الإسلامُ دين الفِطْرةِ

ياسر منير

الفطرة، هي نور موثوق به، فى داخل الإنسان، يحتوي على ضمان أحقيته فى ذاته. وكل الأدلة الخارجية كونية أو عقلية، إنما هي منبهات على هذه الفطرة. ولا يصرف الإنسان عن عقيدة الفطرة إلا أهواء غالبة، أو ميل إلى تقليد الآباء والأجداد.

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية -


لا شك أن فطرية الإسلام كانت العامل الرئيس الذى دفع الناس إلى الإقبال على الإسلام؛ لذا كان لِزامًا عليّ أن أُفَسِّر مفهوم الفطرة. فطر فى اللغة: بمعنى خلق، فطر الله الخلق يفطرهم: خلقهم وبدأهم، والفطرة: الابتداء والاختراع (ابن منظور: لسان العرب) مادة "فطر". المجلد الخامس. جـ 38. ص 3433. وأيضًا: المعجم الوسيط: مادة "فطر". جـ2.ص720 ). ويرى بعض العلماء أن المراد بالفطرة هو الإسلام (ابن أبى حاتم الرازى -عبد الرحمن بن محمد بن إدريس ت 327هـ- تفسير القرآن العظيم "تفسير مُسند". جـ9. ص3091. تحقيق أسعد محمد الطيب. ط1. 1417هـ / 1997م. مكتبة نزار الباز - الرياض. وأيضًا: الزمخشرى -جار الله محمود بن عمر ت 538هـ- الكشّاف. ص577 . جـ4. الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ على محمد معوض. ط1. 1418هـ / 1998م. مكتبة العُبَيْكان - الرياض. وكذلك: ابن كثير الدمشقى -الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقى ت 774 هـ- تفسير القرآن العظيم. جـ 11. ص26. تحقيـق حسن عبّـاس قطب وآخــرين. ط1 .1421هـ / 2000م. مؤسسة قرطبة - القاهرة. وأيضًا: الشيخ أحمد شـاكر: مختصر تفسير القـرآن العظيم لابن كثير. جـ2. ص819. ط2. 1426هـ / 2005م. دار الوفاء - المنصورة. وكذلك: الشيخ مصطفى العدوى: التسهيل لتأويل التنزيل جـ2. ص321 . ط1. 1416هـ / 1996م. مكتبة الهدى- مصر). ويستـدل هؤلاء بقول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]. وبقوله صلى الله عليه وسلم«: ما من مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدَانه، أو يُنَصِّرَانه، أو يُمَجِّسانه، كما تُنتَجُ البهيمة بهيمة جمعاء هل تُحِسُّون فيها من جدعاء؟»  ثم يقول أبو هريرة رضى الله عنه: "فطرة الله التى فطر الناس عليها...". فقال رجل: "يارسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت لو مات قبل ذلك؟" قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (البخاري: الجامع الصحيح. كتاب الجنائز. باب إذا أسلم الصبى فمات هل يُصلَّى عليه؟ ص263. رقم 1358. مسلم: صحيحه. كتاب القدر. باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، ص1066. رقم 2658. الترمذي: سننه. كتاب الوصايا. باب ما جاء كل مولود يولد على الفطرة ص483. رقم 2138) كلهم من حديث أبى هريرة.

فالرسول صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى أن تغيير هذه الفطرة يقع بتأثير الوالدين، أو تأثير البيئة؛ لذلك شبه المولود بالبهيمة الجمعاء التى تولد سليمة، مجتمعة الخلق، لا تغيير فيها ولا تشويه، لكنّ الناس يغيرون خلقها بعد ذلك، فيشقون آذانها أو غير ذلك. فالفطرة لو تُركت دون تأثير خارجي، سواء من الوالدين أوغيرهما، وأزيحت عنها العوائق من الشبهات والشهوات فهي تقتضيه بذاتها لدين الإسلام (د. أحمد عبد الرحيم السايح: بحوث فى مقارنة الأديان. ص100).

وقد استدل العلماء القائلين بأن الفطرة هى الإسلام، بأدلة كثيرة، منها:

1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الحديث سألـوه عن أطفال المشركين، فقال لهم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» يقول ابن منظور في التعليق على هذا النص النبوي: "يذهب إلى أنهم إنما يولدون على ما يصيرون إليه  من إسلام أو كفر" (انظر: لسان العرب مادة فطر. المجلد الخامس. جـ 38. ص 3434).

2- لو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام، لما سألوه عن ذلك؛ لأنه لم يكن هناك ما يُغيِّر تلك الفطرة، ما داموا بين أبوين كافرين، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فأبواه يهودانه أو ينصرانه» بيّن أنهم يغيرون الفطرة التى ولدوا عليها.

3- لقد شبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بالبهيمة التى تُولد جمعاء غير مجدوعة، لا نقص فيها، ثم يطرأ عليها النقص بعد ذلك بجدعها، فَعُلم من ذلك أن التغيير وارد على الفطرة السليمة.

4- لو كانت الفطرة شيئًا غير الإسلام لذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام فى جملة ما ذكر من الأديان التى تفسد الفطرة بالتحول إليها، ولقــال: "فأبواه يهودانـه وينصرانه أو يسلمانه"، لكنه لم يذكره؛ لأنَّ الدين هو الذي تتغير الفطرة بتحولها عنه، وليس بتحولها إليه (د. محمد السيد الجليند: قضية الخير والشر فى الفكر الإسلامى. ص235. ط1401هـ / 1981م. مطبعة الحلبى - القاهرة ).

5- كما أن الحديث مطابق لما فى قوله تعالى: {ۚ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]. وهذه الآية وصف الله تعالى بها الدّين الذى أمر نبيه بأن يقيم وجهه له فى قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30]، ثم قال: {فِطْرَةَ اللَّهِ}. والإضافة هنا للمدح والتشريف، فعلم أنها فطرة ممدوحة، لا مذمومة، ويؤيد هذا كله الروايات الأخرى التى فسرت الفطرة بأنها الحنيفية، وبأنها هذه الملة، أي الإسلام (د. أحمد عبد الرحيم السايح: بحوث فى مقارنة الأديان. ص101 ).

وإذا كانت الفطرة تقتضي الإسلام، فهذا يعنى طروء الكفر، وأنه ليس هو الأصل فى النفس البشرية، وقوله تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ} [الروم:30]، أي: لا تبـديل لـدين الله، وهو معنى قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]. وقد ذكر ابن كثير فى تفسيره أن قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً} أي أنهم كانوا على الهدى جميعًا ثم اختلفوا فيه (انظر: جـ2. ص279. وقد عزا ابن كثير هذا القول لقتادة من التابعين).

ولقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عموم هذا الفساد الذي طرأ على الفطرة، فقال: «ألا إنّ رَبِّى أَمَرَنِى أَنْ أُعَلّمَكم مَا جَهِلْتم ممَّا علَّمنى يومى هذا، كلّ مالٍ نحَلْتُه (نحلته: أعطيته. ونحل المرأة: أعطاها مهرها. انظر: المعجم الوسيط: مادة نحل. جـ2.ص943 )عبدًا حلال. وإنى خلقتُ عبادى حنفاء كلهم، وإنهم أَتَتْهُم الشياطين فَاجْتَالَتْهُم (أضللتهم. واجتال القوم: حولهم عن قصدهم، واجتال الماشية: ساقها وذهب بها. انظر المعجم الوسيط: مادة " جول ". جـ1. ص154) عن دينهم، وحَرَّمت عليهم ما أحلَلْتُ لهم وأمَرَتْهُم أن يُشركوا بِي مَا لَمْ أَنَزِّل به سُلطانًا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمَقَتَهُم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهْلِ الكِتَابِ...» (مسلم: صحيحه. كتاب الجنة، وصفة نعيمها وأهلها. باب الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار، ص1148 ، 1149. رقم 2865 . من حديث عياض بن حمار المجاشعي). وفى الحديث إشارة إلى تعدد مظاهر الشرك، ونَبْذ الشريعة، واختلال الفطرة وفساد كثير من المصلحين، وممالأتهم لقومهم (د. على محمد الصلابي: السيرة النبوية. جـ1. ص 19. ط1. 1422 هـ / 2001 م. دار التوزيع والنشر الإسلامية – القاهرة).

وأمَّا ما جاء فى سورة الكهف، فى قصة موسى عليه السلام مع الخضر الذي قتل الغلام، فلا يعني هذا أن كُفر هذا الغلام كان موجودًا حين وُلِدَ. وقد جاء فى الحديث: «وأما الغلام فطُبِع يوم طُبِع كافرًا، وكان أبواه قد عَطَفا عليه، فلو أنه أدْرَك أرهقهما طغيانًا وكفرًا» (مسلم: صحيحه. كتاب الفضائل. باب من  فضائل الخضر، ص 969. رقم 2380. من حديث أبىّ بن كعب)، فقوله «طبع» أى طبع فى الكتاب، بمعنى: قدر وقضى، فهو مولـود على الفطرة السليمة، لكن يتغير بعدئـذٍ فيكفر، كما وُلدت البهيمة جمعاء، وقـد سبق فى علمه سبحانه وتعالى أنّها تُجدع، أي كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة، وهذا يبين أن الكفر طرأ بعد ذلك (أ. محمد سليمان: من مشكاة النبوة. مقال بمجلة البيان، العدد 17. ص21، 22. ط1409هـ. لندن.  وقارن: د. أحمد عبد الرحيم السائح: بحوث فى مقارنة الأديان. ص102).

ومما ينبغي معرفته فى ذلك أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يُولد على الفطرة» ليس المراد أنه خرج من بطن أمه، وهو يعلم هذا الدين ويعرفه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]، لكن المراد أن فطرته مُوجبة ومقتضية لمعرفة الحق، ومحبة الخير ونشدانه، ثم تحدث موجبات الفطرة بعد ذلك حسب استعداد الطفل، إذا سلمت الفطرة من المعارض (د. محمد السيد الجليند: قضية الخير والشر فى الفكر الإسلامى. ص235). فالفطرة الطبيعية تتجلى فى الطفل صريحة، دون تكلف أو تصنع (د. على عبد العظيم: إن الدين عند الله الإسلام. ص25. ط1402هـ/ 1982م. مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة).

