اتقوا الله واعدلوا بين أبنائِكم

محمد صالح المنجد

كما أن الله قد أوصى الأبناء ببرّ الآباء وجعل حقّهم عظيماً عليهم وقرنه بحقّه وتوحيده سبحانه فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء من الآية:36]؛ فكذلك جعل على الآباء حقوقا للأبناء مثل التربية والنفقة والعدل بينهم...

  • التصنيفات: تربية الأبناء في الإسلام -


الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:

روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني نحلت ابني هذا غلاماً -أي وهبته عبداً كان عندي-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أكلَّ ولدك نحلته مثله؟» فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فأرجعه» (رواه البخاري أنظر الفتح [5/211]). وفي رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»، قال فرجع فرد عطيته (الفتح [5/211])، وفي رواية: «فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور» (صحيح مسلم [3/1243]).

هذا الحديث يدلّ على أمر مهمّ من العدل الذي أمر الله به، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل من الآية:90]، ألا وهو العدل بين الأولاد.

وكما أن الله قد أوصى الأبناء ببرّ الآباء وجعل حقّهم عظيماً عليهم وقرنه بحقّه وتوحيده سبحانه فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء من الآية:36]؛ فكذلك جعل على الآباء حقوقا للأبناء مثل التربية والنفقة والعدل بينهم.

وَفي حديث النعمان رضي الله عنه إشَارَةٌ إلَى الْعَدْلِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي النِّحْلَةِ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ فِي التَّسْوِيَةِ تَأْلِيفَ الْقُلُوبِ وَالتَّفْضِيلُ يُورِثُ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُمْ" (بدائع الصنائع: ج6 - فصل في شرائط ركن الهبة).

ولأنّ عدم العدل يُفضي إلى العقوق فيقول من حُرم أو نُقِص؛ أبي ظلمني وفضّل أخي عليّ، ونحو ذلك.. فيتسلل إلى نفسه شيء من الكراهية لأبيه، ومن الناحية الأخرى يزرع الشيطان بذور الشحناء بينه وبين أخيه الآخر الذي أُعطي أكثر منه. وقد جاءت الشّريعة بسدّ كلّ طريق يوصل إلى الحقد والشَّحْنَاءُ والعداوة والبغضاء بين المسلمين عموماً فكيف بالأخ تجاه أخيه وشقيقه.

وقد فهم بعض العلماء أنّ العدل بين الأولاد لَا يَخْتَصُّ بِالْعَطِيَّةِ بَلْ مِثْلُهَا التَّوَدُّدُ فِي الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ وقَالَ الدَّمِيرِيُّ رحمه الله: "لَا خِلَافَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ أَيْ الْأَوْلَادِ مَطْلُوبَةٌ حَتَّى فِي التَّقْبِيلِ" انتهى. وكان بعض السّلف يحرص على التسوية بين أولاده حتى في القُبُلات.

إن من الظواهر الاجتماعية السيئة الموجودة في بعض الأُسَر عدم العدل بين الأولاد فيعمد بعض الآباء أو الأمهات إلى تخصيص بعض أولادهم بهبات وأعطيات دون الآخرين، وهذا على الراجح عمل محرّم إذا لم يكن له مسوّغ شرعي؛ كأن تقوم حاجة بأحد الأولاد لم تقم بالآخرين كمرض أو دين عليه أو مكافأة له على حفظه للقرآن مثلاً، أو أنه لا يجد عملاً، أو صاحب أسرة كبيرة أو طالب علم متفرِّغ ونحو ذلك. وعلى الوالد أن ينوي إذا أعطى أحداً من أولاده لسبب شرعي أنه لو قام بولد آخر مثل حاجة الذي أعطاه أنه سيُعطيه كما أعطى الأول.

وَإِنْ سَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، أَوْ فَضَّلَهَا عَلَيْهِ، أَوْ فَضَّلَ بَعْضَ الْبَنِينَ أوْ بَعْضَ الْبَنَاتِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِالْوَقْفِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: "إنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْأَثَرَةِ فَأَكْرَهُهُ -أي التفضيل دون سبب شرعي-، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَهُ عِيَالٌ وَبِهِ حَاجَةٌ يَعْنِي فَلَا بَأْسَ بِهِ". وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: لَوْ خَصَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَوْلَادِهِ بِوَقْفِهِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، أَوْ ذَا الدِّينِ دُونَ الْفُسَّاقِ، أَوْ الْمَرِيضِ. فَلَا بَأْسَ" (الموسوعة الفقهية: تسوية).

ونقل الكاساني رحمه الله عن بعض الفقهاء: "لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُتَأَدِّبِينَ وَالْمُتَفَقِّهِينَ دُونَ الْفَسَقَةِ الْفَجَرَةِ". وقيّد البجيرمي رحمه الله الإعطاء بما إذا لم يكن الولد يَصْرِفُ مَا يَدْفَعُهُ لَهُ -أي أبوه- فِي الْمَعَاصِي.

وهل يُعطي الذكور مثل الإناث أم يعطي الأنثى نصف ما يُعطي الذّكر؟

ذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى إلى: "أنه يُعطي الذكر مثل حظ الأنثيين كالميراث" (مسائل الإمام أحمد لأبي داود [204])، وقد حقق الإمام ابن القيم في حاشيته على أبي داود المسألة تحقيقاً بيِّناً ونصر القول بذلك. قَالَ مُحَمَّدٌ: "الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ فِي الْمَوَارِيثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ".

والناظر في أحوال بعض الأُسَر يجد من الآباء من لا يخاف الله في تفضيل بعض أولاده بأعطيات فيوغر صدور بعضهم على بعض ويزرع بينهم العداوة والبغضاء. وقد يعطي واحداً لأنه يشبه أعمامه ويحرِم الآخر لأنه فيه شبها من أخواله أو يعطي أولاد إحدى زوجتيه مالاً يعطي أولاد الأخرى وربما أدخل أولاد إحداهما مدارس خاصة دون أولاد الأخرى، أين هؤلاء من قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة من الآية:11]، وعمه هذا سيرتد عليه فإن المحروم في كثير من الأحيان لا يبر بأبيه مستقبلاً وقد قال عليه الصلاة والسلام لمن فاضل بين أولاده في العطية: «أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء..» (من حديثٍ رواه الإمام أحمد [4/269]، وهو في صحيح مسلم رقم [1623]).

وقال بعض السلف: "إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ كَمَا أَنَّ لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ أَنْ يَبَرُّوكَ".

ومن وجوه عدم العدل بين الأولاد كذلك الوصية لبعض الأولاد أو زيادتهم فوق نصيبهم الشرعي أو حرمان بعضهم، وتعمد بعض النساء إلى الوصية بذهبها لبناتها دون أبنائها مع أنه جزء من التركة أو توصي بشيء وهبه لها بعض أولادها بأن يرجع إليه بعد مماتها إحساناً إليه بزعمها كما أحسن إليها، وهذا كله لا يجوز فإنه لا وصية لوارث، وكذلك فإن ما دخل في مُلك الأم أو الأب ومات عنه فهو لجميع الورثة حسب أنصبتهم التي فرضها الله تعالى.

وعلى كلّ من الأبوين أن يذكّر الآخر إذا لم يعدل ويقف الموقف الحازم حتى يتحقّق العدل ومن ذلك المطالبة بردّ الأمر إلى أهل العلم كما تدلّ على ذلك الرواية التالية لحديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: "تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ» (رواه مسلم رقم [1623]).

وقد استحبّ عدد من أهل العلم أن يعدل الأخ الكبير بين إخوانه إذا أعطاهم لأنّ موقعه بينهم قريب من موقع الأب (حاشية البجيرمي ج3، كتاب الهبة)، وكذلك يعدل الجدّ في أعطياته لأحفاده وكذلك العمّ في أعطياته لأولاد أخيه. وهكذا.

قال صاحب المنهج: (وَكُرِهَ) لِمُعْطٍ (تَفْضِيلٌ فِي عَطِيَّةِ بَعْضِهِ) مِنْ فَرْعٍ أَوْ أَصْلٍ وَإِنْ بَعُدَ سَوَاءٌ الذَّكَرُ وَغَيْرُهُ لِئَلَّا يُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى الْعُقُوقِ وَالشَّحْنَاءِ وَلِلنَّهْيِ عَنْهُ وَالْأَمْرِ بِتَرْكِهِ.

وإذا تنبّه الأب إلى أنّ أعطيته لبعض أولاده مخالفة للحديث المذكور فإنّه بين أمرين إمّا أن يزيد الآخرين أو يُعطيهم مثلما أعطى غيرهم أو يستردّ أعطيته ممن زاده أو خصّّه بشيء دون سبب شرعي ولا يُعتبر في هذه الحالة داخلا في النهي عن استرداد العطية وتشبيه الفاعل بالكلب يعود في قيئه وذلك لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ)، وتصحيح الخطأ وردّ الأمور إلى نصابها مما يُحمد عليه الأب.

فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّةٍ، أَوْ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِيهَا أَثِمَ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا رَدُّ مَا فَضَّلَ بِهِ الْبَعْضَ، وَإِمَّا إتْمَامُ نَصِيبِ الْآخَرِ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: "وَهَبَنِي أَبِي هِبَةً، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ رضي الله عنها: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ أُمَّ هَذَا أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَك عَلَى الَّذِي وَهَبْت لِابْنِهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا بَشِيرُ أَلَك وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «كُلُّهُمْ وَهَبْت لَهُ مِثْلَ هَذَا؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَأَرْجِعْهُ».

فإن كان (أي الولد) عَاصِيًا بِحَيْثُ يَصْرِفُ مَا يُعْطِيهِ لَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ فَإِنْ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ طَرِيقًا فِي ظَنِّهِ إلَى كَفِّهِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ كَانَ وَاجِبًا ثم نقل: وَيُكْرَهُ لَهُ الرُّجُوعُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَإِنْ وُجِدَ لِكَوْنِ الْوَلَدِ عَاقًّا أَوْ يَصْرِفُهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَنْذَرَهُ بِهِ فَإِنْ أَصَرَّ لَمْ يُكْرَهْ (أي رجوع الأب في الهبة).

ومما ينبغي التنبيه عليه أيضاً أن العدل بين الأولاد يُراعى فيه تفاوت حاجاتهم؛ فمصروف الولد الجامعي ليس مثل الولد في الصفّ الأول، ولعبة الولد ذي السنتين ليست كلعبة الولد ذي الثمان والعشر، والبنت تُزيّن بذهب لا يجوز للذّكر لبسه وهكذا...، والخلاصة أنّه يعطي كلّ ولد ما يحتاجه فإن تساووا في الحاجة والحال ساوى بينهم في الأعطيات على النحو المتقدّم.

والله تعالى أعلم.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا البرّ بآبائنا والعدل في أولادنا واثبات على ديننا وصلى الله على نبينا محمد.