الإيثار
الإيثار هو "أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي" (تفسير السعدي). وقال القرطبي رحمه الله: "الإيثار هو تقديم الغير على النّفس في حظوظها الدّنيويّة رغبة في الحظوظ الدّينيّة، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين وتوكيد المحبّة، والصّبر على المشقّة".
وأجمل ما يمكن ذكره في هذا المقام قصة ذلك الأنصاري (أبي طلحة) وزوجه رضي الله عنهما حيث جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل النبي إلى أزواجه ليضيف هذا الرجل فما كان عندهم إلا الماء فقال صلى الله عليه وسلم: « » ، فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول اللّه، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيءٌ؟ قالت: لا، إلّا قوت صبياني. قال: فعلّليهم بشيءٍ فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السّراج وأريه أنّا نأكل فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السّراج حتّى تطفئيه. فقعدوا وأكل الضّيف فلمّا أصبح غدا على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: « » ، والمراد بالعجب من الله تعالى أي: رضاه سبحانه بذلك الفعل. قال النووي في شرحه على مسلم: "وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى فَضِيلَة الْإِيثَار بِالطَّعَامِ وَنَحْوه مِنْ أُمُور الدُّنْيَا، وَحُظُوظ النُّفُوس. وَأَمَّا الْقُرُبَات فَالْأَفْضَل أَنْ لَا يُؤْثِر بِهَا؛ لِأَنَّ الْحَقّ فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى. وَاللَّه أَعْلَم".
ومن ذلك أيضًا قول أم المؤمنين عائشة وفعلها مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أرسل إليها يستأذن في أن يدفن بجوار صاحبيه (النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر) فقالت: "كنت أريده (أي موضع الدفن) لنفسي فلأوثرنّه اليوم على نفسي". ودُفنت هي بالبقيع رضي الله عنها.
وقد قسم ابن القيم رحمه الله في كتابه (مدارج السالكين) الإيثار وجعله على ثلاث درجات:
الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك دينًا، ولا يقطع عليك طريقًا، ولا يفسد عليك وقتًا. يعني أن تقدّمهم على نفسك في مصالحهم، مثل أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدّي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدّين.
الثّانية: إيثار رضا اللّه على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطّول والبدن وإيثار رضا اللّه عزّ وجلّ على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء.
الثّالثة: أن تنسب إيثارك إلى اللّه دون نفسك، وأنّه هو الّذي تفرّد بالإيثار لا أنت، فكأنّك سلّمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشيء؛ فإنّ الّذي آثره هو الحقّ لا أنت فهو المؤثر على الحقيقة، إذ هو المعطي حقيقة.
للاستزادة: