هل أنا متناقض!

خالد عبد المنعم الرفاعي

{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]

  • التصنيفات: تزكية النفس - الدعوة إلى الله -
السؤال:

عندما أرتكبمعصيه من ضعف نفسي أكلم الناس بعدها سريعا فى أمور الدين وكأن شيئا لم يحدث مع العلم بأن معظم الذنوب أتوب منها وقد ارجع لها ثانية هل أنا منافق بحديثى معهم فى الدين وأنا انسي نفسي هل أنا متناقض بهذا

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإن من أكبر المقت عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل، قال تعالى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] ، فلا يليق بالمؤمنين تلك الحالة الذميمة من قول الخير والحث عليه، والنهي عن الشر، وكان الواجب على الآمر بالخير  المبادرة إليه، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه، كما قال نبي الله شعيب عليه السلام لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] أي كبر ممقوتًا، أي كبر مقته مقتًا، والمقت البغض الشديد.  

هذا؛ ومن أعظم ما يعين على الإقلاع عن ذلك الذنب وغيره: 

استشْعِار مُراقبة الله تعالى في السِّرِّ والعلانية، وأنَّه يَرانا ولا يَخفى عليه شيءٌ مِمَّا نفعل؛ قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235]،وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، وهَذا هُو مقامُ الإحْسانِ المُشار إليه في حديثِ جِبريلَ - عليْهِ السَّلام -: ((أن تَعْبُدَ اللَّه كأنَّك تراهُ فإنْ لم تَكُنْ تراهُ فإنَّه يَراك))؛ متفق عليه.

فاستِحْضارُ قُرْبِه - سبحانه - كأنَّه يراكَ يُوجبُ الخَشيةَ والخوفَ والهَيْبَة والتَّعظيم؛ كما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرة مرفوعًا: ((أنْ تَخشَى اللَّهَ كأنَّكَ تَراهُ))، وقال أبو ذَرٍّ: "أوصانِي خليلي - صلَّى الله عليْهِ وسلَّم - أن أخْشَى اللَّه كأنِّي أراهُ"، وعَنْ أبِي أُمامةَ أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وصَّى رجُلاً فقال له: ((استَحْيِ منَ الله استحْياءَكَ من رَجُلَيْنِ من صالِحِي عشيرتِك لا يُفارِقانِكَ))، وعن مُعاذٍ أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْهِ وسلَّم – قال له: ((استَحْيِ منَ اللَّه كما تَسْتَحْيِي من رجُلٍ ذي هيبةٍ من أهْلِك)).

فمراقبة الله والتي هي علم العبد، وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، تحول بين العبد وبين المعاصي، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله. وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة، وكل نفس وكل طرفة عين. والغافل عن هذا معرض للذنب.

وأيضًا تذكَّر خطورةَ دعوة الناس ونسان النفس، وما يترتب عليه قسوة القلبَ، وحرمان الطَّاعة، والوَحْشَةِ وضيقِ الصَّدْرِ والهوانِ على الله تعالى وعلى النَّاس، ولا يُنْظَرُ إلى حَجْمِ المعصِية وإنَّما يُنظَرُ إلى عظمة مَن عَصَى.

ولا شك أن استحضار كل هذا يرسخ الإخلاص في القلب.

ولتحذر منِ استِكْثار الذُّنوب، فإن الله لا يتعاظمه ذنب أن يغفره؛ وكل مَن تابَ توبةً صحيحةً غَفَرَ اللهُ له ولَو كثُرَت ذنوبُه كثرةً تَملأُ ما بَيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ، بِحَيْثُ تبلُغ أقطارَها، وتَعُمُّ نواحيَها؛ قال الله تَعالى في الحديث القُدُسي: ((مَن جاءَ بِالحسنةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثالِها وأَزيد، ومَنْ جاءَ بالسَّيِّئة فجزاؤُه سيئةٌ مثلُها أو أغْفِر، ومَن تقرَّب منِّي شِبرًا تقرَّبْتُ منه ذِراعًا، ومَن تقرَّب منِّي ذراعًا تقرَّبْتُ منه باعًا، ومَن أتاني يَمشِي أتَيْتُه هرولةً، ومَن لقِيَني بقُراب الأرْضِ خطيئةً لا يُشْرِك بي شيئًا لقِيتُه بِمِثلِها مغفرةً))؛ رواهُ مسلمٌ.

وروى التِّرمذيُّ وحسَّنه عنْ أنسٍ قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يَقولُ اللَّهُ - عز وجل -: يا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غفَرْتُ لكَ على ما كان مِنْكَ ولا أُبالِي، يا ابْنَ آدَمَ، لوْ بَلَغتْ ذُنُوبُك عَنانَ السماءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ ولا أُبَالِي، يا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لوْ أتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطايا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بي شَيْئًا، لأَتَيْتُكَ بقُرابِها مَغْفِرَةً)) قال المُناوي في "فيض القدير": "((غفرتُ لك ولا أُبالي)): لأنَّ الاستِغْفارَ استِقالةٌ، والكريمُ مَحل إقالةِ العَثَرات، وهذا على إِطْلاقِه؛ لأنَّ الذَّنْبَ إمَّا شِرْكٌ يُغْفَرُ بِالاسْتِغفار أيِ التَّوبةِ منه وهو الإيمان، أو دونَه فبالنَّدَمِ والإقْلاعِ بِشَرْطِه المعروف؛ فإنَّ استِدعاءَ الاستِغفار لِلمَغفِرة يستوي فيه القليلُ والكثير، والجليل والحقير، ((لأتيتُك بقُرابِها مغفرةً)): ما دُمْتَ تائبًا عنْها مَستغفرًا منْها مستَقْبِلاً إيَّاها، وعبَّر به للمُشاكلَة، وإلا فمَغْفِرَتُه أبلَغُ وأوْسَعُ من ذلك، فهو بيانٌ لِكَثْرَةِ مغْفِرَته لئلاَّ يَيْأَسَ المُذْنِبون عنْها لِكثرة الخَطايا، ولا يَجوز الاغْتِرارُ بِهذا وإكثارُ المعاصي؛ لأنَّ لله عقوبةً شديدة" اهـ مُختصرًا.

هذا؛ والله أعلم.