مصر والفاشية الشعبية

هل أصبح المصريون فاشيين إلى هذه الدرجة المرعوبة التي تنذر بضياع السلام الاجتماعي والأمن القومي للبلاد لسنوات طويلة؟ ومن هو المسئول عن تفجر هذه الفاشية الشعبية بهذه الصورة التي أفقدت المصريين تسامحهم المعروف، ومزّقت النسيج الاجتماعي لمستويات خرق يستحيل رقعها في الوقت القريب؟

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


تخيلوا معي هذا المشهد الذي لا يمكن أن يصدق عقل حدوثه في واحدة من أكبر بلاد الإسلام والعروبة: مجموعة كبيرة من الجماهير الغاضبة في مدينة بورسعيد الساحلية تقوم باقتحام محل لبيع العطور اسمه "مؤمن" ويمتلكه أحد الشباب الملتحين المعروفين بعدم انتمائهم لأي حزب سياسي، وبعد اقتحام المحل وتخريب محتوياته قامت الجماهير بصورة هستيرية بتوثيق الشاب المسكين، ثم إحراق المحل والشاب بداخله حتى تفحّم المحل وصاحبه، ومن شدة تفحُّم جثة الشاب لم يستطع المشيعون وضعه في النعش، في مشهد جنوني لا يُقدِم عليه إلا من فقد عقله ودينه وقبل ذلك آدميته.

هذا الحدث لم يكن حدثاً استثنائياً لا يعول عليه، بل كان واحداً من سلسلة حوادث يومية من حوادث الاضطهاد الشعبي المحموم ضد أتباع التيار الإسلامي من الإخوان والسلفيين وكل من له سمت إسلامي، وذلك في أعقاب الانقلاب العسكري في 3 يوليو، وقد ارتفعت وتيرة هذا الاضطهاد الشعبي بعد خطاب التفويض المشئوم الذي ألقاه قائد الانقلاب في 24 يوليو والذي كان بمثابة الضوء الأخضر لمزيد من التصعيد الشعبي ضد أنصار التيار الإسلامي.

وبعد فض اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة والمجازر المروعة التي وقعت أثناء الفض والتي راح ضحيتها آلاف القتلى والجرحى، والمشاهد المروعة التي صاحبت عملية الفض، كان من الطبيعي جداً أن يستفيق كثير من المغيبين، ويدركوا حقيقة ما جرى في البلاد، بعد أن أسفر الانقلاب العسكري عن وجهه الدموي البشع، ولكن العجيب أننا قد رأينا كثيراً من الشماتة والفرح والسعادة في عيون مصريين عاديين ليس لهم أي انتماء حزبي أو سياسي أو أيدلوجي، في مشهد تجرّد فيه كثير من المصريين عن أبسط معاني الإنسانية والآدمية، حتى رأينا بعضهم يقف في طابور طويل ليتأكد من وفاة "أسماء" الابنة الصغرى للقيادي الإخواني "محمد البلتاجي" بالاطلاع على جثمانها في سيارة الإسعاف بعد أن أقنعتهم وسائل الإعلام بأنها ما زالت حية!

فهل أصبح المصريون فاشيين إلى هذه الدرجة المرعوبة التي تنذر بضياع السلام الاجتماعي والأمن القومي للبلاد لسنوات طويلة؟ ومن هو المسئول عن تفجر هذه الفاشية الشعبية بهذه الصورة التي أفقدت المصريين تسامحهم المعروف، ومزّقت النسيج الاجتماعي لمستويات خرق يستحيل رقعها في الوقت القريب؟

الفاشية نظام فكري وأيديولوجي يجمع بين الدموية والعنصرية؛ يقوم على تمجيد الفرد على حساب اضطهاد جماعي للشعوب، والفاشية تتمثّل بسيطرة فئة دكتاتورية على مقدرات الأمة ككل، طريقها في ذلك العنف وسفك الدماء والحقد على حركة الشعب وحريته وكرامته، واصطلاح الفاشيّة "fascism" مشتق من الكلمة الإيطالية fascio، وهي تعني حزمة من الصولجانات كانت تُحمَل أمام الحكام في روما القديمة دليلًا على سلطاتهم.

وفي تسعينيات القرن التاسع عشر بدأت كلمة فاشيا "fascia" تستخدم في إيطاليا لتشير إلى جماعة أو رابطة سياسية عادة ما تتكون من اشتراكيين ثوريين، وقد واجهت إيطاليا عقب الحرب العالمية الأولى أزمة اقتصادية واجتماعية حادة، وعجزت الحكومات المتعاقبة عن فضها وفقدت الدولة هيبتها، واستغل موسوليني هذه الأوضاع لتأسيس الحزب الفاشي، وقد تمكن من الوصول إلى الحكم وتشكيل حكومة عام 1922م؛ على إثر اضطرابات عمالية استولى فيها العمال على مصانع شركة (فيات) للسيارات مما أدى إلى شل حركة السوق الاقتصادية، وأوشكت البلاد أن تنهار، وعلى أثر ذلك قام موسوليني بتأييد من جماعات كبيرة وأعاد النظام إلى نصابه وتولى الحكم عن طريق القوة، ومنذ ذلك الحين اقترنت الفاشية باسمه.

وقد أثرت الفاشية في حركة النازية في ألمانيا، التي كان يمثلها هتلر عام 1933 م، وحركة الفلانجية الأسبانية التي مثلها فرانكو عام 1939م.

ومن خلال السياق التاريخي لنشأة الفاشية يتضح أن الفاشيين يأتون إلى السلطة في غالب الأمر على إثر حدوث انهيار اقتصادي بالبلاد أو هزيمة عسكرية أو سياسية أو كارثة عامة أو أي صورة من صور عدم الاستقرار الكبرى في البلاد، ويكسب الحزب الفاشي تأييدًا شعبيًا لما يبذله من وعود بأنه سينعش الاقتصاد، وسيسترد كرامة البلاد وهيبتها ومكانتها وقوتها، ويلعب الفاشيون على هذه الأوتار الشعبية جيدًا، ويؤدي شغف الفاشيين بتمجيد الوطنية إلى ازدياد الروح العسكرية، وتبدأ مظاهر العسكرة في الهيمنة على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد التي يحكمها الفاشيون.

الفاشية لها عدة صور أبرزها بالقطع الفاشية السياسية، والفاشية الاقتصادية، والفاشية الثقافية، ولكن أخطرها على الإطلاق الفاشية الشعبية، وذلك عندما تتحول الجماهير المغيبة تحت وطأة عناصر التأثير مثل وسائل الإعلام إلى أدوات لبسط النفوذ الفاشي، فبإمكانك أن تخلق حالة فاشية في ستة أشهر باستخدام إعلام قوي ومكثف!

وهذا ما فعلته المجموعة الإعلامية التي شكّلها البيت الأبيض مطلع الحرب العالمية الثانية، بخصوص حرب أوروبا.

وكذلك تلك التي ساقت الجماهير إلى حرب العراق 2003م، فمجزرة رابعة والنهضة تعتبر أبشع مجزرة تقع في تاريخ مصر الحديث، ومع ذلك فأعداد المصفقين لها أكبر من أعداد المستنكرين لها، فكيف نفهم هذه الوضعية الشعبية الشاذة لشعب يفرح ويطرب لسفك دماء بعض أفراده؟

ملامح الفاشيّة المنتشرة في مصر تظهر في وجوه عدة: في عبادة الزعيم مُنقذ الأمّة من الأشرار والإرهابيين، وتظهر في عبادة الدولة، والشوفينية المتفجرة إعلاميًا، حيث تصبح الدولة ممثّلة لإرادة الشعب، وباسمها تنتهك كل الحريات وتصادر كل الحقوق، والأخطر في ذلك الأمر هو ربط بقاء الدولة وتقدمها وكرامتها بشخص معين هو عادة زعيم الأمة الملهم، وبدون هذا الزعيم ستنهار الدولة وتقع فريسة الأشرار.

ومن أهم أدوات تأسيس الفاشية الشعبية اليوم في مصر؛ وسائل الإعلام، حيث تم إطلاق حملات تخويف محمومة ضد كل من يعارض النظام الجديد في مصر، حتى ولم يكن منتمياً لتيار إسلامي، وعلى نسق الأنظمة الفاشيّة السابقة، ركزت حملات التخويف والتشويه على أن الحياة العادية والاستقرار والنمو لن يتحقق قبل التخلص تماماً من الأشرار أو الإرهابيين أو المتآمرين أو العملاء الخونة، وهكذا تعددت المسميات والمضمون واحد.

وقد تحوّلت قطاعات واسعة من النخب السياسية والإعلامية إلى مخبرين أمنين تابعين للنظام حتى رأينا بعض كبار الصحفيين يكتب على صفحات أكبر جرائد الوطن داعياً المخابرات العامة للقبض على نشطاء الفيس بوك المعارضين للانقلاب قبل أن يتسببوا في ثورة جديدة مثل ثورة 25 يناير، ويكتب آخر واصفا الإخوان: "بأنهم دعاة هدم وتخريب ومحترفو تآمر وخيانة، نحن لا نريدهم بيننا، لا نريد لهم أن يتناسلوا في أحضاننا كالحشرات السامة. ولا ينبغي أن تكون محاكمتهم عادلة، لأن عدلهم ليس عدلنا وإسلامهم ليس إسلامنا!"

ومن أدواتها أيضاً الاستعانة ببعض الفقهاء والمشايخ المحسوبين على نظام المخلوع مبارك مثل مفتيه السابق "علي جمعة" واستصدار فتاوى منه بخصوص إباحة دماء المعارضين بدعوى أنهم من الخوارج الذين يجوز سفك دمائهم وأخذ أموالهم. وذلك لإضفاء نكهة شرعية مسوغة لهذه التصرفات الفاشية.

في ظل الفاشية الشعبية يتحول المواطن مهما كانت درجته العلمية أو الوظيفية إلى خفير أو مخبر أو جاسوس منفذ لإرادة النظام البوليسي القمعي، متأثراً بِوهم الفاشية أن المواطن هو الحاكم وأن إرادته هي النافذة، في حين أن حقوقه تسحق وكرامته تهدر وآدميته تُنتهك نهاراً جهاراً تحت مباركة الآخرين وسعادتهم الغامرة، وفي ذلك خراب الأمم وضياع الدول، فالدول والنظم الفاشية كلها سقطت وبصورة مروعة، بل إن الفاشية نفسها قد سقطت بلد المنشأ -إيطاليا وألمانيا- وتشددت هذه الدول تحديداً في مواجهة الفكر الفاشي والنازي حتى جرمته بأشد صور التجريم.

فكيف يكتب لهذه الأفكار والمناهج أن تحيي من جديد في بلاد الإسلام؟

فهل يستفيق المصريون من حمى هذه الفاشية المقيتة قبل فوات الأوان؟

أم سنقول وداعاً لمصر والمصريين لعشرات السنين؟!
 

المصدر: مفكرة الإسلام