بين "الشيخ سفر" و "أبو فهد"...

عبد الله بن عبد الرحمن العيادة

  • التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة -
الأشياء التي يملكها المرء كثيرة، وهذه الأشياء تختلف من حيث الأهمية، فتجد المرء يحافظ على الشيء المهم، ويدافع عنه، بل ويفني عمره في المحافظة عليه، وذلك الشيء هو حياته، وما يكون فيها من متغيرات مذهلة، وهناك أمر آخر، وهو أن المرء يبرّر لنفسه فعل الشيء الذي يراه منطقياً، في المحافظة على حياته، بغض النظر عن الوسيلة التي يسلكها لبلوغ هدفه.

وتجد أن الناس يلتفون حول المرء حسب الوسيلة التي يسلكها في الوصول إليهم، مع المحافظة على حياته من خلالها.

فكلما كانت الوسيلة مقربة إلى الله، كان القرب أكثر، وأنت تجد هذه الفوارق ماثلة أمام العين، إن أمعنت النظر بكل تمعّن، مع تأمّل الأمثلة الدالة على ذلك.

الذي أوجد هذه المقدمة، الأحداث المثيرة التي مرّت خلال الأيام الماضية، وارتبطت بأشخاص بأعيانهم، تجلّى فيها هذا المبدأ الذي ذكرنا، وهو بذل المرء ما في وسعه للمحافظة على حياته، بعد مماته، من خلال عمله، ولكن:

ما الحياة التي تقصد..؟ سؤال ظريف..

الحياة تنتهي، أليس كذلك..؟ إذاً ما الذي يبقى للمرء بعد انتهاء الحياة..؟

في الدنيا خلود الذكر، مع الترحّم كلما مرّ في مجلس ذكره، وفي الحياة الآخرة ينجو من هول القيامة، ويعتق نفسه من النار، إذا بانت لك الفكرة. فبعملك الذي تقدمه تنجو، أو به قد تهلك.

سأذكر لك ثلاثة نماذج متباينة توضّح لك هذا المعنى، اثنان بأعيانهم، ومثال عام.

وهذه الأمثلة بينها تباين بالأخذ بالأسباب، الموصلة إلى السعادة المنشودة، والعجيب كلٌّ يرى أنه على حق، والفيصل هنا، هو تفاعل الناس مع هذا الشخص، سلباً أو إيجاباً، فأنت تستطيع أن تحكم على فعلك الظاهر للناس، من خلال تفاعل الناس معك، وتأثّرهم بفعلك وقولك؛ لأن نتيجة فعلك أو قولك موجّهة إليهم، ولمصلحتهم. إذاً سأذكر لك النماذج التي مرّت أحداثها، خلال الأيام الماضية، لتحكم أنت بنفسك، وتتأمل كيف تكون ثمار الأعمال، إما مقرّبة أو مبعّدة، مع ملاحظة أن لنا الظواهر نحكم من خلالها، أما البواطن فلها عالم السر والخفيّات، ولكن تذكّر أن الظواهر تكون عناوين مترجمة لما تُكِنُّ البواطن .

أجمل الأعمال، تلك الأعمال التي تستمر مع الناس، حتى في اللحظات الأخيرة من الحياة، وقبل أن يُسدل الستار على الإنسان، عندما تنتهي المدة الممنوحة على مسرح الحياة. هذا العمل هو عمل صاحبنا، النموذج الأول، وهو أبو فهد العلوان (رحمه الله) قد تقول:
وما الغرابة في ذلك ..؟ سؤال وجيه..
هذا الرجل هل تصدق أنه يعمل في هذه المهنة الشريفة الإنسانية أكثر من أربعين سنة، ياه .. أربعين سنة..؟ نعم..

وهو يشرف على الجنائز في بريده، تغسيلاً وتكفيناً وتلحيداً في القبر، أربعين سنة وهو يقلّب الموتى، وشاهد ورصد أحداثاً مفزعة وأخرى سارة، ومع الأسف الشديد طُويت معه في لحده، لم يعلم بها أحد، ولم يتجرّأ أحد أن يسأله عنها، ولا أدري ما السبب ..؟ قد يكون التراخي من بعضنا، كل جنازة نراه نقول: غداً نسأله، حتى مرّ الوقت سريعاً، وإذا به يذوق نفس الكأس ويرحل، لتصعقنا المفاجأة برحيله.

تعال معي أسوق لك مشهد جنازة هذا الرجل ــ وهي الشاهد من حديثنا عنه ــ كيف كانت، بدأت تفاصيلها منذ اللحظات الأولى لخبر فراق روحه جسده، فقد انهالت رسائل الجوال يميناً وشمالاً، فلم تدع جهازاً في بريدة وأطرافها إلا دخلته، فانتشر خبر وفاته، كالنار في الهشيم، فسمع به القاصي والداني، عندها تدافع الناس ظهر يوم الاثين إلى جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب بمدينة بريدة، بشكل لم يسبق له مثيل، وامتلأ المسجد لأول مرة منذ افتتاحه!!

تُرى لماذا فعل الناس هذا مع هذا الرجل..؟ ما مؤهلاته..؟ ومن هو..؟

هو رجل بسيط عامي، لكنه امتلك شيئاً قد لا يقدر عليه الكثيرون، ظهرت نتائجه يوم جنازته، وسار الناس خلفه، وهو رجل عامي، في لهيب الشمس، وحرارة الصيف، وعمله فقط أنه يغسّل الموتى ويكفّنهم ويلحدهم.

فما الذي أتى بهم..؟ وأين يكمن السر يا ترى؟ أتراه نفس الحديث "ياجبريل إني أحب فلاناً، فأحبّه ..؟" وهو الشيء الذي لا يستطيع أن يفعله الكثيرون.

سألت أحد المشيعين في المسجد:

ما الذي جاء بهؤلاء إلى جنازة هذا الرجل العامي؟

يبدو أن هناك أمراً آخراً، تخيّل أكثر من أربعين سنة، وهو يهتم بموتى سكان مدينة بريدة وما حولها، أي لا يوجد بيت في بريدة إلا وهذا الرجل قد غسّل أو كفّن أو لحد لهم ميتاً، فصار لهم ارتباط بهذا الرجل، وأنا واحد منهم، فقد غسّل والدي-رحمه الله- وكفّنه.

إذاً هناك دعوات خفية مع حبٍّ لهذا الرجل البسيط، ظهرت نتيجتها، يوم وفاته، حينما زحفت تلك الجموع العظيمة خلف جنازته، أبى الله إلا أن يظهرها، فهل تستطيع أنت أن تفعل نفس الشيء، وتجمع الناس في جنازتك..؟ أو أن تجعلهم يحبونك..؟ جرّب ....

النموذج الآخر، وهو لرجل لا يزال على قيد الحياة، حتى لحظة كتابة هذا المقال، فقد تناقلت رسائل الجوال وبسرعة مذهلة، تلتها بعض وسائل الإعلام، خبرَ تعرّض الشيخ الدكتور العلامة الداعية أبو عبد الرحمن سفر بن عبد الرحمن الحوالي، للعارض الصحي المفاجئ. هذا الخبر هزّ كياني ووجداني، كغيري من الناس، والدليل ذلك السيل المنهمر، من رسائل الجوال التي داهمت جوالي، فلم تتسع الذاكرة لحملها، يشعرك أن الرجل، ليس بالرجل العادي، ولكن الذي خفّف الألم الذي خيّم علينا، هو ذلك الفيض الهائل من التعاطف من شرائح المجتمع الإسلامي، داخل وخارج المملكة، يعطيك تأكيداً لذلك الحب الصادق الذي يمنحه الناس لأولئك الأشخاص الذين يحملون همومهم، ويدافعون عن قضاياهم، وشيخنا أبو عبد الرحمن، نحسبه -والله حسيبه- دافع عن قضايا الأمة بلسانه وقلمه، والدليل على صدق جهاده، هذا الزخم الهائل من المشاعر المتدفقة التي غمرت الشيخ مؤطّرة بسيل مدرار من الدعاء والتضرّع للعلي القدير سبحانه وتعالى، أن يمنّ عليه بالشفاء العاجل.

إذاً السؤال الذي يفرض نفسه: ما السر في تدفق هذه العواطف، والمحبة لهذا الرجل..؟ هل أُجبروا على بث هذه المشاعر ..؟ لدرجة أن تسجل قناة المجد سابقة، تُحسب لها في نشرة الأخبار؛ إذ جعلت من خبر الشيخ أول خبر لها في نشرتها الرئيسة، مساء يوم الجمعة، الموافق 3/5/1426هـ ، وهذا في ظني لم يحدث أبداً، بأن جُعل خبر داعية إسلامي، يتصدّر النشرة الإخبارية، وهي سابقة لم تُسبق المجد إليها، فلهم منا كل الدعاء بالتوفيق والسداد، على هذه اللفته الرائعة.

إذاً قد يكون البحث عن الأسباب التي تجعل الناس يحيطونك بالحب الصادق بدون مقدمات هو ذلك الخيط الرفيع الخفي، الذي يربطك بالله سبحانه وتعالى، وما تقدمه أنت لدين الله، على حسب قدرتك، وهو بالتالي أحد الأسباب التي تجعل لك الأمان، يوم العرض الأكبر؛ لأنك قدّمت الوقاية لنفسك، وأحييتها الحياة الأبدية. وهي التي نقصد.

وفي نفس الوقت، من الجهة المقابلة، ترى ابتعاد الناس عنك، وقد يمطرونك بوابل من سيل الدعاء عليك، والسبب ما تقدمه، وتزعم أنه صحيح، ولكن العكس هو الصحيح، فالناس لا يتفقون على شيء إلا إذا كان صحيحاً؛ لأنهم قد رفضوا فكرتك جملة وتفصيلاً، حتى وإن اعتليت أرفع المناصب، وكنت أغنى الأغنياء، ولو كنت تتخذ قراراً لا ينفع، وقد يكون في هذا العمل هلكتك، وأنت تظن أن فيه نجاتك، ومصداق ذلك قول الحق تبارك وتعالى: ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعاً). إذاً نتيجة الفعل أو القول، تحكم عليها من خلال ردة فعل المتلقي، سلباً أو إيجاباً.
هذه هو المثال الثالث، الذي أردت أن أعرضه عليك، فكثير من هؤلاء، يقدم ما يفسد المجتمع، ويغلّفه بثوب الناصح، ولا يدري أنّ فِعله هذا سينعكس عليه سلباً بعد ذلك، ومنهم من حصد نتيجة الفعل وهو على قيد الحياة، إما كُرها من المتلقين لما يطرح، مع الدعاء عليه، أو تحلّ به مصيبة، أو قد يجد ذلك أمامه إذا قدم على ربه، وهذا هو الأخطر.
إذاً المسألة يا أخي كيف أعتق حياتي، وأنجو بها.

أذكرك، بجنازة الرجل العامي البسيط (أبو علوان) الذي تدافع الناس في جنازته، وهو لا يملك من الدنيا، إلا تلك الابتسامة والتحية التي يلقيها على الناس، وهم يسألونه عن قبر معين، وأيضاً لماذا أحاط الناس، شيخنا الفاضل "أبو عبد الرحمن" ، بهذا الحب الصادق ..؟


فلا تستغرب إذا رأيت الناس يتواصون بالدعاء على أحدهم، وعبر رسائل الجوال، بنفس القوة التي تجعلهم يتواصَوْن بالدعاء للشيخ سفر بالشفاء العاجل، هناك خيط رفيع. من يفطن له..؟


إذاً فتشْ عن عملك وقولك، ومدى قربه من الله..؟ وإذا أردت أن تعرف نتيجة ذلك، انظر إلى تفاعل الناس مع ما تقول أو تفعل، والموعد يوم الجنائز.....
المصدر: موقع الإسلام اليوم