سورة الواقعة - تفسير السعدي



" إذا وقعت الواقعة "

إذا قامت القيامة,

" ليس لوقعتها كاذبة "

ليس لقيامها أحد يكذب به,

" خافضة رافعة "

هي خافضة لأعداء الله في النار, رافعة لأوليائه في الجنة.

" إذا رجت الأرض رجا "

إذا حركت الأرض تحريكا شديدا,

" وبست الجبال بسا "

وفتتت الجبال تفتيتا دقيقا,

" فكانت هباء منبثا "

فصارت غبارا متطايرا في الجو قد ذرته الريح.

" وكنتم أزواجا ثلاثة "

وكنتم- أيها الخلق- أصنافا ثلاثة:

" فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة "

فأصحاب اليمين, أهل المنزلة العالية, ما أعظم مكانتهم !!

" وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة "

وأصحاب الشمال, أهل المنزلة الدنيئة, ما أسوأ حالهم !!

" والسابقون السابقون "

والسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الدرجات في الآخرة

" أولئك المقربون "

أولئك هم المقربون عند الله,

" في جنات النعيم "

يدخلهم ربهم في جنات النعيم.

" ثلة من الأولين "

يدخلها جماعة كثيرة من صدر هذه الأمة, وغيرهم من الأمم الأخرى,

" وقليل من الآخرين "

وقليل من أخر هذه الأمة

" على سرر موضونة "

على سرر منسوجة بالذهب,

" متكئين عليها متقابلين "

متكئين عليها يقابل بعضهم بعضا.

" يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ "


يطوف عليهم لخدمتهم غلمان لا يهرمون ولا يموتون,

" بأكواب وأباريق وكأس من معين "

بأقدار وأباريق وكأس من عين خمر جارية في الجنة,

" لا يصدعون عنها ولا ينزفون "

لا تصدع منها رؤسهم, ولا تذهب بعقولهم.

" وفاكهة مما يتخيرون "

ويطوف عليهم الغلمان بما يتخيرون من الفواكه,

" ولحم طير مما يشتهون "

وبلحم طير مما ترغب فيه نفوسهم.

" وحور عين "

ولهم نساء ذوات عيون واسعة,

" كأمثال اللؤلؤ المكنون "

كأمثال اللؤلؤ المصون في أصدافه صفاء وجمالا.

" جزاء بما كانوا يعملون "

جزاء لهم بما كانوا يعملون من الصالحات في الدنيا.

" لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما "

لا يسمعون في الجنة باطلا ولا ما يتأثمون بسماعه,

" إلا قيلا سلاما سلاما "

إلا قولا سالما من هذه العيوب, وتسليم بعضهم على بعض.

" وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين "

وأصحاب اليمين, ما أعظم مكانتهم

" في سدر مخضود "

وجزاءهم هم في سدر لا شوك فيه,

" وطلح منضود "

وموز متراكب بعضه على بعض,

" وظل ممدود "

وظل دائم لا يزول,

" وماء مسكوب "

وماء جار لا ينقطع,

" وفاكهة كثيرة "

وفاكهة كثيرة لا تنفد

" لا مقطوعة ولا ممنوعة "

ولا تنقطع عنهم, ولا يمنعهم منها مانع,

" وفرش مرفوعة "

وفرش مرفوعة على السرر.

" إنا أنشأناهن إنشاء "

إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا, نشأة كاملة لا تقبل الفناء,

" فجعلناهن أبكارا "

فجعلناهن أبكارا, صغارهن وكبارهن,

" عربا أترابا "

متحببات إلى أزواجهن, في سن واحدة,

" لأصحاب اليمين "

خلقناهن لأصحاب اليمين.

" ثلة من الأولين "

وهم جماعة كثيرة من الأولين,

" وثلة من الآخرين "

وجماعة كثيرة من الآخرين.

" وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال "

وأصحاب الشمال ما أسوأ حالهم جزاءهم !!

" في سموم وحميم "

في ريح حارة من حر نار جهنم تأخذ بأنفاسهم, وماء حار يغلي,

" وظل من يحموم "

وظل من دخان شديد السواد,

" لا بارد ولا كريم "

لا بارد المنزل, ولا كريم المنظر.

" إنهم كانوا قبل ذلك مترفين "

إنهم كانوا في الدنيا متنعمين بالحرام, معرضين عما جاءهم به الرسل.

" وكانوا يصرون على الحنث العظيم "

وكانوا يقيمون على الكفر بالله والإشراك به ومعصية, ولا ينوون التوبة من ذلك.

" وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون "

وكأنما يقولون إنكارا للبعث: أنبعث إذا متنا وصرنا ترابا عظاما بالية؟ وهذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له.

" أوآباؤنا الأولون "

أنبعث نحن وآبناؤنا الأقدمون الذين صاروا ترابا, قد تفرق في الأرض؟

" قل إن الأولين والآخرين "

قل لهم- يا محمد-: إن الأولين والآخرين من بني آدم

" لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم "

سيجمعون في يوم مؤقت بوقت محدد, هو يوم القيامة-

" ثم إنكم أيها الضالون المكذبون "

ثم إنكم أيها الضالون عن طريق الهدى المكذبون بوعيد الله ووعده,

" لآكلون من شجر من زقوم "

لآكلون من شجر من زقوم, وهو من أقبح الشجر,

" فمالئون منها البطون "

فمالئون منها بطونكم ; لشدة الجوع,

" فشاربون عليه من الحميم "

فشاربون عليه ماء متناهيا في الحرارة لا يروي ظمأ,

" فشاربون شرب الهيم "

فشاربون منه بكثرة, كشرب الإبل العطاشى التي لا تروى لداء يصيبها.

" هذا نزلهم يوم الدين "

هذا الذي يلقونه من العذاب هو ما أعد لهم من الزاد يوم القيامة. وفي هذا توبيخ لهم وتهكم بهم.

" نحن خلقناكم فلولا تصدقون "

نحن خلقناكم- أيها الناس- ولم تكونوا شيئا, فهلا تصدقون بالبعث.

" أفرأيتم ما تمنون "

أفرأيتم النطف التي تقذفونها في أرحام نسائكم,

" أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون "

هل أنتم تخلقون ذلك بشرا أم نحن الخالقون؟

" نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين "

نحن قدرنا بينكم الموت, وما نحن بمعجزين

" على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون "

عن أن نغير خلقكم يوم القيامة, وننشئكم فيما لا تعلمونه من الصفات والأحوال.

" ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون "

ولقد علمتم أن الله أنشأكم النشأة الأولى ولم تكونوا شيئا, فهلا تذكرون قدرة الله على إنشائكم مرة أخرى

" أفرأيتم ما تحرثون "

أفرأيتم الحرث الذي تحرثونه

" أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون "

هل أنتم تنبتونه في الأرض؟ بل نحن نقر قراره وننبته في الأرض.

" لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون "

لو نشاء لجعلنا ذلك الزرع هشيما, لا ينتفع به في مطعم, فأصبحتم تحجبون مما نزل بزرعكم,

" إنا لمغرمون "

وتقولون, إنا لخاسرون معذبون,

" بل نحن محرومون "

بل نحن محرومون من الرزق.

" أفرأيتم الماء الذي تشربون "

أفرأيتم الماء الذي تشربونه لتحيوا به,

" أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون "

أأنتم أنزلتموه من السحاب إلى قرار الأرض, أم نحن الذين أنزلناه رحمة بكم؟

" لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون "

لو نشاء جعلنا هذا الماء شديد الملوحة, لا ينتفع به في شرب ولا زرع, فهلا تشكرون كلكم على إنزال الماء العذب لنفعكم.

" أفرأيتم النار التي تورون "

أفرايتم النار التي توقدون,

" أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون "

أأنتم أوجدتم شجرتها التي تقدح منها النار, أم نحن الموجدون لها؟

" نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين "

نحن جعلنا ناركم التي توقدون تذكيرا لكم بنار جهنم ومنفعة للمسافرين.

" فسبح باسم ربك العظيم "

فنزه- يا محمد- ربك العظيم كامل الأسماء والصفات, كثير الإحسان والخيرات.

" فلا أقسم بمواقع النجوم "

أقسم الله تعالى بمساقط النجوم في مغاربها في السماء,

" وإنه لقسم لو تعلمون عظيم "

إنه لقسم لو تعلمون قدره عظيم.

" إنه لقرآن كريم "

إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لقرآن عظيم المنافع, كثير الخير, غزير العلم,

" في كتاب مكنون "

في كتاب مستير عن أعين الخلق, وهو اللوح المحفوظ.

" لا يمسه إلا المطهرون "

لا يمس القرآن إلا الملائكة الكرام الذين طهرهم الله من الآفات والذنوب, ولا يمسه أيضا إلا المتطهرون من الشرك والجنابة والحدث.

" تنزيل من رب العالمين "

وهذا القرآن الكريم منزل من رب العالمين, فهو الحق الذي لا مرية فيه.

" أفبهذا الحديث أنتم مدهنون "

أفبهذا القرآن أنتم -أيها المشركون- مكذبون؟

" وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون "

وتجعلون شكركم لنعم الله عليكم أنكم تكذبون بها وتكفرون؟ وفي هذا إنكار على من يتهاون بأمر القرآن ولا يبالي بدعوته.

" فلولا إذا بلغت الحلقوم "

فهل تستطيعون إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع,

" وأنتم حينئذ تنظرون "

وأنتم حضور تنظرون إليه, أن تمسكوا روحه في جسده؟ لن تستطيعوا ذلك,

" ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون "

ونحن أقرب إليه منكم بملائكتنا, ولكنكم لا ترونهم.

" فلولا إن كنتم غير مدينين "

وهل تستطيعون إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم

" ترجعونها إن كنتم صادقين "

أن تعيدوا الروح إلى الجسد, إن كنتم صادقين؟ لن ترجعوها

" فأما إن كان من المقربين "

فأما إن كان الميت من السابقين المقربين,

" فروح وريحان وجنة نعيم "

فله عند موته الرحمة الواسعة والفرح وما تطيب به نفسه, وله جنه النعيم في الآخرة.

" وأما إن كان من أصحاب اليمين "

وأما إن كان الميت من أصحاب اليمين,

" فسلام لك من أصحاب اليمين "

فيقال له: سلامة لك وأمن; لكونك من أصحاب اليمين.

" وأما إن كان من المكذبين الضالين "

وأما إن كان الميت من المكذبين بالبعث, الضالين عن الهدى,

" فنزل من حميم "

فله ضيافة من شراب جهنم المغلي المتناهي الحرارة,

" وتصلية جحيم "

والنار يحرق بها, ويقاسي عذابها الشديد.

" إن هذا لهو حق اليقين "

إن هذا الذي قصصناه عليك- يا محمد- لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه,

" فسبح باسم ربك العظيم "

فسبح باسم ربك العظيم, ونزهه عما يقول الظالمون والجاحدون, تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً