أمريكا والأسرى

سليمان بن ناصر العلوان

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذاً أَبَداً فهاهي أمريكا العدوة اللدود للإنسانية، لا سيما المسلمين، الذين تكيل لهم العِدا جُزافاً، وتصفهم بالإرهاب والتطرف والعنف. كيف لا، وقد عقدوا المؤتمرات وأنشؤا المؤسسات لمكافحة الإسلام، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}، {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، وهي أحق بهذه الصفات، شهد على ذلك الواقع والتجارب، إن تاريخ الولايات المتحدة ملئ بالهمجية والعنف والشراسة؛

 

فنفوس ساستها - من جمهوريين وديمقراطيين- نفوس شريرة وطبائعهم طبائع شيطانية، وأفعالهم أفعال وحشية، وأقوالهم أقوال تنبر بالكيد والـحَنَق لكل من لا يسير على مرادهم وخطّهم، والويل لمن لا يرى طريقهم، ولا ينظم لسلكهم، فلا الحوار ينفع معهم، ولا العقلانية تجدي بهم، ولا الحكمة يسيرون عليها. كيف لا، وهم الذين رسموا منهج من لم يكن معنا فهو ضدنا ! إنهم يصادرون الحريات والفكر والآراء، ويرتمون الظلم والقتل والتشريد.. فهذه حياتهم، وهذه مهنتهم، وهذا همّهم الأكبر، ومطلبهم الأعلى. وقد كشف لنا ذلك القرآن الكريم، وبين سياستهم تجاهنا، ومدى حنقهم علينا {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ}


إن أمريكا أسست على القتل والتشريد فكم من الأنفس التي أزهقت؟ وكم من الهنود الحمر والسود الذين سفكت دماءَهم، وانتهكت أعراضهم، لتأسيس الولايات المتحدة ! وكم من الثروات التي انتهبت لإقامة العدل والديمقراطية على أرض الولايات المتحدة ! فالأيادي الأمريكية متلطخة بالدماء البريئة، فهم يعشقون سفك الدماء، ولا ينتجون إلا الشراسة والبذاءة، فهي قِوامُ سياستهم الرعناء، وهي من خططهم الاستراتيجية، لتعبيد البشرية لهم، وبلادهم خصبة لكل عنف وشرور وشراسة، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً، فأساس سياستهم التي بني عليها عرش الإدارة الأمريكية الاستعلاء على الخلق بغير حق، وأنهم هم صناع القرار.

 

  و إلا فما معنى تصريح المجرم الرئيس الأمريكي (بوش) بأن مجرم الحرب السفاح شارون رجل سلام ! ثم يصرح هذا المجرم بأن رئيس السلطة الفلسطينية (ياسر عرفات) -وهو على ما هو عليه من العمالة المخلصة للإدارة الأمريكية- لم يدن الإرهاب، وذلك حين قُتلت شرذمة من الصهاينة بسبب العمليات الاسشهادية، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فزعموا أن الدفاع عن النفس إجرام وتمرد، وحركة حماس الفلسطينية التي تدافع عن الأقصى الشريف إرهابية، ومن أمن العقوبة أساء الأدب.

ولكن نهاية الظالمين إلى اضمحلال، وعاقبتهم إلى سفال، فأين عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟


وأين ثمود الذين ينحتون الجبال بيوتاً؟


وأين فرعون ذو الطغيان والحنق، والذي قال تكبراً وغروراً {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى


وأين قارون التي تعجز الإبل عن حمل مفاتيح خزائنه؟


فبظلم يكون سقوط الدول، ونهاية الظالمين، والعاقبة للمتقين.


إن أمريكا بزعمها تتسم بالعدل والديمقراطية، وهي قد حازت على وِسَام الشرف -إن صح التعبير- في الظلم وقتل الأبرياء، وانتهاك الأعراض، وانتهاب الثروات المعصومة؛ فأموال المسلمين قد انتهبوها، وأخذوها طوعاً أو كرهاً، فلا يسألون عما يفعلون وهم يسألون!


وقد أخذ الاستعلاء من كثير من الساسة الأمريكان مأخذاً بعيداً، وتمكنت الهمجية والشراسة ومصادرة حريات الآخرين في جذر قلوبهم، ووصل بهم ازدراء الآخرين إلى هوة بعيدة، وتجاوزوا الحد الإنساني، وطغوا طغياناً كبيراً.. فهذه تصريحاتهم للعالم، يقول البيرت بيفردج، عضو مجلس الشيوخ الأسبق قبل عشرينيات القرن العشرين يقول: (يجب أن نملك التجارة العالمية، وسوف نمتلكها، وهذا ما يحقق المصلحة لسوانا؛ فحضارتنا الأمريكية يجب أن تضرب جذورها في كل مكان لا يزال أهله يعيشون في ظلام دامس).

 

  ويقول هنري لوك، أحد أقطاب صناعة الإعلام الأمريكي( يجب أن يصبح القرن الميلادي العشرون قرناً أمريكياً).

 

  وغير ذلك من الكلام الاستعلائي، المؤشر على مدى تبنيهم للهدم، وعدم التعقل في الكلام، وأنهم يفعلون ما يريدون، وما يحقق مصالحهم، بغض النظر عن حقوق الآخرين، وبدون نظر إلى المصالح الكبرى، والمطالب العظمى، فهي تُريد أن تتفنن في كيفية القتل والتشريد، ولكن لا ترضى أن يفعل بها أحد ذلك، وهي تنهب الثروات بحجج واهية، ولكن من يريد مد يده على ثرواتها، فهو جانٍ على الاقتصاد العالمي، وهي تحاصر شعوباً كاملة ولكن هي لا معقب لحكمها.

إن الحضارة الغربية أسست على المجازر الدموية، والملاحم الوحشية، وقد أقر بذلك بعض عقلاء القوم، يقول اليهودي نعوم تشو مسكي إن هناك ما يكفي من الأدلة لاتهام كل الرؤساء الأمريكيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بأنهم مجرمو حرب. وقد وصف المؤرخ الشهير إرنولد توينبي الحضارة الغربية بأنها أكثر الحضارات إجراماً في التاريخ. وقال الإنجليزي جيف سيمونز في كتابه (التنكيل بالعراق): إنني أشعر بالعار المتسم بالعجز إزاء ما حكمت به حكومتي والمتواطئون معها في الإبادة الجماعية، أولئك المشلولون نفسياً.


وحينما وقعت الغزوة المباركة في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة عـام 1422هـ ( 11سبتمبر) شنت أمريكا حرباً شرسة على الإسلام والمسلمين تحت غطاء مكافحة الإرهاب، وأعلنتها حرباً صليبية، وأقبلت بخيلائها وكبريائها إلى أرض أفغانستان المسلمة تدك الجبال والفيافي، وتقتل الأبرياء ومن لا ذنب لهم، من النساء والأطفال والمستضعفين، بدون نظر إلى قانون أو دين أو إنسانية، فالقانون لديهم لا يشمل السياسة الأمريكية! ولا مكان له في ملفات الإدارة الأمريكية، فإن القانون في عرفهم واصطلاحهم اللئيم، هو الذي يخضع لمصالح الإدارة الأمريكية، وليس الإدارة الأمريكية هي التي تخضع له! فهي فوق القانون والعدالة.

 

إنها لا تعترف بقوانين مصطنعة، ولا أعراف دولية، وطبيعي عندها أن تلغي منهجاً كاملاً من القانون، ولكن بشرط أن ينفع مصالحها الشخصية، وأما غيرها من الرؤساء والحكام فويل لهم ثم ويل لهم حين يخلون بشطر بند من البنود القانونية، وجزاؤهم في ذلك أن يحاصروا أعواماً عديدة، وأزمنة مديدة.

إن من الطبيعي عند أمريكا أن تخرق سياج القوانين، ونظام هيئة الأمم المتحدة فالنظر إليهم في تصرفهم مع الأسرى في غوانتانامو معاملة لا إنسانية وتصرفات حيوانية بهيمية. إن معاملة أمريكا لكثير من الأسرى لا يقرها شرع منـزل، ولا عقل سليم، بل ولا قانون مختلق، وقد شجبت المنظمات الكافرة هذا العمل الإجرامي، فقد قامت كثير من الدول الكافرة، ومنظمات الكفار الحقوقية باستنكار معاملة أسرى (غوانتانامو) وأحوالهم المعيشية.


إن أسرى كوبا يلقون ألواناً من التعذيب والتشويه، والمعاملة اللإنسانية، فمن ذلك أنهم يتركونهم في مقاعدهم لأكثر من يوم ونصف بلا أي تحرك، ومن دون تمكينهم من استخدام دورات المياه، ومن خلال تصريحات المسؤلين الأمريكان أنهم لن يترددوا في استخدام أي وسيلة يتم من خلالها إهانة وتحطيم هؤلاء الأسرى، وإنه خلال مشاهدة الصور يتضح بجلاء أن هؤلاء الأسرى يتعرضون للضرب الشديد، بل وربما إلحاق الإصابات، ويؤكد هذا ما أعلنته الإدارة الأمريكية أن كثيراً منهم جرحى، ومما يؤكد التصرفات الهمجية للإدارة الأمريكية في شأن هؤلاء الأسرى، هذا التكتم الشديد عن وضع أخبارهم.

 


ومن خلال الصور للأسرى نعلم أن أمريكا لا تقيم أي وزن لمشاعر العالم كله ولا للإسلام الذي يجرّم مثل هذه الأفعال وينهى المسلمين عنها. إنهم بهذا الفعل الشنيع الغاشم خالفوا كل الأديان والقوانين، فإن من الواجبات القانونية المتفق عليها دولياً الاكتفاء بحجز الأسرى، أو وضعهم تحت المراقبة مع العناية بهم وبشرط أن يكون مكان الاحتجاز صحياً يراعى فيه ما يراعى في أماكن إقامة جيش الدولة الآسرة نفسها، وأيضاً يوجب القانون الدولي عدم تكبيل الأسرى إلا في حالة الهياج العصبي، وأما ربطه في التشريع الإسلامي فإنه أمر مؤقت حتى يتقرر مصيره والحرب في العصور السابقة كانت تنتهي عادة في فترة قصيرة، وأنه لو لم يفعل به ذلك لتمكن من الهروب بكل سهولة، وهذا أمر معروف، كما أن للأسير حق الدفاع عن نفسه أو بواسطة محام من أي دولة، وهذا هو المقرر في القوانين الدولية الحديثة. وقد نصت اتفاقية جنيف في (18/10/1368هـ) 12أغسطس (آب) سنة 1949م على أنه يحرم الاعتداء على الأسرى سواء في أشخاصهم أو شرفهم أو امتهانهم، ولذلك يحرم قتلهم مهما كانت الظروف، أو أخذهم كرهائن، أو عقابهم بلا محاكمة، أو توقيع عقوبة جماعية عليهم، أو وضعهم في السجون أو في أماكن غير صحية، أو تعريضهم لأعمال القصاص.


كما حددت اتفاقية جنيف سنة (1348هـ) 1929م، الخاصة بأسرى الحرب المعلومات التي يمكن أن تطلب من الأسير، وهي لا تزيد على أن يدلي باسمه ورتبته العسكرية ورقم تحقيق شخصيته في الجيش، وليس للعدو أن يستوجب الأسير بالقوة أو أن يحاول الحصول على معلومات تفيده، وإجبار الأسير على اعترافاته، لأن الاتفاقية الأولى، والثانية لعـام (1368هـ) 1949م، في مادتها رقم (12) والاتفاقية الثالثة في مادتها رقم (13) قد نصت جميعها على ضرورة المعاملة الإنسانية.


وكل هذه الاتفاقيات والعقود مهمشة في السياسة الأمريكية رغم التوقيع عليها بل ولها الدور الأكبر في صياغتها، والسبب في ذلك أنها لا تعرف إلا العنف والشراسة، ولا تعرف للرحمة والإنسانية طريقاً، ولذلك يقول جيمس باترسون في كتابه (يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة) أمريكا أكثر الدول عنفاً في العالم.

ونحن كمسلمين لنا شريعتنا، وهدينا الإلهي، فلا نحتفي ولا نفاخر بمثل هذه القوانين الوضعية، والاتفاقيات الطاغوتية، وقد جاءت الأحداث الأخيرة فرسخت مفهوم تفرد أمريكا بصنع القرار، ووفاة القوانين الدولية. هذا وإنه من خلال عرض هذه الاتفاقات الدولية الطاغوتية، نعرف فضيلة التشريع الإسلامي السماوي، في المعاملة الإنسانية الحقه التي لا يزعزعها شيء ما اختلف الليل والنهار، والتي لا تتصرف فيها الحماسة العشوائية، ولا النـزعات والمشاعر التي قد يغلب عليها الحقد ومشاعر الكراهية في وقت من الأوقات، وبالتالي لا ترى بأساً في تغيير تشريعها ورغباتها في الانتقام من العدو، ومن أجل إشباع هذه الغريزة، كما يحدث تماماً في الوقت الحالي من الولايات المتحدة، التي تتعامل مع الأسرى بقسوة لا هوادة فيها. فكانوا ضحية التنكيل والتعذيب والقتل والتشويه، تأسّياً بما هو السائد لدى إخوانهم من الروم والفرس واليهود.

إن موقف الإسلام من الأسرى قبل أربعة عشر قرناً موقف مثالي رائع قبل أن تأتي الاتفاقيات الوهمية الكافرة -التي مازالت غير نافذة إلى الآن على غالب الدول الكبرى-.


إن الشريعة الإسلامية حرّمت كل ما يخل بالقيم الإنسانية، في الحرب والسلم وفي المنشط والمكره، فتأمل تشريعها في حالة الأسرى فقد ضربت القدح المعلى في الرفق بالأسرى والرحمة بهم، والعناية بشأنهم، وقد قال الله تعالى في وصف عباده الأبرار {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يطلق سراحهم في بعض الأحيان، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سلماً، فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } روى ذلك الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه (1808) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه.

 

وجاء  عن أبي عزيز بن عمير أخي مصعب بن عمير قال: كنت في الأسرى يوم بدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالأسارى خيراً»، وكنت في نفر من الأنصار وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني الخبز بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (22/393) وفي الصغير (1/250) من طريق محمد بن إسحاق حدثني نبيه بن وهب، عن أبي عزيز بن عمير أخي مصعب بن عمير به. وقال الطبراني في الصغير ( لا يروى عن أبي عزيز بن عمير إلا بهذا الإسناد ، تفرد به محمد بن إسحاق ) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ، إسناده حسن .


وقد نص الفقهاء على أنه لا يجوز تعذيب الأسير بالجوع والعطش وغير ذلك من أنواع التعذيب لأن ذلك تعذيب ليس له فائدة.


وجاء في صحيح الإمام مسلم (1641) من طريق إسماعيل بن إبراهيم: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين: قال كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، قال: يا محمد. فأتاه فقال: «ما شأنك؟» فقال بم أخذتني وبم أخذت سابقة الحاج؟ فقال -إعظاماً لذلك-: «أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف». ثم انصرف عنه، فناداه فقال: يا محمد يا محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رقيقاً فرجع إليه: فقال: «ما شأنك ؟» قال: إني مسلم، قال: «لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح». ثم انصرف فناداه فقال: يا محمد يا محمد، فأتاه فقال: «ما شأنك ؟» قال إني جائع فأطعمني وظمآن فأسقني، قال: «هذه حاجتك».. ففدي بالرجلين.
قال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار (8/147) ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «هذه حاجتك»أي حاضرة يؤتى إليك بها الساعة.

فهذا دين الإسلام الحنيف، دين رحمة وعدل، وقد أمر بالعدل حتى مع أعداء الحق وخصومه، وضرب ديننا من المفاخر التي لا يمكن أن يتطاول إليها قانون دولي وضعي لا يزال حبراً على ورق! ولن تتسامى إليها في المستقبل قواعد دولية نافذة، ونبينا صلى الله عليه وسلم جاء بالرحمة والعدل والإحسان، والله تعالى قال عنه {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} وقد شهد بعض عقلاء الغرب على رحمة هذا الدين يقول جوستاف لوبون (ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم ولا أعدل من العرب)


ومن رحمة هذا الدين أن أمر الإسلام بفك الأسرى من أيدي أعدائهم، فإذا وقع أسير في يد العدو فيجب على المسلمين أن يبذلوا كل مجهود لتخليص أسيرهم إما بالقتال، فإن عجز المسلمون عن القتال، وجب عليهم الفداء بالمال، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكوا العاني -يعني الأسير- وأطعموا الجائع، وعودوا المريض» أخرجه البخاري (3046) من طريق منصور، عن أبي وائل، عن أبي موسى رضي الله عنه.


وجاء في صحيح البخاري (3047) عن مطرف أن عامراً حدثهم، عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي رضي الله عنه هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة قلت وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر.


وعن ابن عباس قال: قال عمر رضي الله عنه: "كل أسير كان في أيدي المشركين من المسلمين ففكاكه من بيت مال المسلمين" رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/497) وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف الحديث، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه أيضاً (6/496) قال حدثنا وكيع، قال : ثنا أسامة بن زيد، عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن قال: قال عمر: "لأن استنفذ رجلاً من المسلمين من أيدي الكفار أحب إلي من جزيرة العرب" وهذا فيه انقطاع.


وقد عملت أيدي جماعة من حكام المسلمين، أعظم البطولات في تخليص الأسرى وكف الأيادي المعتدية عليهم، فهذا الحكم بن هشام أمير الأندلس لما سمع أن امرأة مسلمة أخذت سبية، فنادت: واغوثاه يا حكم، فعظم الأمر عليه، وجمع عسكره، واستعد وحشد وسار إلى بلد الفرنج سنة ست وتسعين ومائة، وأثخن في بلادهم، وافتتح عدة حصون، وخرب البلاد ونهبها وقتل الرجال وسبى النساء، وغنم الأموال، وقصد الناحية التي كانت بها تلك المرأة، حتى خلصها من الأسر، ثم عاد إلى قرطبة مظفراً.


ولما رجع المنصور بن أبي عامر من إحدى غزواته في شمال الأندلس قابلته امرأة مسلمة على أبواب قرطبة، وقالت له: إن ابني أسير عند النصارى، ويجب عليك أن تفديه أو تأتي به، فما دخل المنصور قرطبة، بل عاد بجيشه حتى فك هذا الأسير.

وتاريخ المسلمين الصادقين، مليء بهذه المفاخر العظيمة؛ إنه الصدق والوفاء، والبر والإخاء.. عزائم مخلصة، وحكامٌ أفذاذ يعملون لشعوبهم ولو على حساب زوال ملكهم ويعيشون نكبات أمتهم، ويريبهم ما يريب أمتهم وشعوبهم، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. ووجوب فك الأسرى من الأمور الظاهرة في الشريعة الإسلامية، وقد تواترت بذلك الأدلة، واتفق على ذلك الأئمة، وأجمع على ذلك المسلمون.


قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله في مراتب الإجماع (122) واتفقوا أنه إن لم يُقْدَر على فك المسلم إلا بمال يعطاه أهل الحرب، أن إعطاءهم ذلك المال حتى يفك ذلك الأسير واجب.


وروى سعيد بن منصور في سننه (2822) عن ابن عياش، عن عبد الرحمن بن أنعم ( وفيه ضعف ) عن المغيرة بن سلمة، عن عبد الرحمن بن أبى عمرة قال: لما بعثه عمر بن عبد العزيز بفداء أسارى المسلمين من القسطنطينية قلت له: أرأيت يا أمير المؤمنين إن أبوا أن يفادوا الرجل بالرجل كيف أصنع؟ قال عمر: زدهم، قلت إن أبوا أن يعطوا الرجل بالاثنين؟ قال فأعطهم ثلاثاً، قلت فإن أبوا إلا أربعاً؟ قال: فأعطهم لكل مسلم ما سألوك فوالله لرجل من المسلمين أحب إلى من كل مشرك عندي! إنك ما فديت به المسلم فقد ظفرت، إنك إنما تشتري الإسلام.. ثم قال مبعوث عمر في فداء الأسرى: فصالحت عظيم الروم على كل رجل من المسلمين رجلين من الروم.


وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال (166): "فأما المسلمون فإن ذراريهم ونساءهم مثل رجالهم في الفداء، يحق على الإمام والمسلمين فكاكهم واستنقاذهم من أيدي المشركين، بكل وجه وجدوا إليه سبيلاً، إن كان ذلك برجال أو مال، وهو شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين والأنصار.

مذاهب العلماء في ذلك.

قول الأحناف
قال الكمال بن الهمام: "إن إنقاذ الأسير واجب على الكل من المشرق، والمغرب" حاشية ابن عابدين (4/126)

قول المالكية
قال ابن العربي في أحكام القرآن (2/887): "إلا أن يكونوا أسرى مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة بالبدن بأن لا يبقى منا عين تطرف حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء: فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والقدرة والعدد والقوة والجلد".


وقال القرطبي رحمه الله في الجامع لأحكام القرآن (2/22): "ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن، فتظاهر بعضنا على بعض! ليت بالمسلمين، بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ! قال علماؤنا فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد. قال ابن خويز منداد: تضمنت الآية وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسارى، وأمر بفكهم وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع، ويجب فك الأسارى من بيت المال، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين.

قول الشافعية
قال في مغني المحتاج (4/26 ( "حمل البلقيني استحباب فك الأسرى على ما إذا لم يعاقبوا فإن عوقبوا وجب، وحمل الغَزِّي الاستحباب على الآحاد، والوجوب على الإمام وهذا أولى..". والصحيح أنه واجب مع القدرة مطلقاً، وحكى غير واحد الإجماع على هذا.

قول الحنابلة
قال ابن قدامة في المغني (10/498): "ويجب فداء أسرى المسلمين إذا أمكن، وبهذا قال عمر بن عبد العزيز ومالك وإسحاق.


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى (28/635): "فكاك الأسرى من أعظم الواجبات وبذل المال الموقوف وغيره من أعظم القربات..".


وهذا واجب الدول والجماعات والأفراد، كلٌ على قدر طاقته ، فهذا بماله من الصدقات والزكوات، وهذا بجاهه، وذاك بقوته وسلطانه، ولا يعذر أحد بالتخلف عن مناصرة هؤلاء الأسرى، فهذا ما تفترضه الأخوة الإيمانية، والعقيدة الإسلامية، والطبيعة الإنسانية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة» متفق عليه من طريق الليث عن عقيل، عن بن شهاب، أن سالماً أخبره أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله قال، فـذكـره.

إن الإسلام في تخليص الأسرى شيء، واتجاهات الناس في ذلك شيء آخر، ولا ريب أن ذلك يسيء للإسلام، وقد يوقف زحفه، وحقيقة إنه لا أقل إيماناً، ممن علم بمشروعية مناصرة الأسرى، وضنَّ عليهم بالدعاء والقنوت، وأخبث من ذلك، من منع القنوت لهم وعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه، فقد كان يقنت للأسرى الذين في مكة،  قال أبو هريرة رضي الله عنه: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال : سمع الله لمن حمده، ثم قال قبل أن يسجد : «اللهم نجّ عياش بن أبي ربيعة، اللهم نجّ سلمة بن هشام اللهم نجّ الوليد بن الوليد، اللهم نجّ المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف» متفق عليه من طريق يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.


إن هؤلاء الأسرى خرجوا من ديارهم وأموالهم لنصرة إخوانهم والدفاع عن دينهم والذب عن أعراضهم، فكان لهم حق علينا أن نقف معهم في محنتهم، وأن نسترخص كل شيء في نصرتهم، وأي مصيبة أعظم من أن يقع مجاهد في سبيل الله تحت وطأة علوج النصارى الحاقدين، وبعض من هؤلاء على هزيع من المأساة الطويلة الشاقة، لقد نقلوا إلى هنالك بعد أن حلق هؤلاء الأراذل رؤوسهم ولحاهم وجردوهم من ملابسهم، وأوثقوهم من هامة رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم، وعصبوا عيونهم، ووضعوهم في أقفاصٍ حديدية لا يخرجون منها لقضاء حوائجهم في اليوم إلا مرة، وللتحقيق مرات عديدة، يخرجون وقد كبلوا اليدين والأرجل. يعيشون تحت حرارة شمس كوبا الشديدة، تعذيبهم متواصل في الليل والنهار، فهم في الليل تحت الأضواء الكاشفة، فمتى ينامون، وأنّى لهم أن يتلذذوا بطعام أو شراب وهم يعانون من التعذيب، نسأل الله أن ينصرهم ويحفظهم.

وبلا ريب أن العاقبة والدائرة لهم لا عليهم؛ {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ . إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ . أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}


وقد أجاد من قال


فلا عجب للأســد إن ظفــرت بـها          كلاب الأعادي من فصيح وأعجم
فحربة وحشي سقت حمزة الردى          وموت علي من حسام ابن ملجم

وفي الوقت الذي نحث فيه المسلمين على مناصرة أسراهم، وبذل أموالهم في تخليصهم، نحذر الحكومات العربية، والمنسوبين إلى الإسلام من التعاون مع الصليبيين في مطاردة المجاهدين، والقبض عليهم، وتسليمهم إلى رأس الكفر العالمي أمريكا، فهذا شأن المنافقين، وعمل الشياطين، ولا يختلف العلماء في المشرق والمغرب، أن هذا كفر بالله لاينفع معه صلاة ولا صيام، إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً.


قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه المحلى (12/33): صح أن قول الله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم} إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين".
وقد سمى الله ذلك كفراً ونفاقاً ومرضاً في القلوب وفسقاً ، قال الله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً . الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً} وقال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}


وقال تعالى: { تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ . وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}
قال الحافظ ابن جرير: "فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حُكْمُهُ حُكْمَه" [تفسير الطبري 1/400]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى (28/530): "كل من قفز إليهم (التتار) من أمراء العساكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم، وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما ارتد عنه من شرائع الإسلام، وإذا كان السلف يسمون مانعي الزكاة مرتدين، مع كونهم يصومون ويصلون، ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله، قاتلاً للمسلمين؟".


وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: الناقض الثامن من نواقض الإسلام، مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين.


وقد أضافت المرجئة، في كفر المظاهر، شرطاً زائداً على ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وقيدوا هذا الكفر بمحبة دين الكفار، أو الرضى بذلك، وهذا ليس بشيء، ولا يقوله أحد من أهل السنة، ولا يوجد في مصنفاتهم ولا تراه منقولاً عن أئمتهم فالأمة مجمعة على أن محبة دين الكفار أو الرضى بدينهم، كفر أكبر، دون مناصرتهم على المسلمين، فهذا مناط آخر في الكفر. قال تعالى{ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}


والويل لهؤلاء حين يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، وقد عبثوا بالأدلة الشرعية، وحرفوا النصوص القطعية، استجابة للمفسدين في الأرض، وموافقة لسياستهم الشيطانية.
المصدر: موقع "فكوا العاني"