وعظ القلوب بكلام علام الغيوب

ملفات متنوعة

  • التصنيفات: تزكية النفس -
سليمان بنعبد الكريمالمفرج

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:


لا بد أن تكون الموعظة مصاحبة للقلب الذي يتقلب بين حين وآخر، ولا بد للمؤمنأن يوطن نفسه على حضور مجالس الوعظ ففي ذلك ثبات له بإذن الله وإغاظةللشيطان الذي هو قريب من الواحد بعيد عن الجماعة، وقلوب العباد بين إصبعينمن أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء كما أخبر النبي بل قال: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».

 

  فإذا كان رسول الله لا يأمن على نفسه فكيفبنا نحن خاصة مع تلاطم أمواج الفتن في هذا الزمان، وإن القرآن الكريم منأكبر المواعظ الذي توعظ بها القلوب كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَاالنَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِيالصُّدُورِ } [يونس:57]، ولقد كان رسول الله يجلس مع أصحابه ليعظهمويذكّرهم ويرغّبهم ويرهّبهم بهذا القرآن العظيم، قال أبو هريرة رضي اللهعنه: قلنا يا رسول الله، ما لنا إذا كنا عندك رقّت قلوبنا وزهدنا فيالدنيا وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك وآنسنا أهلنا وأولادناأنكرنا أنفسنا ولهونا؟ فقال رسول الله : «لو أنكم إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم ذلكم لزارتكم الملائكة في بيوتكم»

 

قرآن يرقق القلوببل يرقق الحجر، قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْخَشْيَةِ اللّهِ} [البقرة:74]. وقال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]

 

يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن وفضلهوجلاله، وأنه لو خوطب به صم الجبال لتصدّعت من خشية الله. فهذه حال الجبالوهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال الله ربّهاوعظمته وخشيته. فيا عجباً من مضغة لحم كانت أقسى من هذه الجبال تخاف منسطوة الجبار وبطشه، فلاترعوي ولا ترتدع، وتسمع آيات الله تتلى عليها فلا تلين ولا تخشع ولا تنيب، فليسبمستنكر على الله عز وجل، ولا يخالف حكمته أن يخلق لها ناراً تذيبها إذالم تلن بكلامهوزواجره ومواعظه، فمنلم يلن قلبه لله في هذه الدار، ولم ينب إليه ولم يذبه بحبه والبكاء منخشيته، فليتمتع قليلاً، فإن أمامه الملين الأعظم، وسيردّ إلى عالم الغيبوالشهادة فيرى ويعلم.


فيا أيها الغافل عن تدبّر القرآن! إلى متى هذه الغفلة؟ قل لي وتكلم، حنانيك بادر بصالح الأعمال قبل أن تندم.

شكــوت إلى الله القلوب التي قست            وران عليها كســب تلك المآثم

*********

من خشية المولى هوى الجبل الذي              بالطـــور لانت قسوة الأحجار
أولم يئن وقـــــــت الخشـــــــوع فلا            تغـــــــرن الحياة سوى مغرار

ورقة القلب تنشأ عن الذكر والقرآن لأن ذلك يوجب خشوع القلب وصلاحه ورقته ويذهببالغفلة عنه قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَاذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} [الحج:35،34]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]

بذكر الله ترتاح القلوب              ودنيانا بذكراه تطيب

ولكن لم يتعظ بهذه الموعظة إلا القليل من الناس الذين رقت قلوبهم للقرآنواستجابوا لنداء الرحمن كما أخبر تعالى بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىلِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]


لقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يجتهدون في قراءةالقرآن لا سيما في رمضان لأنهم يعلمون أن شهر رمضان هو شهر القرآن، كانوا يغلقون كتبالعلم، ويتفرغون لهذا المنبع العظيم يروون به عطش قلوبهم، قدوتهم في ذلكنبي الرحمة فقد كان يدارسه جبريل القرآن في رمضان، وكان لأصحابه مثالايحتذي في قراءته، فهذا عثمان بن عفان يختم القرآن كل يوم مرة.


وكان بعضهم يختمه في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم كل سبع، وبعضهم كل سبع، وبعضهم كل عشر، وكان للشافعي في رمضان ستونختمه يقرؤها في غير الصلاة، ولأبي حنيفة نحوه، وكان أحمد بن حنبل إمام أهل السنة يختمالقرآن كل أسبوع، وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان ويختم في كل سبعدائماً، وفي رمضان كل ثلاث وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وكان الزهري إذادخل رمضان قال: رمضان هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.


قال ابنالحكيم: كان مالك بن أنس إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث ومجالسة أهلالعلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف وكان لا يتشاغل إلا بالقرآنويعتزل التدريسوالفتيا والجلوس للناس ويقول: هذا شهر القرآن.  


وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العباد وترك بعض العبادات وأقبل على قراءة القرآن.


وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت.


كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه وكان بعضهم يختمفي كل يوم وليلة ختمة، وبعضهم يختم في اليوم والليلة ثلاث ختمات، فاللهأكبر، كانوا يفتحون المصاحف ويحلون ويرتحلون مع القرآن الكريم، كانلبيوتهم دوي كدوي النحل تشع نوراً وتملأ سعادة، وكانوا يرتلونه ترتيلاًويقفون عند عجائبه ويبكون من عظاته ويفرحون بشاراته ويأمرون بأمره وينتهونبنهيه .


فهذه حال السلف الصالح، يدمنون تلاوة القرآن في شهر رمضان فيالصلاة وغيرها، إذاً فتلاوة القرآن مطلوبة في كل وقت ولا سيما في هذاالشهر .


فهذه حال القوم، فمن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من النوافل كثرة تلاوة القرآن واستماعه بتفكر وتدبر وتفهم.


قال خبّاب بن الأرت رحمه الله لرجل: تقرب إلى الله تعالى ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه.


وقال عثمان بن عفان: من أحب القرآن أحب الله ورسوله، فمن أحب شيئاً أكثر منذكره، ولا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم وغايةمطلوبهم، كما قال بعض السلف: ( إذا أردت أن تعرف قدرك عند الله فانظر إلىقدر القرآن عندك(


وكان بعضهم يكثر من تلاوة القرآن ثم اشتغل عنه بغيره فرأى في المنام قائلاً يقول له:

إن كـنـت تــزعـــم حـبي            فلــم جـفــــوت كتابــي؟
أما تأملت ما فيه من عير            وما فيه من لذيذ خطابي

ولم يكونوا يقرؤونه ليقال إنهم يقرؤونهولا يهذّونه هذّالشعر كما الناس يفعلون، وإنما كانوا يتدبرون معانيه ويتأثرون بألفاظهفيحركون به قلوبهم ويرسلون به مدامعهم يتأملون عبره ويعيشون أنداءهويسرحون طرف أفئدتهم في خمائله ويطلقون أكف الحب في كنوزه.

وليس الذي يجري في العين ماؤها              ولكنها روح تسيل فتقطُرُ

ويستحب البكاء عند تلاوة القرآن، وهو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين، قالالله تعالى في وصف الخاشعين من عباده عند تلاوة كتابه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]

سـمعتك يا قــرآن والليل غافــل             سريت تهز القلب سبحان من أسرى
فتحنا بك الدنيا فأشرق صبحهــا                وطفـــنا ربــوع الكــون نملؤها أجرا

وقد كان صحابة رسول الله يتلون كتاب الله ويتأثرونبآياته فتلين جلودهم، وتدمع عيونهم وتخشع قلوبهم، فيرفعون أكفهم إلى ربهم ضارعينيسألونه قبول الأعمال ويرجونه غفران الزلات، ويتشوقون الى ما عنده منالنعيم المقيم.


روي أن أبا بكر ابتنى مسجداً بفناء داره فكان يصليفيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يتعجبون منهوينظرون إليه، وكان رجلاً بكّاءً لا يملك دموعه إذا قرأ.. وكان عمر بنالخطاب يصلي بالناس فبكى في قراءته حتى انقطعت قراءته وسمع نحيبه من وراءثلاثة صفوف.


وكان عمر أيضاً إذا اجتمع الصحابة قال: يا أبا موسى ذكّرنا ربنا، فيندفع أبو موسى يقرأ بصوته الجميل وهم يبكون.

وإني ليبكيني سماع كلامه               فكيف بعيني لو رأت شخصه بدا
تلا ذكر مولاه فحنّ حنينه                وشــــوق قلــوب العارفين تجددا

وللأسف لما أفسدت أمزجة المتأخرين عن سماع كلام رب العالمين، ظهرت التربية معوجة والفطرة منكوسة،والإفهام سقيمة .


ولما استبدل القرآن الكريم بغيره حل الفساد، وكثر البلاء، واضطربت المفاهيم وفشلت العزائم.
أسأل الله أن يهدينا ويصلح أحوالنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

المصدر: موقع كلمات - دار الوطن