على مَنْ يتنزَّل النصر

لقد ثبتوا مع كثرة الخاذلين، الذين كانوا ينتظرون أن يكونوا لهم ناصرين؛ لأنهم في الأصل موافقون، وليسوا مخالفين، لكنهم إذا حان وقت النصرة.. خذلوا.. وتركوا.. وباعوا.. لتدفع الطائفة الظاهرة على الحق الثمن وحدها، وتستحق بذلك الشرف والمنزلة.. وحدها، بأن تكون ذلك الامتداد الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، بل وفي الناس، بحملها راية الإسلام، وحقائق الدين، وروح التغيير للحياة الإنسانية، لتكون على مقتضى إرادة الله سبحانه وتعالى وشرعه الذي يحبه لخلقه أجمعين.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

 

في مصر، قلب العروبة والإسلام النابض، ومركز الثقل الأكبر، والأقرب إلى الأرض المقدسة في فلسطين، ومن حيث تعلقت قلوب المسلمين بالتغيير؛ وقع أسوء تغيير معاكس بانقلاب عسكري، يمارس أشرس صور الإقصاء والاستئصال للحركة الإسلامية، ولكل المكتسبات الثورية، بعنف زائد ظن أنه سيمهد له الطريق.. فمهد لغيره طريقاً آخر.. فلماذا ثبتوا؟ مع أن المحنة شديدة، والخطر داهم، والطاقة البشرية محدودة، وقد عز الناصرون، وتكالب المعتدون؛ {إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْـحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10- 11].. وهذا هو المشهد.

مع أن هناك من يشكك، وهناك من يدعي الواقعية؛ {لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 13]، وهناك من يعتذر بظروفه الخاصة؛ {يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13]، وهناك من يدعونهم لما يزينون أنه سلامة عاجلة في دعوة {الْـمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا} [الأحزاب: 18]، في ظل إبداء استعداد للتنازل مراعاة لميزان القوة {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب: 14].. وهؤلاء كانوا بيننا، و{كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب: 15].

لكنهم رأوا الحق واضحاً
ليس لأنهم لم ترد عليهم الشبهات، فقد ملأ المجرمون بها الأسماع والأبصار، فإن {شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْـجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، وهذا قدر رباني لامتحان الناس {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، لكن للشبهات أهلها {وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113]،وما هم بهؤلاء.

إن منهم العالم والجاهل وبين ذلك، منهم المثقف المتابع ومن دون ذلك، منهم الصغير والكبير.. تفاوتوا في أشياء كثيرة، وجمعت بينهم بصيرة إيمان وبقية فطرة سوية، ففهموا استنكار ربنا حين قال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ كَالْـمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْـمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، فلم يسووا بينهما. لقد وهبهم الله ما فرقوا به بين الحق والباطل، تصديقاً لوعده الكريم: {إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، وغاب أثر الفوارق الأخرى بينهم، كهؤلاء الذين يقرأون بين عيني الدجال (كافر)، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» (أخرجه مسلم، عن حذيفة بن أسيد الغفاري)، فعاد التمييز إلى الإيمان، واختفى أثر الوسائل الدنيوية التي تفاوت المؤمنون فيها، من ذكاء وتعلم ونحوهما.

واجتمعوا على نصرته
كما لم يجتمعوا قبل ذلك، على تفاوت الانتماءات والاجتهادات، بل على التفاوت في الاستقامة نفسها. جمعهم حق مشترك أحبوه وأعلوه على ما سواه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} [البقرة: 165]، حين شعروا بالخطر يتهدد دينهم ويتهدد الأمة والأجيال. ففيهم وريث الصديق وابن حنبل، من أئمة الحق والتقى، وممن تميز بنصرة الحق والثبات عليه بين الناس، اللذين قال فيهما علي بن المديني: "إن الله أعز هذا الدين بأبي بكر يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة" [1]. وفيهم وريث أبي محجن الثقفي، الذي قيد بذنبه، فلما رأى المعركة تدور، لم يهن عليه إسلامه، وعز عليه أن تكون معصيته سبباً لحرمانه، بل اشتاق إلى ما يكفر سالف زلاته، فقال:
 

كفى حزناً أن ترتدي الخيل بالقنا *** وأترك مَشْدُوداً عَلَيَّ وَثَاقِيَا

ثم انطلق يبذل الروح في سبيل الله؛ تطهيراً للروح، وتقرباً لله [2].

فهذا أوان الثبات
لأنه إنما يحتاج إليه في موطن الامتحان بالرغبة والرهبة، ولهذا امتنَّ الله به على الفتية المؤمنين أصحاب الكهف، حين قاموا للسؤال بين يدي ملكهم الكافر: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إذْ قَامُوا} [الكهف: 14]. يحتاج إليه حين يكثر العدو ويقل الناصر، حين يحيط العدو بأسبابه الأرضية، وتقل أسبابنا المادية بإزائه، كما كان حين تحزبت الأحزاب: {إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْـحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]. يحتاج إليه حين يكون له ثمن، فلا يكون مجرد كلمة جميلة يسهل أن تسمع في خطبة، أو تقرأ في كتاب، أو حتى يتمناها الإنسان لنفسه أو يدّعيها. حين يعلو تهديد {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: 71]، فلا يجدون إلا استمداد العون الرباني على الثبات حتى الممات: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126].

في تلكم اللحظات العصيبة، التي تتلفت فيها الأمة، تبحث عن الثبات وأهله، تحتاج إليهم؛ لأنهم في تلك اللحظات طوق نجاتها، وسر حفظ الحق الذي به وجودها، يكون أوان الثبات. فليس التلون ذكاء، ولا التراجع حكمة، ولا سلامة الدنيا أعلى المطالب.

ورأوا القدوات
كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في خطاب ربنا تعالى: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]، ورآهم كذلك المؤمنون، بل ورأوه صلى الله عليه وسلم {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] "في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين" [3].

ورأوا أئمة المسلمين وأبطالهم قديماً وحديثاً، فلم يجدوا منهم إلا ثباتاً في وجه الباطل، وانتصاراً في وقت الحاجة، وكلمة حق في وجه الطغيان، وتقديماً للمصالح العليا للأمة على ما سواها من المصالح الضيقة، وإيثاراً للآخرة في مقابل التضحية بالدنيا. ونظروا أمامهم فإذا بالبطولات تتجسد؛ وقوف في وجه السلاح، وتحت زخات الرصاص، محاولة لإسعاف مصاب، وحمل لجثة شهيد، تقدم للصفوف من شاب يافع، وارتقاء من بجوارك شهيداً في لحظة لا تكاد تفرق بينك وبينه. بل امرأة تقف أمامهم، ترفض أن تتراجع، تستحث الرجال بوقفة تبذل فيها روحها، وشيخ كبير يكفيه من وقفته أن يبرئ ذمته، ولا يبقي عذراً للقاعدين من الشباب، ودعاء بالتثبيت والنصر يتردد بين جنبات المكان وأنفاس الزمان.

رأوا كيف توقن القلوب وتطمئن لما بشرهم به ربهم من نصر، رأوا سكينة الحي في لحظات الضيق، ورأوا ابتسامة الشهيد بعد أداء الواجب. رأوا كيف تتكافأ دماء المسلمين فكلها غالية، وكلها ملؤها التضحية، وبعضها يفدي بعضاً رضا وطواعية. فطاحت العبارات، وطاشت الإشارات، ولم تعد تغني الهيئات، وانتصب القدوات بأعمالهم، ربما لم يحز بعضهم ألقاباً كبيرة قبل اسمه، وربما منهم من لا يكاد يعرف اسمه.. لكنهم سطروا أسماءهم بأحرف من نور، في لحظات من نار، فانحطت ظلمات الأرض، وارتقوا معروفين في السماء، يعرفهم ربهم وملائكته، وغداً يعرفهم العالمون في مقام كريم.

فالحق إنما يُحفظ بثبات أهل العزائم
لذا وجب إنكار المنكر على أهله، وكان هذا هو الإيمان الواجب في هذه الحال، فمن جاهدهم «فهو مؤمن.. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (مسلم، عن عبد الله بن مسعود)، بل كان بذل الروح في سبيل حفظ الحق بالكلمة، سبيلاً إلى أعلى درجات الشهادة «سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله» [4].

وهذا الثبات الظاهر دائر بين الوجوب والاستحباب، ودليله "ما جاء في الشريعة من الأمر بالوقوف مع مقتضى الأمر والنهي مجرداً، والصبر على حلوه ومره، وإن انتهض موجب الرخصة... فأباح التكلم بكلمة الكفر، مع أن ترك ذلك أفضل، عند جميع الأمة أو عند الجمهور. وهذا جار في قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن الأمر مستحب، والأصل مستتب، وإن أدى إلى الإضرار بالمال والنفس، لكن يزول الانحتام ويبقى ترتب الأجر على الصبر على ذلك" [5].

