سورة الجن - تفسير السعدي



" قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا "

قل- يا محمد-: أوحى الله إلي أن جماعة من الجن قد استمعوا لتلاوتي للقرآن , فلما سمعوه قالوا لقومهم: إنا سمعنا قرآنا بديعا في بلاغته وفصاحته ,

" يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا "

يدعو إلى الحق والهدى , فصدقنا بهذا القرآن , ولن يشرك بربنا الذي خلقنا أحدا في عبادته.

" وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا "

وأنه تعالت عظمة ربنا وجلاله, ما اتخذ زوجة ولا ولدا.

" وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا "

وأن سفيهنا- وهو إبليس- كان يقول على الله تعالى قولا بعيدا عن الحق والصواب , من دعوى الصاحب والولد.

" وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا "

وأنا حسبنا أن أحدا لن يكذب على الله تعالى , لا من الإنس ولا من الجن في نسبة الصاحبة والولد إليه.

" وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا "

وأنه كان رجال من الإنس يستجيرون برجال من الجن, فزاد رجال الإنس الجن باستعاذتهم بهم طغيانا وسفها.
وهذه الاسعتاذة بغير الله, التي نعاها الله على أهل الجاهلية, من الشرك الأكبر , الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة النصوح منه.
وفي الآية تحذير شديد من اللجوء إلى السحرة والمشعوذين وأشباههم.

" وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا "

وأن كفار الإنس حسبوا كما حسبتم- يا معشر الجن- أن الله تعالى لن يبعث أحدا بعد الموت

" وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا "

وأنا- معشر الجن- طلبنا بلوغ السماء, لاستماع كلام أهلها, فوجدناها ملئت بالملائكة الكثيرين الذين يحرسونها, وبالشهب المحرقة التي يرمى بها من يقترب منها.

" وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا "

وأنا كنا قبل ذلك نتخذ من السماء مواضع; لنستمع إلى أخبارها, فمن يحاول الآن استراق السمع يجد له شهابا بالمرصاد, يحرقه ويهلكه.
وفي هاتين الآيتين إبطال مزاعم السحرة بالمشعوذين, الذين يدعون علم الغيب , ويغرورن بضعفة العقول بكذبهم وافترائهم.

" وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا "

واننا معشر الجن- لا نعلم: أشر أراد الله أن ينزله بأهل الأرض؟ أم أراد بهم خيرا وهدى؟

" وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا "

وأنا منا الأبرار المتقون , ومنا دون ذلك كفر وفساق, كنا فرقا ومذاهب مختلفة.

" وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا "

وأنا أيقنا أن الله قادر علينا , وأننا في قبضته وسلطانه, فلن نفوته إذا أراد بنا أمرا أينما كنا, ولن نستطيع أن نفلت من عقابه هربا إلى السماء. , إن أراد بنا سوءا.

" وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا "

وإنا لما سمعنا القرآن آمنا به, وأقررنا أنه حق من عند الله , فمن يؤمن بربه , فإنه لا يخشى نقصانا من حسناته , ولا ظلما يلحقه بزيادة في سيئاته.

" وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا "

وأنا منا الخاضعون لله بالطاعة, ومنا الجائرون الظالمون الذين حادوا عن طريق الحق , فمن أسلم وخضع لله بالطاعة, فأؤلئك الذين قصدوا طريق الحق والصواب, واجتهدوا في اختياره فهداهم الله إليه,

" وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا "

وأما الجائرون عن طريق الإسلام فكانوا وقودا لجهنم.

" وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا "

وأنه لو سار الكفار من الإنس والجن على طريقة الإسلام , ولم يحيدوا عنها لأنزلنا عليهم ماء كثيرا , ولوسعنا عليهم الرزق في الدنيا.

" لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا "

لنختبرهم: كيف يشكرون نعم الله عليهم؟ ومن يعرض عن طاعة ربه واستماع القرآن وتدبره, والعمل به يدخله عذابا شديدا شاقا.

" وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا "

وأن المساجد لعبادة الله وحده, فلا تعبدوا فيها غيره , وأخلصوا له الدعاء والعبادة فيها.
فإن المساجد لم تبن إلا ليعبد الله وحده فيها, دون من سواه , وفي هذا وجوب تنزيه المساجد من كل ما يشوب الإخلاص لله, ومتابعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

" وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا "

وأنه لما قام محمد صلى الله عليه وسلم , يعبد ربه , كاد الجن يكونون عليه جماعات متراكمة, بعضها فوق بعض ; من شدة ازدحامهم لسماع القرآن منه.

" قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا "

قل -يا محمد- لهؤلاء الكفار إنما أعبد ربي وحده , ولا أشرك معه في العبادة أحدا.

" قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا "

قل- يا محمد لهم: إني لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا , ولا أجلب لكم نفعا ,

" قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا "

قل: إني لن ينقذني من عذاب الله أحد إن عصيته, ولن أجد من دونه ملجأ أفر إليه من عذابه,

" إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا "

لكن أملك أن أبلغكم عن الله ما أمرني بتبليغه لكم, ورسالته التي أرسلني بها إليكم- ومن يعص الله ورسوله, ويعرض عن دين الله, فإن جزاءه نار جهنم لا يخرج منها أبدا.

" حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا "

حتى إذا أبصر المشركون ما يوعدون به من العذاب , فسيعلمون عند حلوله بهم: من أضعف ناصرا ومعينا وأقل جندا؟

" قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا "

قل- يا محمد- لهؤلاء المشركين: ما أدري أهذا العذاب الذي وعدتم به قريب زمنه, أم يجعل له ربي مدة طويلة؟

" عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا "

وهو سبحانه عالم بما غاب عن الأبصار, فلا يظهر على غيبه أحدا من خلقه ,

" إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا "

إلا من اختاره الله لرسالته وارتضاه , فإنه يطلعهم على بعض الغيب , ويرسل من أمام الرسول ومن خلفه ملائكة يحفظونه من الجن; لئلا يسترقوه ويهمسوا به إلى الكهنة;

" ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا "

ليعلم الرسول صلى الله عليه وسلم, أن الرسل قبله كانوا على مثل حاله من التبليغ بالحق والصدق , وأنه حفظ كما حفظها من الجن, وأن الله سبحانه أحاط علمه بما عندهم ظاهرا وباطنا من الشرائع والأحكام وغيرها, لا يفوته منها شيء, وأنه تعالى أحصى كل شيء عددا , فلم يخف عليه منه شيء.

 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً