنك البيت، فإن كان الزَّوج يقصد طلاق زوجته بذلك، فإنَّها تكون طالقًا بمجرد دخوله البيت، وقد حكى الإجماع على وقوع الطلاق في تلك الحال أبو محمَّد بن حزْم في "مراتب الإجماع"، وأقرَّه عليْه شيخ الإسلام ابن تيمية.
وأمَّا إن كان لا يقصِد إيقاع الطلاق، وإنَّما يُريد مجرَّد منْعِ زوجتِه من إدخال ابنها للبيت، أو يهددها ويزجرَها ويخوفَها بالطَّلاق: فالصحيح من أقوال أهل العلم أنَّ الطلاق لا يقع بدخول الابن البيت، وإنَّما عليه أن يكفِّر كفَّارة يَمين إن وقع الشَّرط؛ لأن المعنى مقدم على اللفظ، فالحالف يريدُ الزَّجْر والمنْع، وهو كارهٌ للطَّلاق، وإن كان اللَّفظ قد يدلُّ على الطَّلاق؛ إلا أنه ليس نصًّا ولا ظاهرًا فيه، فهو أشبه بتعلق بنذر اللَجاج، أو الحَلِف بالنذر والعتق، الذي يخيَّر صاحبُه بين الوفاء أو كفارة اليمين، ومثل نذر الطلاق الذي لا يشرع الوفاء به؛ لأن صاحبه لا يقصد البِرَّ؛ وإنما قصد المنع من فعل معيّن، أو الحضَّ عليه، وكذلك معلِّق الطلاق لا يقصد إيقاعه، وإنما يقصد المنع أو الحض لنفسه أو لغيره.
قال شيخالإسلام ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى": "المسألة فيها نزاع بين السلف والخلف على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يقع الطلاق إذا حَنِثَ في يمينه، وهذا هو المشهور عند أكثر الفقهاء المتأخرين، حتى اعتقد طائفة منهم أن ذلك إجماع؛ ولهذا لم يذكر عامتُهم عليه حُجَّةً، وحجتُهم عليه ضعيفةٌ جدًّا، وهي: "أنه التزم أمرًا عند وجود شرط، فلَزِمَه ما التزمه"، وهذا منقوض بصور كثيرة، وبعضُها مجمَعٌ عليه: كنذر الطلاق والمعصية والمباح، وكالتزام الكفر على وجه اليمين، مع أنه ليس له أصل يقاس به إلا وبينهما فرقٌ مؤثر في الشرع، ولا دل عليه عموم نص ولا إجماع؛ لكن لمّا كان موجبُ العقد لزومَ ما التزمه، صار يُظَنُّ في بادئ الرأي: أن هذا عقد لازم، وهذا يوافق ما كانوا عليه في أول الإسلام، قبل أن يُنزل الله كفارة اليمين موجِبَةً ومحرَّمةً، وأما إذا لم يَحْنَثْ في يمينه، فلا يقع به الطلاق بلا ريب.
والقول الثاني: أنه لا يقع به طلاق ولا يلزمه كفارة، وهذا مذهب داود وأصحابه، وطوائف من الشيعة... وأصل هؤلاء: أن الحلف بالطلاقِ، والعتاقِ، والظِّهارِ، والحرامِ، والنذرِ - لغْوٌ كالحلف بالمخلوقات، ويُفْتي به - في اليمين التي يُحْلَف بها بالتزام الطلاق - طائفةٌ من أصحاب أبي حنيفة والشافعي: كالقفال، وصاحب "التتمة"، ويُنْقَل عن أبي حنيفةَ نصًّا؛ بناءً على أن قولَ القائل: "الطلاق يلزمني، أو لازمٌ لي، ونحو ذلك" - صيغةُ نذر، لا صيغةَ إيقاع؛ كقوله: "لله عليَّ أن أُطَلِّقَ"، ومَنْ نَذَرَ أن يطلِّق، لم يلزمْه طلاقٌ بلا نزاع؛ ولكن في لزوم الكفارةِ له قولان.
والقول الثالث - وهو أصح الأقوال، وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار -: أن هذه يمين من أيمان المسلمين، فيجري فيها ما يجري في أيمان المسلمين، وهو الكفارة عند الحنث؛ إلا أن يختار الحالفُ إيقاع الطلاق، فله أن يوقعه ولا كفارة، وهذا قول طائفة من السلف والخلف؛ كطاوس وغيره، وهو مقتضى المنقول عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، وبه يُفْتي كثير من المالكية وغيرهم، حتى يقال: إن في كثير من بلاد المغرب من يفتي بذلك من أئمة المالكية، وهو مقتضى نصوص أحمد بن حنبل وأصوله في غير موضع.