ونَخْلُص من ذلك أن الخِصّيصة الرئيسة للعقيدة الإسلامية هي أنها عقيدة الفطرة السليمة التى فطر الله تعالى الناس عليها؛ إذ لما دعا الإسلام البشر جميعًا إلى الإيمان بالله والعبودية له وحده كان لهذه العقيدة صدًى فى أعماق فطرة الإنسان (د. السيد رزق الطويل: العقيدة فى الإسلام. ص87. ط1400هـ / 1980م. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - القاهرة. وكذلك: د. السيد أحمد فرج: مقال فى الإنسان والتوحيد. 109. ط1. 1414هـ / 1993م. دار الوفاء – المنصورة).

وكل أمر شرعي يرد فى ذهنك أنه يخالف الفطرة، فهذا الأمر لا يخلو من احتمالين:

1- إمَّا أنه أمر شرعى، وبالتالي تكون مخالفته للفطرة وَهْم.

2- أو أنه يخالف الفطرة، لكنه لا يكون أمرًا شرعيًا، وإن نسبه البعض إلى الشرع (أ. أنورالجندي: حقائق مضيئة فى وجه شبهات مُثَارة. ص3، 4 بتصرف، ط1. 1410هـ / 1989م. دار الصحوة - القاهرة). فالإسلام دين الفطرة دون مراء، فهو الدين الذي يتلائم كل الملائمة مع الخليقة، ومن هنا صح لنا ولغيرنا أن نسميه دين البشرية، وما كان الإسلام ليُسمَّى دين البشرية اندفاعًا أو تحمُّسًا، إنما سُمِّي بذلك لِمَا جاء به من دستور يقبله العقل، وهداية يستنير بها القلب، وتطور يصلح لكل زمان ومكان، وشريعة تنظم أحوال المجتمع ومساواة تربط جميع الناس، وتأمين للنفس البشرية يجعلها تطمئن إلى حياة أخرى؛ ولأنه أقرب إلى طبيعة النفس البشرية، وهو صمَام أمان يبعث فى النفس الطمأنينة إذا سَاوَرَتْها الشكوك (د. مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب. ص39. ط1397هـ / 1977م. البابى الحلبى - القاهرة). وهو يحافظ على الفطرة التى خلق بها الإنسان (ولفطرية الدين فقد ذكر العلماء أن في الطبع الإنساني جوع إلى الاعتقاد، كجوع المعدة إلى الطعام ، بل إن العقيدة الدينية حاجة نفسيـــة مسيطرة على عقل المرء وشعوره ووجدانه، إذ هي مشبعة لميوله الغريزية والعقلية. (انظر:  د. محمد سيد طنطاوي هذا هو الإسلام. جـ1. ص28 ، 29. ط2. 1427هـ / 2006م. مجمع البحوث الإسلامية -القاهرة). وفي فطرة الإنسان فراغ لا يملأه إلا الدين والإيمان (د. يوسف القرضاوي: الخصائص العامة في الإسلام. ص11. ط1397هـ / 1977م. مكتبة وهبة – القاهرة).
وهو طِلْبَةُ الروح، وأثبت الديانات على التوحيد وأحفظها للتنزيه، وأبعدها عن الشرك والتحريف؛ إذ لم تَشُبْ تاريخه من مبدئه شائبة الإشراك (د. السيد محمود المنوفي: الدين والفلسفة والعلم. ص140.د. ت. دار الكتب الحديثة - القاهرة).

ولا بُدَّ لنا من أن نتبين الفرق بين الفطرة والتقليد، فالتقليد نوع من التبعية للآخرين. أما الفطرة، فهي نور موثوق به، فى داخل الإنسان، يحتوي على ضمان أحقيته فى ذاته. وكل الأدلة الخارجية كونية أو عقلية، إنما هي منبهات على هذه الفطرة. ولا يصرف الإنسان عن عقيدة الفطرة إلا أهواء غالبة، أو ميل إلى تقليد الآباء والأجداد. وقد جاءت الرسل لتحويل الناس عن عبادة المخلوقات إلى عبادة الخالق تعالى. والكون بما فيه من نظام وإبداع ليس هو وحده الشاهد على عظمة الحق تعالى، وإنما هناك شاهد آخر هو الشعور المغروس فى النفس الإنسانية، وهو شعور فطري، فطر الله تعالى الناس عليه، وهو المُعَبَّر عنه بالغريزة الدينية (د. أحمد عبد الرحيم السايح: بحوث فى مقارنة الأديان. ص111. وقارن: د. عبد الفتاح أبوزايدة: الإيمان وحقيقة العبادة فى الإسلام. ص 42. ط2. 1998م. منشورات صحيفة الدعوة الإسلامية - طرابلس).
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام