سبيل النصر تتطلع أعناق المسلمين للنصر وتتوق نفوسهم إليه، لكن القليل من يبادر ويسعى جاهدا ليكون ...
سبيل النصر
تتطلع أعناق المسلمين للنصر وتتوق نفوسهم إليه، لكن القليل من يبادر ويسعى جاهدا ليكون سببا في تحقيقه، والكثيرون صاروا سببا في إعاقته وتأخيره، وأكثر منهم الذين يكتفون بالمشاهدة عن بعد ويتنقلون بين مقاعد المشجعين المصفقين أو مراصد المنتقدين المنتقصين هوى وعبثية، كأن الساحة لا تعنيهم والتكاليف لا تشملهم، من هنا تأخر النصر وحلت بالمسلمين الهزائم.
فتذكيرا لمن نسي، وتعليما لمن جهل، وإيقاظا لمن غفل، نسوق بعض عوامل النصر في ضوء الكتاب والسنة بفهم القرون المفضلة، توجيها للعامة ووصية للخاصة، إبراء للذمة ونصحا للأمة، واستنهاضا للهمم العاثرة والعزائم الخائرة التي ضلّت طريق النصر وطلبته في غير مظانه فلم تظفر بغير الهزيمة المضاعفة.
إن الله تعالى سطّر في كتابه وعدا لعباده لا يُخلفه سبحانه، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ... يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، وأكّد ذلك الوعد للباذلين أسبابه، وحسمه وبيّنه بقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}، قال إمام المفسرين: "يقولُ تعالى ذكرُه: وليُعِينَنَّ اللَّهُ مَن يُقاتِلُ في سبيله لتكونَ كلمتُه العُلْيَا على عدوِّه، فنَصْرُ اللَّهِ عبدَه؛ مَعونتُه إياه، ونَصْرُ العبدِ ربَّه؛ جهادُه في سبيله، لتكون كلمتُه العُلْيا". أهـ.
وعليه فلا نصر للأمة حتى تنصر ربّها سبحانه وتعلي كلمته على الوجه الذي ارتضاه سبحانه وشرَعه، لا على الوجوه المبتدعة التي أغرقت الأمة اليوم.
واعلموا أن كلمته -سبحانه- لا تكون هي العليا إلا بعلو شريعته على ما سواها من الشرائع الوضعية، وتحكيمها والرجوع إليها دون غيرها في سائر الأمور الدينية والدنيوية، ولا تكون كلمته هي العليا إلا بمحبته -تعالى- وتقديمها على سائر المحابّ، ومحبة أوليائه ونصرتهم وبغض أعدائه ومحاربتهم، وتكون كلمة الله هي العليا بتعظيم دينه وشعائره والقيام بها على أكمل الوجوه وأحسنها، كل هذه المعاني تنسلّ من مفهوم "نصرة العبد مولاه" بالجهاد في سبيله، إعلاءً لكلمته.
فهذا العامل الأول وهو القتال في سبيل الله صونا للتوحيد ومحقا للشرك، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، قال البغوي: "أَيْ: شِرْكٌ، قَالَ الرَّبِيعُ: حَتَّى لَا يُفْتَنَ مُؤْمِنٌ عَنْ دِينِهِ، وَيَكُونَ الدِّينُ خَالِصًا لِلَّهِ لَا شِرْكَ فِيهِ". أهـ.
فالسبيل حتى يكون الدين كله لله، وحتى ينتهي الكافرون عن الكفر، هو الجهاد والقتال في سبيل الله تعالى، ولا سبيل غيره يحقق هذه الغاية مهما سلك الناس سبلا أخرى، بل إن من أخص صفات الطائفة المنصورة؛ القتال على الحق حتى يأتيهم أمر الله تعالى.
ويرتبط هذا العامل ارتباطا وثيقا بأمرين لا ينفكان؛ أحدهما: الجهاد بالمال في سبيل الله، ولئن عجز الكثيرون عن الجهاد بالنفس أو أحصروا عن الهجرة، فدونهم الجهاد بالمال فهو اليوم من أوسع أبواب الجهاد، والأمر الثاني هو الإعداد وهو متعلق بالأول، ولنا عبرة بصنيع عثمان رضي الله عنه، عندما جهّز جيش العسرة بألف دينار، وصبّها في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل يقلّبها بيده، ويقول: (ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم) يرددها مرارا. [أحمد والترمذي]
ومن عوامل النصر الهجرة في سبيل الله، وهي باقية ما قوتل الكفار، وما لم تطلع الشمس من مغربها، كما روى أبو داود عن عبد الله بن وقدان قال: وفدت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، إني تركت مَن خلفي وهم يزعمون أن الهجرة قد انقطعت، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار)، ومعلوم أن الإسلام ما قام وعزّ إلا بعد الهجرة وانطلاق قوافل المهاجرين، في طليعتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وخيرة أصحابه من حوله.
ومن عوامل النصر الثبات على الدين والاستقامة عليه علما وعملا ولو تخلّف عنه الأكثرون واستثقلوه، أو تنكروا له، بل ولو حاربوه، وقد صحّ عن ابن مسعود موقوفا: "لا يكن أحدكم إمّعة، يقول: أنا مع الناس.. ألا ليوطن أحدكم نفسه على إنْ كفر الناس، ألا يكفر"، ورُوي قريبا من ذلك عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف، وقد ذم سبحانه الأكثرية في غير موضع من كتابه كقوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، فعُلم بذلك أن الثبات على الدين يخالف هوى الأكثرية خصوصا في زماننا هذا، وبمثل هذا الثبات ولزوم الجادة، يتحقق النصر ويتنزل.
ومن عوامل النصر اجتماع المسلمين والتفافهم حول إمام واحد وخلف راية واحدة ومنهاج واحد، ونبذ كل أسباب الفرقة والاختلاف من الحدود الوهمية والنعرات والعصبيات القومية والوطنية والحزبية، وإبدالها بالولاء والبراء وجعله حكما وقائدا.
وأما التوكل على الله فهو باب النصر ومفتاحه، فإذا اقترن بالصبر والتقوى وبذل الأسباب ومراعاة السنن؛ فحري أن يُمكّن صاحبه ويورثه -تعالى- أرضه يعمرها بالإسلام والتقوى، لقوله تعالى: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
وأخيرا؛ فليكن في الحسبان أن مقومات النصر كُلها مرتكزة على التضحية والبذل والصبر والمصابرة، ومن أراد نصرا بلا تضحية فهو مخذول يتمنى على الله الأماني ويخالف منطوق كتابه: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ}، وقال: {ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ}، ولنا في النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم أسوة حسنة، فقد ضحوا بالنفس والنفيس، وبذلوا الغالي والرخيص، ولم يترخَّصوا أو يستقيلوا يوما، حتى فتح الله على أيديهم البلاد وقلوب العباد ونصرهم نصرا مؤزرا، فهذا سبيل النصر في الأولين وهو ذاته في الآخرين، ولينصرن الله من ينصره.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 509
السنة السابعة عشرة - الخميس 27 صفر 1447 هـ
المقال الافتتاحي:
سبيل النصر
تتطلع أعناق المسلمين للنصر وتتوق نفوسهم إليه، لكن القليل من يبادر ويسعى جاهدا ليكون سببا في تحقيقه، والكثيرون صاروا سببا في إعاقته وتأخيره، وأكثر منهم الذين يكتفون بالمشاهدة عن بعد ويتنقلون بين مقاعد المشجعين المصفقين أو مراصد المنتقدين المنتقصين هوى وعبثية، كأن الساحة لا تعنيهم والتكاليف لا تشملهم، من هنا تأخر النصر وحلت بالمسلمين الهزائم.
فتذكيرا لمن نسي، وتعليما لمن جهل، وإيقاظا لمن غفل، نسوق بعض عوامل النصر في ضوء الكتاب والسنة بفهم القرون المفضلة، توجيها للعامة ووصية للخاصة، إبراء للذمة ونصحا للأمة، واستنهاضا للهمم العاثرة والعزائم الخائرة التي ضلّت طريق النصر وطلبته في غير مظانه فلم تظفر بغير الهزيمة المضاعفة.
إن الله تعالى سطّر في كتابه وعدا لعباده لا يُخلفه سبحانه، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ... يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}، وأكّد ذلك الوعد للباذلين أسبابه، وحسمه وبيّنه بقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}، قال إمام المفسرين: "يقولُ تعالى ذكرُه: وليُعِينَنَّ اللَّهُ مَن يُقاتِلُ في سبيله لتكونَ كلمتُه العُلْيَا على عدوِّه، فنَصْرُ اللَّهِ عبدَه؛ مَعونتُه إياه، ونَصْرُ العبدِ ربَّه؛ جهادُه في سبيله، لتكون كلمتُه العُلْيا". أهـ.
وعليه فلا نصر للأمة حتى تنصر ربّها سبحانه وتعلي كلمته على الوجه الذي ارتضاه سبحانه وشرَعه، لا على الوجوه المبتدعة التي أغرقت الأمة اليوم.
واعلموا أن كلمته -سبحانه- لا تكون هي العليا إلا بعلو شريعته على ما سواها من الشرائع الوضعية، وتحكيمها والرجوع إليها دون غيرها في سائر الأمور الدينية والدنيوية، ولا تكون كلمته هي العليا إلا بمحبته -تعالى- وتقديمها على سائر المحابّ، ومحبة أوليائه ونصرتهم وبغض أعدائه ومحاربتهم، وتكون كلمة الله هي العليا بتعظيم دينه وشعائره والقيام بها على أكمل الوجوه وأحسنها، كل هذه المعاني تنسلّ من مفهوم "نصرة العبد مولاه" بالجهاد في سبيله، إعلاءً لكلمته.
فهذا العامل الأول وهو القتال في سبيل الله صونا للتوحيد ومحقا للشرك، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، قال البغوي: "أَيْ: شِرْكٌ، قَالَ الرَّبِيعُ: حَتَّى لَا يُفْتَنَ مُؤْمِنٌ عَنْ دِينِهِ، وَيَكُونَ الدِّينُ خَالِصًا لِلَّهِ لَا شِرْكَ فِيهِ". أهـ.
فالسبيل حتى يكون الدين كله لله، وحتى ينتهي الكافرون عن الكفر، هو الجهاد والقتال في سبيل الله تعالى، ولا سبيل غيره يحقق هذه الغاية مهما سلك الناس سبلا أخرى، بل إن من أخص صفات الطائفة المنصورة؛ القتال على الحق حتى يأتيهم أمر الله تعالى.
ويرتبط هذا العامل ارتباطا وثيقا بأمرين لا ينفكان؛ أحدهما: الجهاد بالمال في سبيل الله، ولئن عجز الكثيرون عن الجهاد بالنفس أو أحصروا عن الهجرة، فدونهم الجهاد بالمال فهو اليوم من أوسع أبواب الجهاد، والأمر الثاني هو الإعداد وهو متعلق بالأول، ولنا عبرة بصنيع عثمان رضي الله عنه، عندما جهّز جيش العسرة بألف دينار، وصبّها في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل يقلّبها بيده، ويقول: (ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم) يرددها مرارا. [أحمد والترمذي]
ومن عوامل النصر الهجرة في سبيل الله، وهي باقية ما قوتل الكفار، وما لم تطلع الشمس من مغربها، كما روى أبو داود عن عبد الله بن وقدان قال: وفدت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، إني تركت مَن خلفي وهم يزعمون أن الهجرة قد انقطعت، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار)، ومعلوم أن الإسلام ما قام وعزّ إلا بعد الهجرة وانطلاق قوافل المهاجرين، في طليعتهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وخيرة أصحابه من حوله.
ومن عوامل النصر الثبات على الدين والاستقامة عليه علما وعملا ولو تخلّف عنه الأكثرون واستثقلوه، أو تنكروا له، بل ولو حاربوه، وقد صحّ عن ابن مسعود موقوفا: "لا يكن أحدكم إمّعة، يقول: أنا مع الناس.. ألا ليوطن أحدكم نفسه على إنْ كفر الناس، ألا يكفر"، ورُوي قريبا من ذلك عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف، وقد ذم سبحانه الأكثرية في غير موضع من كتابه كقوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، فعُلم بذلك أن الثبات على الدين يخالف هوى الأكثرية خصوصا في زماننا هذا، وبمثل هذا الثبات ولزوم الجادة، يتحقق النصر ويتنزل.
ومن عوامل النصر اجتماع المسلمين والتفافهم حول إمام واحد وخلف راية واحدة ومنهاج واحد، ونبذ كل أسباب الفرقة والاختلاف من الحدود الوهمية والنعرات والعصبيات القومية والوطنية والحزبية، وإبدالها بالولاء والبراء وجعله حكما وقائدا.
وأما التوكل على الله فهو باب النصر ومفتاحه، فإذا اقترن بالصبر والتقوى وبذل الأسباب ومراعاة السنن؛ فحري أن يُمكّن صاحبه ويورثه -تعالى- أرضه يعمرها بالإسلام والتقوى، لقوله تعالى: {قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
وأخيرا؛ فليكن في الحسبان أن مقومات النصر كُلها مرتكزة على التضحية والبذل والصبر والمصابرة، ومن أراد نصرا بلا تضحية فهو مخذول يتمنى على الله الأماني ويخالف منطوق كتابه: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ}، وقال: {ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ}، ولنا في النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم أسوة حسنة، فقد ضحوا بالنفس والنفيس، وبذلوا الغالي والرخيص، ولم يترخَّصوا أو يستقيلوا يوما، حتى فتح الله على أيديهم البلاد وقلوب العباد ونصرهم نصرا مؤزرا، فهذا سبيل النصر في الأولين وهو ذاته في الآخرين، ولينصرن الله من ينصره.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 509
السنة السابعة عشرة - الخميس 27 صفر 1447 هـ
المقال الافتتاحي:
سبيل النصر