وهذه الأقوال الثلاثة حكاها ابن حزم وغيره في الحلف بالطلاق، كما حَكَوْها في الحلف بالعتق والنذر وغيرهما، فإذا قال: "إن فعلت كذا فعبيدي أحرار"، ففيها الأقوال الثلاثة؛ لكن هنا لم يقل أحد من أصحاب أبي حنيفة والشافعي: "إنه لا يلزمه العتق"، كما قالوا ذلك في الطلاق، فيصح نذرُه بخلاف الطلاق، والمنقول عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه يجزئه كفارة يمين؛ كما ثبت ذلك عن ابن عمر، وحفصة، وزينب، ورَوَوْهُ أيضًا عن عائشة، وأم سلمة، وابن عباس، وأبي هريرة، وهو قول أكابر التابعين؛ كطاوس، وعطاء، وغيرهما، ولم يثبت عن صحابي ما يخالف ذلك: لا في الحلف بالطلاق، ولا في الحلف بالعتاق؛ بل إذا قال الصحابة: "إن الحالف بالعتق لا يلزمه العتق"، فالحالف بالطلاق أولى عندهم، وهذا كالحلف بالنذر مثل أن يقول: "إن فعلت كذا فعليَّ الحج، أو صوم سنة، أو ثلث مالي صدقة"، فإن هذا يمينٌ تُجْزِئ فيه الكفارة عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل عمر وابن عباس، وعائشة وابن عمر، وهو قول جماهير التابعين: كطاوس وعطاء، وأبي الشعثاء وعكرمة، والحسن وغيرهم، وهو مذهبُ الشافعي المنصوص عنه، ومذهب أحمد بلا نزاع عنه، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة - اختارها محمد بن الحسن - وهو قول طائفة من أصحاب مالك؛ كابن وهب وابن أبي الغمر، وأفتى ابنُ القاسم ابنَه بذلك.
والمعروفُ عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدَهم: أنه لا فرق بين أن يحلف بالطلاق، أو العتاق، أو النذر؛ إما أن تجزئه الكفارة في كل يمين، وإما أن لا شيء عليه، وإما أن يلزمه كما حلف به؛ بل إذا كان قوله: "إن فعلت كذا فعليَّ أن أعتق رقبة"، وقصد به اليمين - لا يلزمه العتق؛ بل يجزئه كفارة يمين، ولو قاله على وجه النذر، لزمه بالاتفاق، وإذا كان العتق الذي يلزمه بالنذر لا يلزمه إذا قصد به اليمين، فالطلاق الذي لا يلزم بالنذر أولى أن لا يلزم، إذا قصد به اليمين؛ فإن التعليق إنما يلزم فيه الجزاءُ إذا قُصِد وجوبُ الجزاء عند وجوب الشرط؛ كقوله: "إن أَبْرَأْتِني مِن صَداقكِ فأنت طالق"، "وإن شفى الله مريضي فثلث مالي صدقة".
وأما إذا كان يكره وقوع الجزاء - وإن وجد الشرط، وإنما التزمه ليَحُضَّ نفسه أو يمنعها، أو يحض غيره أو يمنعه - فهذا مخالف؛ كقوله: "إن فعلت كذا فأنا يهودي، أو نصراني، ومالي صدقة، وعبيدي أحرار، ونسائي طوالق، وعليَّ عَشْرُ حجج، وصوم" - فهذا حالف؛ باتفاق الصحابة والفقهاء وسائر الطوائف؛ وقد قال الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وقال تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89].
وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه في الصحيح أنه قال: ((مَن حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأْتِ الذي هو خير، وليكفر عن يمينه))، وهذا يتناول أيمان جميع المسلمين لفظًا ومعنًى، ولم يخصَّه نصٌّ ولا إجماع ولا قياس؛ بل الأدلة الشرعية تُحَقق عمومه. وأما إثبات يمين منعقدة غيرِ مكَّفَرة، فهذا لا أصل له في الكتاب والسنَّة". اهـ، مختصرا.
وعليه، فإن كان الزوج يريد بتعليق الطلاق منع ابنه من دخول البيت، وهو يكره طلاق امرأته، فلا يقع الطلاق بفعل ما علق عليه، ولكن تلزمه كفارة يمين.
وإن قصد الطلاق بالدخول وقع الطلاق،، والله أعلم.