فإن حُفظ الحق بغيرك كانت النصرة منك مستحبة، وإن لم يُحفظ بغيرك كانت النصرة عليك واجبة. فإنه "إذا كان الفعل مندوباً بالجزء، كان واجباً بالكل" [6]؛ لأن في ترك ذلك "مضادة لإظهار شعائر الدين" [7]. والوجوب هنا يتأكد بأمرين: أولهما: القرب من العدو، فمن كان أقرب، كانت المجاهدة والمرابطة عليه أوجب منها على من هو أبعد، لهذا كان التولي يوم الزحف كبيرة، والثبات على من شهد الوقعة واجب، فإن غيره لا يسد مكانه. ثانيهما: النعمة من الله، فمن أوتي من الله مزيد نعمة، في دين أو عقل أو صحة أو مال أو غيرها، فالواجب عليه أكبر وأوكد منه على غيره ممن نقص حظه من هذه النعم، فإنه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وما دام قد آتاها فقد كلفها. فيلحق الوجوب كل قادر -بحسب قدرته- ما دام فرض الكفاية لم يسد؛ "لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة. فهم مطالبون بسدها على الجملة. فبعضهم قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلاً لها. والباقون -وإن لم يقدروا عليها- قادرون على إقامة القادرين. فمن كان قادراً على الولاية فهو مطالب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها مطالب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها.. إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" [8].

وعلى هؤلاء يتنزّل النصر
فإن أهل العزائم هم المقدمون المنصورون في المحن، لذا كان الأمر الرباني {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، وكان الثناء على أكابر الأنبياء {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45]، ووراثتهم إنما تكون بقدر ما يتحقق تابعوهم بصفاتهم، وبقدر ما يقومون به من رسالتهم. بل إن الوجود الصحيح للأمة هو الذي يكون امتداداً لوجود النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك يحفظ الوجود الصحيح للأمة بالطائفة الظاهرة على الحق المنصورة، حتى إن الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم لما ذكر حديث الطائفة، قال: "فيه دليل لكون الإجماع حجة، وهو أصح ما استدل به له من الحديث" [9]؛ لأنه إذا حصل الإجماع، فمن المؤكد أن الطائفة المنصورة مع من أجمع، وهي ظاهرة على الحق، فيكون هذا الذي أجمع عليه هو الحق.. فهم الامتداد العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم ولرسالته في الأمة.

لذلك كانت ظاهرة على الحق، معلنة له، تتحمّل وتتكبّد تكاليف إقامة الحق وحفظه، بل هي تقاتل على الحق، كما في روايات كثيرة من الأحاديث: «يقاتلون على الحق» (مسلم، عن معاوية بن أبي سفيان)، وفي لفظ آخر: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال» [10].. فهذه الطائفة تمثل العصمة للأمة؛ لقربها من النموذج النبوي في فهم الدين، وأداء دوره الرسالي، بإظهار الحق وتغيير الحياة على مقتضى هذا الحق، ويستمرون في ذلك إلى آخر الزمان.

أما عن خصوصية ذكر الدجال، فلأن فتنة الدجال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أعظم من الدجال» [11]. والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن أثره على الناس فقال: «ليفرن الناس من الدجال في الجبال» (مسلم، عن أم شريك).. لكن الطائفة تجتمع لقتال الدجال، فهي لا تجتمع للفرار من الدجال، ولا للمحافظة على دينها وفقط، بل لقتاله؛ لأنها امتداد للدور الرسالي الذي قام به النبي صلى الله عليه وسلم أول مرة. وبينما هم مجتمعون لقتال الدجال، وأقاموا الصلاة ليصلي بهم إمامهم، ينزل عليهم عيسى عليه السلام ويقودهم، ويقتل الله على يده الدجال (مسلم، عن النواس بن سمعان). لكن هل تأملتم على من نزل عيسى عليه السلام؟!.. إنه لم ينزل على هؤلاء الذين فروا يطلبون النجاة بإيمانهم، مع علو ما قاموا به من خير؛ لكنه نزل على المجتمعين لقتال الدجال.

فهل تأملتم هذا الفقه للدين؟! إنهم يعلمون أن الدجال لن يُقتل حتى نزول عيسى عليه السلام، فإنه لا يقتل الدجال إلا عيسى، فالمنتظر أنهم يجلسون وينتظرون نزول عيسى عليه السلام.. لكنهم فقهوا أن من قعد.. لا ينزل عليه النصر.. إنما يتنزل النصر على من تجهز للقتال.. وسار في الطريق.. لا على من نأى في الجبال.. ولا على من جلس ينتظر الوعود، من غير أن يعد لها عدتها.. إن هؤلاء هم الطائفة الظاهرة، وهم الذين يتنزّل عليهم النصر.

ولا يضرهم خاذل أو مخالف
فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم حالهم مع الناس وحال الناس معهم، فقال: «لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون» (مسلم، عن معاوية بن أبي سفيان).. أما لماذا يخذلهم خاذل ويخالفهم مخالف؟.. فلأنهم يتحملون الأمر الثقيل: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].. إنهم يحملون رسالة تغييرية للحياة، وليست رسالة توافقية مع الحياة، ولذلك يكثر مخالفوهم: «ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي» (متفق عليه، عن أم المؤمنين عائشة). أما من غيّر وانحرف، فقد خرج بانحرافه عن العداء بقدر ما خرج عن الصراط المستقيم. بل إن كثيراً من هؤلاء المنحرفين كانوا يفاخرون بحسن علاقتهم بمن يجب عليهم شرعاً أن يعادوهم!! فخرجوا بذلك عن خط العداء.. عن خط الاستقامة.. عن خط التغيير.. عن خط النبي صلى الله عليه وسلم الذي اختطه لهذه الأمة إلى آخر الزمان.. عن الخط الذي به يحفظ الدين، وبه تحفظ الأمة، وحين يغيب.. توشك شمس هذه الأمة أن تغيب.. بل توشك شمس الحياة الإنسانية كلها أن تغيب.
أما لماذا إذن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاذل قبل المخالف: خذلهم أو خالفهم؟ فذلك لأن الخاذل يحدث من النكاية في القلب أشنع مما يحدث المخالف، فالمخالف يعاديهم، يقول لهم: أنتم مخطئون. فهناك انفصال بينهم منذ البداية. لكن الخاذل يقول لهم: ما أحسن هذا الكلام.. وما أجمل هذه الحياة.. لكن لكم أنتم.. وليس لي أنا.. هذا عمل عظيم.. لكن قوموا أنتم به.. وادفعوا أنتم ثمنه.. وحدكم.. أنا لن أسير معكم في هذا الطريق.. أنا لن أتحمّل شيئاً من تكاليف هذا التغيير.. أنا لا أريد أن أخاطر بشيء من مكتسباتي ومعاشي الدنيوي!
لقد ثبتوا مع كثرة الخاذلين، الذين كانوا ينتظرون أن يكونوا لهم ناصرين؛ لأنهم في الأصل موافقون، وليسوا مخالفين، لكنهم إذا حان وقت النصرة.. خذلوا.. وتركوا.. وباعوا.. لتدفع الطائفة الظاهرة على الحق الثمن وحدها، وتستحق بذلك الشرف والمنزلة.. وحدها، بأن تكون ذلك الامتداد الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، بل وفي الناس، بحملها راية الإسلام، وحقائق الدين، وروح التغيير للحياة الإنسانية، لتكون على مقتضى إرادة الله سبحانه وتعالى وشرعه الذي يحبه لخلقه أجمعين.

فلهذا ثبتوا.. وبهذا تميَّزوا.. و{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، فالله واسع العطاء.. وهو سبحانه عليم بمن هم أهل لعطائه.. فأين أنت منهم؟


:: مجلة البيان العدد 316 ذو الحجة 1434هـ، أكتوبر- نوفمبر 2013م.
[1] تاريخ الإسلام للذهبي 18/71.
[2] الاستيعاب للقرطبي 4/1750.
[3] تفسير ابن كثير 6/235.
[4] صحيح، صحيح الترغيب والترهيب 2308، عن جابر بن عبدالله.
[5] الموافقات للشاطبي 1/324-326.
[6] الموافقات للشاطبي 1/132.
[7] الموافقات للشاطبي 1/133.
[8] الموافقات للشاطبي 1/178- 179.
[9] شرح النووي على مسلم 13/69.
[10] صحيح، صحيح أبي داود 2484، عن عمران بن حصين.
[11] صحيح، مسند أحمد 16299، عن هشام بن عامر، وصححه الأرناؤوط.
 

 

أشرف عبد المنعم
 

المصدر: مجلة البيان