موجة الحر: تذكير وعبر
نعيش في هذه الأيام، وما مضى منها في أشد أيام العام حرارةً، وكأن حر الصيف الشديد جاء هذا العام مبكرًا، ورأينا كم عانى الناس من هذا الحر معاناةً شديدةً؛ ولنا مع هذا الحر عبر وعظات، فهيا بنا نقف هذه الوقفات:
أيها المسلمون عباد الله، نعيش في هذه الأيام، وما مضى منها في أشد أيام العام حرارةً، وكأن حر الصيف الشديد جاء هذا العام مبكرًا، ورأينا كم عانى الناس من هذا الحر معاناةً شديدةً؛ ولنا مع هذا الحر عبر وعظات، فهيا بنا نقف هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: شدة الحر آية من آيات الله تعالى الدالة على ربوبيته وسلطانه وملكه لهذا الكون:
فإن الله جل جلاله هو الذي يقلب الأيام والشهور، وقد جعل أيام وليالي العام متقلبة بين الحر والبرد، وفي ذلك عبرة لا يعتبر بها إلا أولو الألباب؛ كما قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، وقال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
قال ابن القيم رحمه الله: "ثم تأمل هذه الحكمة البالغة في الحر والبرد وقيام الحيوان والنبات عليهما، وفكر في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل عليه مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان وأهلكها وبالنبات، ولولا العناية والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك".
الوقفة الثانية: التذكير والتفكر في مصدر هذا الحر:
فهل تفكرنا عباد الله، ما هو مصدر هذا الحر؟ ومن أين منبعه؟ فإن هذا الحر أساسه وأصله هذه الشمس، هذا المخلوق العظيم من مخلوقات الله تعالى.
هذه الشمس التي تدور دورتها بانتظام كما يريدها سبحانه وتعالى وهي لا تختلف أبدًا؛ فهي تجري بدقة عجيبة لا يعلم قدر ذلك إلا خالقها جل جلاله؛ كما قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]، ثم قال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] يعني: أن كل من هذه المخلوقات لها مقدار بإذن الله سبحانه وتعالى لا تتجاوزه أبدًا؛ بل هي في سيرها تسير سيرًا متقنًا.
وهي خلق من مخلوقات الله، يسجد له سبحانه وتعالى؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ...} [الحج: 18].
في الصحيحين عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين غربت الشمس: «أتدري أين تذهب» ؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها؛ فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38].
هذه الشمس العظيمة، أتدرون كم تبعد عن كوكب الأرض؟ يقول علماء الفلك: إنها تبعد عن الأرض أكثر من تسعين مليون ميل؛ أي: ما يقارب أكثر من 149 مليون كيلو، ومع ذلك نشعر بحَرِّها؛ فما ظنك حينما تدنى يوم القيامة من الخلائق؟! وعلماء الفلك يقولون: "لو أن الشمس اقتربت بمقدار يسير لاحترق كل ما على الأرض، ولو ارتفعت قليلًا لتجمد كل ما على الأرض".
الوقفة الثالثة: التذكير بنِعَم الله تعالى علينا من الوسائل التي نتقي بها شدة الحر:
يأتي الحر، وتشتد حرارة الشمس؛ فنتذكر ما مَنَّ به ربُّنا علينا، وأنعم من الوسائل التي تقينا هذا الحر؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81].
وامتنَّ الله تعالى على بني إسرائيل بهذه النعمة؛ كما قال تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ثم ظَلَّل عليهم في التيه بالغمام من الشمس".
وامتن الله تعالى علينا بنعمة البيوت والتي جعلها سكنًا وراحةً لأهلها؛ قال الله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل: 80]، قال ابن كثير رحمه الله: "يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده، بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم، يأوون إليها، ويستترون بها، وينتفعون بها سائر وجوه الانتفاع".
ولذلك كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أوى إلى فراشه تذكر هذه النعمة؛ كما في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا أوى إلى فراشه، قال: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مئوي»؛ ومعنى آوانا: "أي: ردَّنا إلى سكن ومأوى، ولم يجعلنا منتشرين كالبهائم؛ فإن وجود السكن للإنسان نعمة من الله تعالى ينبغي شكرها".
فهل استشعرنا عظيم نعمة الله علينا حين يسر لنا من الوسائل المختلفة ما نتقي بها حَرَّ الشمس وسمومها، ماء بارد، وظل وارف، وأجهزة تقلب الصيف شتاءً والشتاء صيفًا؛ فهل تأملنا ذلك؟ وشكرنا ربَّنا على ذلك؟
ولذلك فإن العبد سيسأل يوم القيامة عن هذه النعم؛ قال الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] وعن عبدالله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] قال الزبير: يا رسول الله، فأي النعيم نسأل عنه، وإنما هما الأسودان التمر والماء؟! قال: «أما إنه سيكون»؛ (رواه الترمذي)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يسأل عنه ( (يعني العبد من النعيم) ) أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونرويك من الماء البارد»؛ (رواه الترمذي).
عباد الله، ولئن كان حَرُّ الدنيا يُتَّقى بالملابس والثياب وغيرها، فإن حَرَّ الآخرة وهو أشد وأفظع لا يُتَّقى بشيء من ذلك، إنما يتقى بالأعمال الصالحة، يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق.
الوقفة الرابعة: التذكير بدنوِّ الشمس من الخلائق يوم القيامة:
فإن شدة الحر تُذكِّرنا بحَرِّ الموقف يوم القيامة، حين تدنى الشمس يوم من الخلق؛ ففي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل»، قال سليم بن عامر: فو الله، ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين؟! قال: «فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا»، قال وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم»؛ أي: يغور ويغوص في الأرض، وتشربه الأرض إلى سبعين ذراعًا؛ أي: ما يزيد عن ثلاثين مترًا.
فنحن والله لا يتحمل الواحد منا حَرَّ شمس الدنيا؛ فكيف سيتحمل حَرَّ شمس الآخرة حينما تقترب من الرؤوس قدر ميل؟! فحَرِيٌّ بك أيها المؤمن أن تبادر إلى طاعة ربك جل جلاله ليقيك من حَرِّ أرض المحشر، ويظلك تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.
الوقفة الخامسة:التذكير بحَرِّ نار جهنم:
فإن من أهم ما يعتبر به الإنسان من هذا الحر الشديد، أنه يتذكر به حر نار جهنم؛ فتهون عليه حرارة الدنيا، ويزداد خوفًا من نار الآخرة، وهربًا منها؛ فإن اشتداد الحر في هذه الدنيا ما هو إلا نفس واحد من أنفاس نار جهنم؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير»، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا اشتدَّ الحَرُّ فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم»، والمقصود تأخير صلاة الظهر إلى قرب صلاة العصر عند اشتداد الحر، قال الحسن البصري رحمه الله: (كل برد أهلك شيئًا فهو من نفس جهنم، وكل حر أهلك شيئًا فهو من نفس جهنم).
فإذا كان هذا الحر الشديد والشمس المحرقة إنما هو نفس واحد من أنفاس جهنم، فيا ترى ما عذابها إذًا؟! وما شدة حرها؟ قال الله تعالى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم»، قيل: يا رسول الله، إن كانت لكافيةً، قال: «فضلت عليهن بتسعة وستين جزءًا، كلهن مثل حرها».
وفي الدنيا يهرب الناس من حَرِّ الشمس إلى الظل؛ فما هو ظل النار؟ قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]، وقال تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 30، 31]، وقال تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 43، 44].
وأما ريحها: فمن السموم؛ كما قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 41 - 44]؛ لذلك كان سلفنا الصالح يتفاعلون مع مثل هذه الآيات الكونية.
كان ابن عمر رضي الله عنهما، وغيره من السلف إذا شربوا ماءً باردًا بكوا وذكروا أمنية أهل النار، وأنهم يشتهون الماء البارد وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، ويقولون لأهل الجنة: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50]، فيقولون لهم: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50].
ورأى عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، قومًا في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، فبكى، وأنشد:
من كان حين تصيب الشمس جبهته *** أو الغبار يخاف الشين والشعثـــــا
ويألف الظل كي تبقى بشاشتـــــــــه *** فسوف يسكن يومًا راغمًا جدثــــا
في قعر مظلمة غبراء موحشـــــــــة *** يطيل في قعرها تحت الثرى لبثــا
تجهزي بجهاز تبلغين بـــــــــــــــــــه *** يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
وهذا صلة بن أشيم رحمه الله لما زفت إليه معاذة العدوية، أدخله ابن أخيه الحمام، ثم أدخله بيت العروس؛ بيتًا مطيبًا، فقام يصلي، فقامت تصلي معه، فلم يزالا يصليان حتى برق الصبح. قال: فأتيته، فقلت له: أي عم، أهديت إليك ابنة عمك الليلة، فقمت تصلي وتركتها. قال: إنك أدخلتني بيتًا أول النهار أذكرتني به النار، وأدخلتني بيتًا آخر النهار أذكرتني به الجنة، فلم تزل فكرتي فيهما حتى أصبحت. فالبيت الذي أذكره به النار هو الحمام، والبيت الذي أذكره به الجنة هو بيت العروس.
وصب بعض الصالحين على رأسه ماء من الحمام فوجده شديد الحرارة، فبكى، وقال: ذكرت قوله تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19].
أيها المسلمون عباد الله، فإن الحر ليس عائقًا عن عبادة الله تعالى، ولا صادًّا عن طاعته، فأهل الإيمان يرون أن في الحر غنيمة لا تفوت، وفرصًا عظيمة للنجاة من حر يوم القيامة؛ ومن هذه الأعمال نتقي بها حر الآخرة:
1- الصيام في أيام الحر الشديدة (ظمأ الهواجر):
فإن من العبادات العظيمة في الأيام شديدة الحرارة: الصيام؛ لأن الأجر على قدر المشقة، ولا شك أن المشقة تكون كبيرة لمن صام في أيام الحر؛ قال ابن رجب رحمه الله في كتاب لطائف المعارف: "مما يضاعف ثوابه في شدة الحر من الطاعات: الصيام لما فيه من ظمأ الهواجر".
ولقد كان سيد العابدين صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على الصيام في أيام الحر وهو على سفر؛ من أنه يرخص للمسافر الفطر في صيام الفرض؛ في الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبدالله بن رواحة))، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فمنا الصائم، ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلًا في يوم حار، وأكثرنا ظلًّا صاحب الكساء، فمنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر».
وهكذا كان حال السلف الصالح في الحر يجتهدون في طاعة الله تعالى، ومن الأعمال التي كانوا يحرصون عليها: الصوم؛ حتى اشتهر عندهم مصطلح [ظمأ الهواجر] وكانوا يوصون بذلك.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند موته يوصي ابنه عبدالله، فيقول له: (عليك بخصال الإيمان، وذكر أولها: الصيام في شدة الحر في الصيف).
وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه كان يقول: (صوموا يومًا شديدًا حَرُّه لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور).
وهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه يبكي عند موته، فقيل له: أتجزع من الموت وتبكي؟! فقال: (والله ما أبكي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على دنياكم، ولكني أبكي على ظمإ الهواجر؛ أي: الصوم في شدة الحر، وقيام ليل الشتاء).
وقيل لإحدى نساء السلف: إنك تعمدين إلى أشد اﻷيام حرارة فتصومينها؟! فقالت: "إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد".
2- الإكثار من الاستعاذة بالله تعالى من عذاب النار:
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الاستعاذة من النار ويدعو بأن يقيه الله تعالى منها؛ ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار».
وقد جاء في حديث صحيح أن من سأل الله الجنة ثلاث مرات دعت له الجنة بأن يدخله إياها، وأن من استجار بالله من النار ثلاث مرات دعت له النار بأن يجيره منها؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله الجنة ثلاث مرات، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاث مرات، قالت النار: اللهم أجِرْه من النار»؛ (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني).
وإن من صفات عباد الرحمن، أنهم يدعون الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 65، 66].
وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة بالله تعالى من عذاب النار بعد التشهد وقبل التسليم وذلك في كل صلاة؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تشهد أحدكم، فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال».
3- الصدقات وأفضلها (سقي الماء):
فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سأنبئك بأبواب من الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار»؛ (رواه أحمد وحسنه الألباني).
ومن أصناف الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «ورجل تصَدَّق بصَدَقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينُه».
والصدقة تكون ظلًّا لصاحبها من حَرِّ يوم القيامة؛ فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «كل امرئ في ظل صَدَقته حتى يُقضى بين الناس»؛ (رواه أحمد وابن حبان وصحَّحه الألباني).
ومن أفضل أنواع الصدقات: سقي الماء؛ فعن سعد بن عبادة رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت أفأتَصَدَّق عنها، قال: «نعم»، قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «سقي الماء»، قال سعد: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة؛ (رواه أحمد والنسائي وحسنه الألباني)، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما: أي الصدقة أفضل؟ فقال: الماء، ثم قال: ألم تروا إلى أهل النار، حين استغاثوا بأهل الجنة، قالوا: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50].
ومنها: إنظار المعسر حتى يُسدِّد دينه أو التخفيف من الدين عنه؛ كما في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظَلَّه الله في ظِلِّه» وفي رواية: «من أنظر معسرًا أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله»، وعن أبي اليسر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول من يستظل في ظل الله يوم القيامة لرجل أنظر معسرًا أو تصدق عنه»؛ (رواه الطبراني بسند حسن).
4- المحبة في الله عز وجل وليس لأجل مصلحة دنيوية أو غيرها:
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي»، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: «المتحابُّون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله»؛ (رواه أحمد والطبراني).
5- الاتصاف بهذه الأوصاف التي تضمنها هذا الحديث:
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه مُعَلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصَدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه».
نسأل الله العظيم أن يجيرنا من عذاب النار، وأن يظلنا تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
_____________________________________________________________
الكاتب: رمضان صالح العجرمي
- التصنيف: