خطر المصطلح الفكري

لا يخفى ما للمصطلحات من أهمية كبرى في العلوم، والمعارف المختلفة، والحاجة إليها ملحة في تحديد المعاني، والمدلولات، والتفريق بينها؛ ولذا فإنها تُصنّف على أنها من مبادئ العلم، ومفاتيحه، وأصوله التي لا غنى للمشتغل بالمعرفة عن الإحاطة بها، ولو على مستوى تخصصه في الحد الأدنى.

 
لا يخفى ما للمصطلحات من أهمية كبرى في العلوم، والمعارف المختلفة، والحاجة إليها ملحة في تحديد المعاني، والمدلولات، والتفريق بينها؛ ولذا فإنها تُصنّف على أنها من مبادئ العلم، ومفاتيحه، وأصوله التي لا غنى للمشتغل بالمعرفة عن الإحاطة بها، ولو على مستوى تخصصه في الحد الأدنى.
وتختلف المصطلحات من حيث نشأتها؛ فمنها ما هو متلقى من الوحي: كالصلاة، والزكاة، والحج، والإسلام، والكفر، والنفاق، وغير ذلك، أو ما وقع عليه الإجماع الشرعي؛ وهذا النوع يتسم بالثبات، والقدسية، فلا مجال للتدخل، أو التحريف فيه؛ فهو رباني المصدر، وبالتالي فإن هذه المصطلحات تمتاز بمصداقيتها لمدلولاتها، وموافقتها لمحتواها، كما أنها تؤدي وظيفتها باقتدار في تحديد المعاني، والتفريق بينها دون أيما محظور في استخداماتها.

ومن المصطلحات ما هو من صناعة البشر وهو الأكثر، ولا غرو أنها حاجة إنسانية كونية، بله شرعية لا تستقيم العلوم بدونها؛ إذ هي جزء من عمارة الأرض، وتحقيق للاستخلاف فيها الذي أمر الله سبحانه وتعالى به {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
 
حديثي هنا عن النوع الثاني من المصطلحات وهو البشري، وتحديداً ما يتعلق بالأفكار، والمعتقدات، والاتجاهات المختلفة، بعيداً عن تلك المصطلحات المتعلقة بالعلوم التجريبية، فلها شأن آخر يمكن وصفه بغلبة المعاني على مصطلحاتها.
من أولى سمات هذا النوع أنه قابل للصواب والخطأ، غير متجانف عن النقد والتصحيح كأي عمل بشري، سواء أكان ذلك من جهة رسمه ولفظه، أم من جهة إسقاطه على نوع من الأفكار، ومن هنا فلا بد من التفريق بين المصطلحات من حيث قابليتها للاجتهاد؛ فالاجتهاد في المصطلح الشرعي يتجه نحو مناطاته غير المنصوص عليها وحسب، بينما يتجه في المصطلح الحادث إلى ذات المصطلح، وإلى مناطاته على حد سواء، فمثلاً الإصلاح ثابت في معناه الشرعي، ومحل اجتهاد في إسقاطاته المختلفة، والتنوير كمصطلح محل اجتهاد في الأمرين معاً.
ومن سماته أيضاً أنه متغير تبعاً لتغير المكان والزمان والحال؛ باعتبار ما يطرأ على المصطلح ذاته كتوسيع مفهومه، أو تضييقه، أو حتى استبداله بمصطلح آخر، أو باعتبار الصناعة اللامحدودة لما يستجدّ من أفكار، ومعتقدات.
سبب التركيز على هذا النوع من المصطلحات، وما تحمله من مدلولات؛ أنه يمثل الخلفية الحضارية غير الآمنة في مقابل المصطلحات الربانية الثابتة، ويمثل الخلفية الحضارية الحاضنة في مقابل المصطلحات التجريبية التي تنشط في ظلالها، وتتحرك في فلكها.
ما أريد قوله أن عزل المصطلح الفكري عن معناه اللغوي -فضلاً عن معناه الشرعي- خطأ يجب تصحيحه، وهو نوع من الاعتداء على مقام اللغة العربية الرفيع، ولا يصح هذا الاعتداء بحجة أن المصطلح قد أخذ بعداً تاريخياً، أو فلسفياً أبعده عن معناه اللغوي، أو الشرعي؛ لأن المحصلة النهائية للانجرار وراء هذا القول وَصْفُ الأشياء بغير مسمياتها في اللغة، والشرع، فالعقلاني -وفقاً للخطاب السلفي- ممدوح شرعاً، مذموم فكراً، وهكذا الإصلاحي، وهلم جرّاً.
ثم إن بُعْدَه الفلسفي، أو الحضاري الذي يتعارض مع اللغة، أو الشرع؛ لا يعرفه إلا طبقة محدودة جداً، وذلك بعد أن يتفقوا عليه، وهذا الأخير أشد ندرة من الأول، ثم إن الاستسلام لهذه المصطلحات بعد تحريفها -ولو في بعض مدلولاتها- يعزز معنى الاستهلاك، والضعف، لا الثقافة، والتحضر؛ انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 11-13].

فهؤلاء جعلوا الإصلاح مصطلحاً للإفساد في الأرض، وجعلوا السفه مصطلحاً للإيمان بالله سبحانه وتعالى، فكانت معالجة القرآن أن ردّ كل مصطلح إلى ما يناسبه في اللغة، والشرع.
"إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم؛ كلاهما منكر وقبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير على الحقيقة، وتغليط للتاريخ، وتضليل للسامعين، فمادة كلمة (الاستعمار) هي العمارة، ومن مشتقاتها التعمير والعمران، فأصلها في لغتنا طيب، وفروعها طيبة، ولكن إخراجها من المعنى العربي الطيب إلى المعنى الغربي الخبيث ظلم لها" البشير الإبراهيمي: الآثار الكاملة (3/18)".
أشير ههنا إلى أن عزل المصطلح الفكري عن مضامينه الصحيحة يصدق على صور متعددة؛ أولها وأخطرها عزل ما كان منها دالاً على الخير، والفضيلة، أو كان يحمل أبعاداً إيجابية عند الإطلاق عن المنهج السلفي، وذلك لأن مفهوم السلفية يعتمد على اللغة والشرع، فلا يمكن -والحال هذه- أن يتدافع المصطلح الحق مع المنهج الحق، ولست أعني بالضرورة أن محتويات هذا المصطلح الذي أخذ تشكلاً فكرياً وتاريخياً جعله خصماً للسلفية هي محرفة كذلك، بل أعتقد أن شأنها شأن أي عمل بشري فيه الصواب والخطأ، وهو دائر بين الأجر والأجرين إذا توافرت فيه الشروط المعتبرة، لكن يجب أن يكون هذا المحتوى داخلاً تحت إطار السلفية، ولا داعي لجعله مقابلاً لها حاملاً مصطلحاً فكرياً مناهضاً ما دام أنه ملتزم بأصول السلفية وقواعدها، أما إن خرج في بعض استعمالاته عن هذه الأصول فإنه يعالج بوصفه محتوى دون الدخول في دهاليز المصطلح الفكري ذاته، و ربطه بهذا المحتوى.
إن من أهم مظاهر عزل المصطلحات عن دلالاتها الصحيحة وقوع التلبيس والتشويه للحقائق، وظاهرة ضعف الثقة بالمناهج الصحيحة، فترى الإصلاح، والعقلانية، والتنوير، والعصرانية، والانفتاح؛ وهي مصطلحات، ومفاهيم جذابة ذات بريق ولمعان تقابل مصطلح السلفية، أو أهل السنة والجماعة، وللأسف تجد بعض من ينتسب إلى السلفية يشارك في صياغة هذه المصطلحات بحسب مدلولاتها الفكرية، ويسعى في ترسيخها بقصد التحذير منها، مع أن عكس الإصلاح هو الإفساد، والعقلانية اللاعقلانية، والتنوير الظلام، والعصرانية الماضوية، والانفتاح الانغلاق.
والتلبيس يعمل في الحق أكثر من عمل الباطل البين، وقد حذر الله سبحانه وتعالى منه في سياق ذمّه لأهل الكتاب بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فيأخذ هؤلاء العبارات الإسلامية، ويودعونها معاني هؤلاء، وتلك العبارات مقبولة عند المسلمين، فإذا سمعوها قبلوها، ثم إذا عرفوا المعاني التي قصدها هؤلاء ضلّ بها من لم يعرف حقيقة دين الإسلام؛ ولهذا ضلّ كثير من المتأخرين بسبب هذا الالتباس، وعدم المعرفة بحقيقة ما جاء به الرسول، وما يقوله هؤلاء حتى يضلّ بهم خلق من أهل العلم، والعبادة، والتصوف، ومن ليس له غرض في مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يجب اتباعه مطلقاً، ولو عرف أن هذا مخالف لما جاء به لم يقبله، لكن لعدم كمال علمه بمعاني ما أخبر به الرسول، ومقاصد هؤلاء؛ يقبل هذا لاسيما إذا كان المتكلم به ممن له نصيب وافر في العلم، والكلام، والتصوف، والزهد، والفقه، والعبادة" [الفتاوى:(17/333-334)].
 
ويجب التأكيد هنا على أن أفول المصطلح الدالّ على الحق عن سماء السلفية قد يتبعه أفول بعض الحق تبعاً له، وذلك لشدة تأثير المصطلح على معناه الأصلي مهما صرف عنه، فمحافظتنا عليه داخل الدائرة السلفية هو ضمانة للمحافظة على معانيه وإسقاطاته الصحيحة، فضلاً عن كونه ربطاً بين المصطلح، ودلالته اللغوية أو الشرعية.
وتحديد هذه الإشكالية يكمن في استعداد من وقع في هذا الخطأ لتقبل عزل المصطلحات التي لا تزال في مخاضها عن معناها اللغوي، أو الشرعي من جهة، وغياب دوره في عزل ما تشكل منها عن المدلولات المحرّفة التي لا تناسبها من جهة أخرى، والمنهج القرآني الكريم هو عكس هذه المعادلة تماماً فإنه يربط المصطلحات بمعانيها اللغوية، والشرعية، ويرد كل مصطلح تعرّض للتحريف إلى ما يناسبه في اللغة، والشرع.
إن غياب الوعي الكافي بمآلات هذه الإشكالية على المنهج السلفي ذاته هو السبب وراء التراخي عن المشاركة في صناعة المصطلحات، وتصحيح ما تعرّض منها لتحريف، وهو أحد ملامح قصورنا نحن المنتسبين إلى السلفية في التعاطي مع قضايا العصر على ضوء قاعدة الأصالة والتجديد التي هي من خصائص المنهج السلفي، ومكتسباته الفريدة من بين المناهج الأخرى.
أعلمُ أن الأصل أن لا مشاحّة في الاصطلاح، وذلك لأن أغلبها نشأ وترعرع تحت ظل اللغة، وعاش في كنفها؛ فالمصطلح هو أداة التعبير والبيان في كافة اللغات، فهذه القاعدة تُفهم في هذا السياق، وتتقيد بعدم احتمال المصطلح لمعنى باطل، وإلاّ فلا يقبل، ولا يردّ بإطلاق، وإنما يستفصل عنه، فيُقبل ما فيه من الحق، ويُردّ ما فيه من الباطل، ويُتحفّظ على المصطلح.
بقي أن أشير إلى أن المصطلحات الفكرية منها ما هو متصالح مع اللغة والشرع، ومنها ما هو متجافٍ عنهما بدرجات متفاوتة، وهذا الأخير على مقامين؛ ما يحمل إيحاءات سلبية تجاه المناهج الصحيحة، وما ليس كذلك، والتفريق بين هذين المقامين عند التعامل معهما يجري تحت قاعدة فقه الأولويات، وهو مقتضى الحكمة {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} بل إن المقام الثاني وهو ما لا يحمل إيحاءات سلبية قد يقترب إلى حد ما من قاعدة أن لا مشاحّة في الاصطلاح على المستوى الفكري بحسب النظر الخاص لكل مفهوم، وآثاره المترتبة عليه.
 
إنني أدعو في هذا المقام إلى المشاركة في صناعة المفاهيم والمصطلحات بما يوافق اللغة، والشرع، وإلى تصحيح ما أخذ منها سياقاً تاريخياً، وفكرياً محرفاً، بدلاً من الموقف السلبي تجاهها، فضلاً عن الاستهلاك، والمشاركة في ترسيخها، وتتأكد هذه الدعوة إذا كان المصطلح يتجاوز بعده إلى أبعاد أخرى تؤثر على الأفكار والمعتقدات الصحيحة.


الكـاتب: ماهر القرشي
 

 

المصدر: المختار الإسلامي