الموت في بلاد الكفار
هل لو شخص مات في بلاد الكفار وهو مسلم وعاش لفترة طويلة جدا وهو قادر على الهجرة منها ولكن مات على الاسلام وكان يصلي ويصوم ويزكي مقابل كل الخير الأمانة هل يدخل النار(إِنَّ الَّذينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمي أَنفُسِهِم قالوا فيمَ كُنتُم يقولون كُنّا مُستَضعَفينَ فِي الأَرضِ يقولون أَلَم تَكُن أَرض اللَّهِ واسِعَجة) فَتُهاجِروا فيها فَأُولئِكَ مَأواهُم جَهنَّم وَساَت مَصيرًا)
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ
فإن الإقامة في بلاد الكفار مباحة إذا دعت لها الحاجة أو المصلحة، ولكن بشرط أن يأمن المسلم على دينة، ويكون عنده الإيمان والصبر ما يدفع به ىالفتنة عن نفسه، وأن يأمن على نفسِه من فتن الشبهات والشهواتومن الوُقوع في المُنْكَرات، كما اشترط أهل العلم أيضًا للإقامة في بلاد الكفار التمكن من إظهار دينه وأداء الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام والكف عن المحرمات، وغيرها.
أما وجوب الهجرة من بلاد الكفر فإنما تجب على من لم يستطع إقامة دينة كالشعائر التعبدية وغيرها.
وجاء في "المغني" (9/ 294) لابن قدامة: "فَالنَّاسُ فِي الْهِجْرَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ أَحَدُهَا، مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُ دِينِهِ، وَلَا تُمْكِنُهُ إقَامَةُ وَاجِبَاتِ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ بَيْنَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] . وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِوَاجِبِ دِينِهِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَالْهِجْرَةُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاجِبِ وَتَتِمَّتِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
الثَّانِي: مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، إمَّا لِمَرَضٍ، أَوْ إكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ، أَوْ ضَعْفٍ؛ مِنْ النِّسَاءِ، وَالْوِلْدَانِ، وَشِبْهِهِمْ، فَهَذَا لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] {فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 99]، وَلَا تُوصَفُ بِاسْتِحْبَابٍ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا.
وَالثَّالِثُ: مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، لَكِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ، وَإِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، فَتُسْتَحَبُّ لَهُ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ جِهَادِهِمْ، وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَعُونَتِهِمْ، وَيَتَخَلَّصَ مِنْ تَكْثِيرِ الْكُفَّارِ، وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ بَيْنَهُمْ.
وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِإِمْكَانِ إقَامَةِ وَاجِبِ دِينِهِ بِدُونِ الْهِجْرَةِ؛ وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقِيمًا ب اهـ.ِمَكَّةَ مَعَ إسْلَامِهِ".
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 39) عند شرح حديث: ((لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِن جِهَادٌ، وَنِيَّةٌ)): "وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْهِجْرَةَ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ الَّتِي كَانَتْ مَطْلُوبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ إِلَى الْمَدِينَةِ - انْقَطَعَتْ، إِلَّا أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ بَاقِيَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمُفَارَقَةُ بِسَبَبِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ؛ كَالْفِرَارِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، وَالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْفِرَارِ بِالدِّينِ مِنَ الْفِتَنِ".
أما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، فسبب نزلو الآية كما روى البخاري في صحيحه (6/ 48) عن ابن عباس: «أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين -على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم، فيقتله - أو يضرب فيقتل» - فأنزل الله:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}.
إذا تقرر هذا، فما دام الرجل المذكور كان مقيمًا للصلاة وغيرها من شعائر الدين، فلا يدخل في معنى الآية،، والله أعلم.
- المصدر: