الاكتئاب

منذ 2013-01-14

إذا جمعت بين الشفقة لأهل الحق، ورحمة من يخطأ منهم وكلنا كذلك، وبين البراءة من الباطل وفعله، ونصرة الحق ولو كنت وحدك، وبادر بنشر الحق، ومجابهة الظلم، وكن أنت لها ولو كنت وحدك فإني لأرجو أن تكون من أهل قوله تعالى: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الاحزاب: 23]، وأنى لهؤلاء أن يصيبهم الاكتئاب.


بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد:-

الإكتئاب، وما أدراك ما الاكتئاب...
إنه العدو القادر على هزيمتك من الداخل...
إنه العدو القادر على عرقلة حياتك، وإيقاف مسيرتك، ووأد أفكارك...
إنه العدو لمن يريد الدنيا، والعدو لمن يريد الآخرة، إنه عدو الجميع بلا استثناء...
كم من طالب دنيا جعله يقتل نفسه بيده، وكم من طالب آخره أوقعه في حبائل الشيطان...
إنه من الظواهر العامة في أعقاب الثورات والتقلبات السياسية العنيفة، فكم من مؤمل شيئا لبلده فوجد عكسه، وكم من ظان خيرا بشخص فوجد نقيضه، وكم وكم.....

لست في حاجة لوصف الاكتئاب، فمن لا يعرفه، ومن لم يجربه، ومن لم يقاسيه ولو لحظة من لحظات عمره، ولكن ما الحل؟؟؟

أما لمن يريد الدنيا فأقول لا راحة لك في البعد عن الله، لا تتعب نفسك، فكل عطاء في الدنيا شقاء لمن بعد عن الله، فالغني يخشى الفقر، والصحيح يخشى المرض، والقوي يخشى الضعف أو من هو أقوى منه، وكم من غني مريض لا يغني غناه عن مرضه، وكم من قوي لا يجد للغنى سبيلا، وكم من قوي غني لا يجد ولدا يرثه، وكم من وكم من.... ولكن هب أن هناك من جمع كل هذا، غنى، صحة، أولاد، منصب وجاه وكل ما يتمناه، فكفى بعلمه أن كل لحظة تقربه من الموت منغصا، فما بالك بالفقير أو المريض أو الضعيف.

لو كانت الدنيا تصفو لأحد لصفت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل أخبرك الله أن الدنيا دار راحة ونعيم، أو أنها تدوم لأحد، بل هي دار ابتلاء واختبار، دار تمحيص، أم أنك نسيت قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].

لذلك ففي كلمة واحدة: لن ترتاح أبدا وأنت بعيد عن الله، لن تسكن روحك إلا إذا خضعت كل جوارحك لله، ألم تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (رواه مسلم)، فالمؤمن وحده من يشكر النعمه ويصبر في البلية وهو في كلٍ راض عن أمر ربه، حتى أنه روى أن سعد بن أبي وقاص كان يدعو للناس لمعرفتهم له بإجابة الدعوة فقيل له لو دعوت الله لبصرك، وكان قد أضر -أي عمي بصره- فقال قضاء الله أحب إلى من بصري!!!

فالخلاصة أسرع إلى ربك تكن أسعد الناس في الدنيا والآخرة، ولو كنت في قلب السجن لكنت سعيدا بقضاء ربك، كما قال ابن تيمية رحمه الله وقد سجن كثيرا: ما يفعل أعدائي بي، إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة، جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي لا تفارقني.

أما من يريد الآخرة فأقول فإني والله لست أهلا لأنصحكم، فأنتم أعلى قدرا، وأكثر علما من أن يقوم مثلي بالنصح، ولكني تأملت حالنا بعد الثورة المصرية فوجدت أن أغلب ما يصيبنا من اكتئاب فهو لسببين:-

أولهما: ليس بجديد علينا ولكنه أصبح أشد وطأة، وأعظم تأثيرا، ألا وهو فعل أعداء الدين عموما والإعلام خصوصا من التشويه والكيد، والتحريض والسب، وتضخيم العيوب وستر المحاسن، ومما زاد الطين بلة، أن تستخدم تلك الزلات في النيل من الدين عموما، وأن يسمع لهم قطاع من الناس فيصبح الدين عندهم مشوها، وأصبح رموز الدين المنوط بهم إصلاح الخلل ليسوا عند هذا القطاع أهل ثقة. فزادنا هذا كمدا على كمد، أن نرى قطاع من الناس لا نستطيع أن نمد لهم يدا تنقذهم من التخبط، وقد كنا عندهم لسنا بمتهمين، فأصبح الغيظ غيظان من أهل الباطل وإعلامهم، ولا حول ولاقوة إلا بالله.

وثانيهما: وهو الأهم في نظري، أن المعترك السياسي الحاد، والمواقف المتشعبة، والفتن المتلاحقة، وتصدر كل التيارات الإسلامية ورموزهم للمشهد، وتسليط الضوء عليهم، ووضعهم في بؤرة الأحداث، كل هذا قد كشف العيوب، ويبدو أننا كنا نضعهم في منزلة الملائكة، فكم من شيخ جليل فقيه أو جماعة أو دعوة أنكرت عليهم قرار في يوم ما، وكم من فتنة مررنا بها فقلنا هذا لأن قرار هؤلاء كان لمصلحة شخصية وليس لله، ومع توالي المواقف، وتباين الرؤى، وانقسام الناس بين مؤيد ومعارض، تحطمت عند كثير منا الهالة القدسية التي كنا نراها حول رموزنا. فأصابنا هذا بالكثير من الارتباك، بل والأحباط والاكتئاب.

فكم من غصة تحملها حلوقنا من الموقف الفلاني، أو القرار العلاني، وكم نحمل كمدا من التصريح الفلاني، أواللقاء العلاني، فكيف السبيل؟
كيف السبيل مع عدو فاجر، وحبيب له ذنوب؟
وماذا علينا أن نفعل؟

ثم وجدت حدثا فريدا في السنة مع صحابي جليل، موقف كاد فيه المشركون أعظم الكيد، وأخطأ فيه المسلمون خطأ عظيما، فكيف تعامل نفسيا مع كلا الفريقين، وكيف كان ثمرة هذا الموقف النفسي الرائع فيما فعله بعد ذلك، إنه أنس بن النضر رضي الله عنه، ومن منا لا يذكر قوله ثم فعله في أُحد، والحديث في صحيح البخاري رحمه الله، قام المشركون بالعدوان أيما عدوان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته حتى أشيع أنه قتل، فما أعظم ذلك من كمد، وأما المسلمون: فالرماة تركوا جبل الرماة وخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلوا للغنائم، ثم لما أشيع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم ترك بعضهم السلاح، وفر بعضهم للمدينة، فأصبح الكمد كمدان، فماذا قال عن كلا الفريقين ثم ماذا فعل بعد ذلك، أترككم مع الحديث:

- عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

«غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الاحزاب: 23] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ... »والحديث له بقية ولكني أكتفي بهذا المقطع.

تأمل: أعتذر إليك، وأبرأ إليك، ولكن مع انكاره على الفريقين تأمل شفقته هنا، وتبرأه هنالك ثم ماذا فعل؟ لم يثنه موقف هؤلاء أو هؤلاء عن فعل ما يراه حقا ولو كان وحده والله لا أدري من أيهم أعجب، اعتذاره عن المسلمين، أو تبرأه من المشركين، أو نصرته للحق ولو كان وحده.

فيا أخي الكريم، إن التيار الإسلامي عانا عقودا من الاضطهاد والتضييق، وتكميم الأفواه، ولم يستطع تنشأة كوادره إلا على خوف، وحرموا من المناصب في الدولة إلا على استحياء، وقضى كثير منهم أغلب عمره في السجن، ثم أراد الله أن يحمل تركة ثقيلة، وأمانة عظيمة، بلد استشرى فيها الفساد، وأثقلتها الديون، وتكالبت عليها الأعداء، فإن وجدت خللا في الصف، أو ضعفا في البنيان، أو وهنا هنا أو هناك، فليكن ديدنك الشفقة وقل اللهم إني أعتذر إليك، ثم بادر أنت بسد الخلل، ورتق الثقب.

وإن وجدت الباطل يستأسد، والطغيان يعلو، والبهتان يسود، فقل اللهم إني أبرأ اليك، وبادر بنشر الحق، ومجابهة الظلم، وكن أنت لها ولو كنت وحدك. فإذا جمعت بين الشفقة لأهل الحق، ورحمة من يخطأ منهم وكلنا كذلك، وبين البراءة من الباطل وفعله، ونصرة الحق ولو كنت وحدك، فإني لأرجو أن تكون من أهل قوله تعالى: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الاحزاب: 23]، وأنى لهؤلاء أن يصيبهم الاكتئاب.


محمد الصيفي 
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 1
  • 0
  • 6,971

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً