سورة الطور - تفسير السعدي



" والطور "

أقسم الله بالطور, وهو الجبل الذي كلم الله سبحانه وتعالى موسى عليه,

" وكتاب مسطور "

وبكتاب مكتوب, وهو القرآن

" في رق منشور "

في صحف منشورة ,

" والبيت المعمور "

وبالبيت المعمور في السماء بالملائكة الكرام الذين يطوفن به دائما,

" والسقف المرفوع "

وبالسقف المرفوع وهو السماء الدنيا,

" والبحر المسجور "

وبالبحر المسجور المملوء

" إن عذاب ربك لواقع "

إن عذاب ربك - يا محمد- بالكفار لواقع ,

" ما له من دافع "

ليس له من مانع يمنعه حين وقوعه,

" يوم تمور السماء مورا "

يوم تتحرك السماء فيختل نظامها وتضطرب أجزاؤها, وذلك عند نهاية الحياة الدنيا

" وتسير الجبال سيرا "

وتزول الجبال عن أماكنها, وتسير كسير السحاب.

" فويل يومئذ للمكذبين "

فالهلاك في هذا اليوم واقع بالمكذبين

" الذين هم في خوض يلعبون "

الذين هم في خوض بالباطل يلعبون به, ويتخذون دينهم هزوا ولعبا.

" يوم يدعون إلى نار جهنم دعا "

يوم تدفع هؤلاء المكذبون دفعا بعنف ومهانة إلى نار جهنم ,

" هذه النار التي كنتم بها تكذبون "

ويقال توبيخا لهم: هذه هي النار التي كنتم بها تكذبون.
" أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ "
أفسحر ما تشاهدونه من العذاب أم أنتم لا تنظرون؟

" اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون "

ذوقوا حر هذه النار, فاصبروا على ألمها وشدتها, أولا تصبروا على ذلك , فلن يخفف عنكم العذاب , ولن تخرجوا منها, سواء عليكم صبرتم أم لم تصبروا, إنما تجزون ما كنتم تعملون في الدنيا.

" إن المتقين في جنات ونعيم "

إن المتقين في جنات ونعيم عظيم,

" فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم "

يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذ المختلفة, ونحاهم الله من عذاب النار.

" كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون "

كلوا طعاما هنيئا, واشربوا شرابا سائغا, جزاء بما عملتم من أعمال صالحة في الدنيا

" متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين "

وهم متكئون على سرر متقابلة, وزوجناهم بنساء بيض واسعات العيون حسانهن.

" والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين "

والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم في الإيمان, وألحقنا بهم ذريتهم في منزلتهم في الجنة, وإن لم يبلغوا عمل آبائهم; لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم , فيجمع بينهم على أحسن الوجوه, وما نقصناهم شيئا من ثواب أعمالهم.
كل إنسان مرهون بعمله, لا يحمل ذنب غيره من الناس.

" وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون "

وزدناهم على ما ذكر من النعيم فواكه ولحوما مما يستطاب ويشتهى ,

" يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم "

ومن هذا النعيم أنهم يتعاطون في الجنة كأسا من الخمر, يناول أحدهم صاحبه, ليتم بذلك سرورهم , وهذا الشراب مخالف لخمر الدنيا , فلا يزول به عقل صاحبه, ولا يحصل بسببه لغو , ولا كلام فيه إثم أو معصية.

" ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون "

ويطوف عليهم غلمان معدون لخدمتهم, كأنهم في الصفاء والبياض والتناسق لؤلؤ مصون في أصدافه.

" وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون "

وأقبل أهل الجنة, يسأل بعضهم بعضا عن عظيم ما هم فيه وسببه,

" قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين "

قالوا: إنا كنا قبل في الدنيا- ونحن بين أهلينا- خائفين ربنا , مشفقين من عذابه وعقابه يوم القيامة.

" فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم "

فمن الله علينا بالهداية والتوفيق؟ ووقانا عذاب سموم جهنم, وهو نارها وحرارتها.

" إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم "

إنا كنا من قبل نضرع إليه وحده لا نشرك معه غيره أن يقينا عذاب السموم ويوصلنا إلى النعيم , فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا, إنه هو البر الرحيم.
فمن بره ورحمته إيانا أنالنا رضاه والجنة, ووقانا من سخطه والنار.

" فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون "

فذكر- يا محمد- من أرسلت إليهم بالقرآن , فما أنت بنعم الله عليك بالنبوة ورجاحة العقل بكاهن يخبر بالغيب دون علم , ولا مجنون لا يعقل ما يقول كما يدعون.

" أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون "

أم يقول المشركين لك- يا محمد-: هو شاعر ننتظر به نزول الموت؟

" قل تربصوا فإني معكم من المتربصين "

قل لهم: انتظروا موتي فإني معكم من المنتظرين بكم العذاب , وسترون لمن تكون العاقبة.

" أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون "

بل تأمر هؤلاء المكذبين عقولهم بهذا القول المتناقض (فلك أن صفات الكهانة والشعر والجنون لا يمكن اجتماعها في آن واحد) , بل هم قوم متجاوزون الحد في الطغيان.

" أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون "

بل أيقول هؤلاء المشركون, اختلق محمد القرآن من تلقاء نفسه؟ بل هم لا يؤمنون, فلو آمنوا لم يقولوا ما قالوه.

" فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين "

فليأتوا بكلام مثل القرآن , إن كانوا صادقين- في زعمهم- أن محمدا اختلقه.

" أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون "

أخلق هؤلاه المشركون من غير خالق لهم وموجد, أم هم الخالقون لأنفسهم؟ وكلا الأمرين باطل ومستحيل وبهذا يتعين أن الله سبحانه هو الذي خلقهم , وهو وحده الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له.

" أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون "

أم خلقوا السموات والأرض على هذا الصنع البديع؟ بل هم لا يوقنون بعذاب الله, فهم مشركون.

" أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون "

أم عندهم خزائن ربك يتصرفون فيها, أم هم الجبارون المتسلطون على خلق الله بالقهر والغلبة؟ ليس الأمر كذلك , بل هم العاجزون الضعفاء.

" أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين "

أم لهم مصعد إلى السماء يستمعون فيه الوحي بأن الذي هم عليه حق؟ فليأت من يزعم أنه استمع ذلك بحجة بينة تصدق دعواه.

" أم له البنات ولكم البنون "

ألله سبحانه البنات ولكم البنون كما تزعمون افتراء وكذبا؟

" أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون "

بل أتسأل- يا محمد- هؤلاء المشركين أجرا على تبليغ الرسالة, فهم في جهد ومشقة من التزام غرامة تطلبها منهم؟

" أم عندهم الغيب فهم يكتبون "

أم عندهم علم الغيب فهم يكتبونه للناس ويخبرونهم به؟ ليس الأمر كذلك; فإنه لا يعلم الغيب في السموات والأرض إلا الله.

" أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون "

بل يريدون برسول الله وبالمؤمنين مكرا , فالذين كفروا يرجع كيدهم ومكرهم على أنفسهم.

" أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون "

أم لهم معبود يستحق العبادة غير الله؟ تنزه وتعالى عما يشركون , فليس له شريك فى الملك , ولا شريك في الوحدانية والعبادة.

" وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم "

وإن ير هؤلاء المشركين قطعا من السماء ساقطا عليهم عذابا لهم لم ينتقلوا عما هم عليه من التكذيب, ولقالوا: هذا سحاب متراكم بعضه فوق بعض.

" فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون "

فدع- يا محمد- هؤلاء المشركين حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يهلكون , وهو يوم القيامة.

" يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون "

وفي ذلك اليوم لا يدفع عنهم كيدهم من عذاب الله شيئا , ولا ينصرهم ناصر من عذاب الله.

" وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون "

وإن لهؤلاء الظلمة عذابا يلقونه في الدنيا قبل عذاب يوم القيامة من القتل والسبي وعذاب البرزخ وغير ذلك , ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.

" واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم "

واصبر- يا محمد- لحكم ربك وأمره فيما حملك من الرسالة , وعلى ما يلحقك من أذى قومك , فإنك بمرأى منا وحفظ واعتناء , وسبح بحمد ربك حين تقوم إلى الصلاة , وحين تقوم من نومك ,

" ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم "

ومن الليل فسبح بحمد ربك وعظمه, وصل له , وافعل ذلك عند صلاة الصبح وقت إدبار النجوم.
وفي هذه إلآية إثبات لصفة العينين لله تعالى بما يليق به , دون تشبيه بخلقه أو تكييف لذاته, سبحانه وبحمده, كما ثبت ذلك بالسنة, وأجمع عليه سلف الأمة , واللفظ ورد هنا بصيغة الجمع لتعظيم.

 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً