على خُطا أعرابي زمزم؟!

منذ 2013-11-16

وكم آسى على حال ذاك الأعرابي الذي ذاق أشد الضربات وأبشع الأوصاف على فعلته في زمزم، بينما أبناء مدرسته ينالون أعلى الأوسمة وأشرف الألقاب أمام مرأى الجميع ومرارات أهل المكابدة في البحث والإبداع في الفن.



روى الإمام ابن الجوزي حادثة وقعت أثناء الحج في زمانه؛ إذ بينما الحجاج يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان من الحجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلّصه الحرس منهم، وجاؤوا به إلى والي مكة، فقال له: "قبّحك الله، لِمَ فعلت هذا"؟ قال الأعرابي: "حتى يعرفني الناس، يقولون: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم!".

ومع شناعة هذا الفعل وغرابته في آنٍ واحد إلا أن هذا الأعرابي قد سطّر اسمه في التأريخ رمزاً للسخافة والخَرَق، وإلا فما الداعي لهذه الفعلة الشنيعة إلا الحِرص الشديد على بلوغ المجد والشهرة، ولو كان بالدخول من أحط الأبواب وأنتنها، خصوصاً أن الأمر لا يحتاج إلى مال يُنفق أو جهد يُبذل، ولكنه البحث عما يثير اهتمام الناس بالغريب المحدَث من الأقوال أو الأفعال.

والناظر في حال الكثير من هواة الصعود الصاروخي إلى قمم الشهرة والإثارة والمتابعة الإعلامية يعمدون إلى الاستفادة من مدرسة ذاك الأعرابي، والاعتبار بمنهجه البراغماتي في الدوس على القيم المحترمة، والمبادئ المعتبرة، والفطر السليمة بغية أن يقول الناس: "هذه فعلة فلان المعروف"، أو "من هنا مرّ فلان المشهور"؛ ولا يبالي بعدها بالدعاء أو الشتم أو التأسُّف أو الحوقلة أو غيرها من أساليب العجب والاستغراب. فالاستهانة والذم قد تهون أمام الذكر والمغالبة على حديث الناس.

وفي عصرنا الراهن أصبح فعل الأعرابي في زمزم سُنّة يحتذي بها بعض من استحسن فكرته، بل ربما ظاهرة لدى جمهور من الصحفيين والكُتّاب والروائيين فمع كثرة وسائل النشر التقليدية أو الإلكترونية أصبح لفت الانتباه وإثارة الغبار على المعتاد فرصة أولئك الصاعدين لبلوغ الشهرة والوصول إلى رغبات القراء الجامحة نحو المغيّب من الأمور والخارق للعادة والمخفي من أحوال الناس.

وهذا ما لاحظته في رواية لإحدى الكاتبات المغمورات التي أتقنت درس الأعرابي، وكتبت روايتها المستوحاة من عمق المستور داخل مجتمعها إلى عمق المفضوح في أحداثها، مما جعلها الرواية الأولى في المبيعات في عدد من معارض الكتب، وهاهي توقّع الطبعة الثالثة من روايتها في أقل من أربعة أشهر والتي يفوق عدد نسخها القادمة على عشرة آلاف نسخة، ولا أستبعد أن تُرشّح في المستقبل القريب إلى عدد من الجوائز العالمية والأدبية تليق بحجم العمل الظاهرة!

وعالمنا العربي يحوي الكثير من المشاهد المكررة التي تؤكد نظرية التفوق الهامشي للزبَد والعلو الوقتي للدخان الأسود.

وكم آسى على حال ذاك الأعرابي الذي ذاق أشد الضربات وأبشع الأوصاف على فعلته في زمزم، بينما أبناء مدرسته ينالون أعلى الأوسمة وأشرف الألقاب أمام مرأى الجميع ومرارات أهل المكابدة في البحث والإبداع في الفن.


لذا أتساءل أحياناً وبصمت معتاد: هل مكمن الخلل في أذواقنا أم في قيمنا أم في الأعرابي الذي سجّل التاريخ نكبته وحمّلنا تبعة بولته النكدة في مشارب الناس؟!

 

مسفر بن علي القحطاني

أستاذ الفقه وأصوله بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن

  • 0
  • 0
  • 1,488

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً