الإسلاميون والإنصاف

أن تكونَ منصفاً هو أمرٌ غايةٌ في الروعة والصعوبة في آنٍ واحد. وإليكَ أيها القارئُ الكريمُ البيان...

  • التصنيفات: محاسن الأخلاق -


أن تكونَ منصفاً هو أمرٌ غايةٌ في الروعة والصعوبة في آنٍ واحد. وإليكَ أيها القارئُ الكريمُ البيان:

إنَ الإنصاف كلمةٌ تعني اتباعَ الشرعِ لا اتباعَ الهوى، وتعني العلمَ لا الجهل، وتعني الوسط بين المنحرفين والثبات بين المتفلتين والأصالة بين المضطربين، المنهجُ في الإنصاف هو كتابُ الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده وسلفُ الأمةِ من العلماءِ الصادقين الناصحين، الإنصاف أن تقولَ الحقَ ولو على نفسك، أن تقولَ للمحسنِ: أحسنت، وللمسيء: أسأت، الإنصاف أن تجعلَ لكلِ شيء قدرا، الإنصاف أن تؤمنَ أن العصمةَ دفنت بموتِ النبي صلى الله عليه وسلم، الإنصاف أن تقبل نقدكَ وألا تتعصبَ لنقدِ جماعتك، الإنصاف ألا تسبَ وتشتمَ من خالفك، الإنصاف أن تحترم رأي المخالف طالما يستندُ إلى دليلٍ من قرآنٍ وسنة، الإنصاف ألا تكونَ كما النساء في كفرانهن للعشير، الإنصاف ألا تطمسَ سجلات حسناتِ شخصٍ إذا أصابَ سيئة، الإنصاف أن تعطي كلَ ذي حقٍ حقه، الإنصاف أن تنصحَ مخالفك أولاً قبلَ التشهيرِ به، الإنصاف أن تدعو لما يوافقُ الكتابَ والسنة لا ما يوافقُ منهجك أنت.

إن الإنصاف أيها الكرام أمرُ غايةُ في الروعة لأنه يستمدُ جلاله وبهائه من الشريعةِ الإسلامية التي ندعوا لتطبيقها التي دعت إليه وحثت الناس على انتهاجه في الحكمِ بين الأشخاص، قال الله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء: 58]، وقال جلَ شأنه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة: 8]، وأمرَ اللهُ تعالى به في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]. وتتجلي في سيرة النبي (القدوة) أعظمُ معاني الإنصاف حيث يقولُ صلى الله عليهِ وسلم: «وأيمُ الله لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقت لقطعتُ يدها» (البخاري: 3475) حيثُ تطبقُ الحدود وتسري على فاطمة ابنةُ سيدِ الأنبياء وخاتمِ المرسلين.

والإنصافُ كذلك أمرٌ في غايةِ الصعوبة لأنه يقودُ النفسَ ويدفعها أغلبَ الأقاتِ على الصدعِ بما لا تحبهُ دائماً، حتى وردَ أن بعضَ المحدثين كانَ يقول: إن ابني هذا كذاب! لئلا يسمعَ أحدٌ حديثَ رسولِ الله من ابنه فلذةُ كبده وسليلُ نسبه فيحدثه بالكذب! والإنصاف غايةُ في الصعوبة لأن النفس البشرية تميلُ بطبعها إلى الهوى الذي حذرنا الله تعالى أن يكونَ مسوغاً لتركِ الإنصافِ بقولهِ تعالى: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا} [النساء: 135]. ورحمَ الله الإمام مالك حينما كانَ يقول: أقلُ شيء في زماننا الإنصاف، فعلقَ عليها الإمام القرطبي قائلاً: فكيفَ لو رآى زماننا وقد كثرَ فيه الفساد، وأقولُ: فكيف لو رأى الإمامان زماننا وقد عزَ فيه الإنصافُ وشح، وعلا صوتُ ناقوسِ التملقِ وارتفع !

ومن الإنصافِ أيضاً ألا نظلَ نطنطنُ بتاريخنا المشرف أو بكفاحنا المر طوالَ سنواتِ الماضي ونجعلُ هذا الكفاح السابق ذريعةَ لتبريرِ أخطائنا ومسوغاً لتمريرِ أعمالنا، وفي دروسِ السيرةِ النبوية ما يعلمنا كيفَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعدَ ثلاثة عشر عاماً من كفاح المسلمين في مكة وتعذيبهم وصبرهم على الأذى يقولُ: «لا إيمانَ لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» (صحيح الجامع: 7179) فليست العبرةُ بمن سبق وإنما بمن صدق.

ومن الإنصافِ أيضاً ألا تتعصبَ لرأي شيخك، تضيفُ عليه هالة من القدسية والأبهة، توالي وتعادي عليه، وإنما يسعكَ أن تأخذَ برأي شيخكَ الذي تقلده مع عدم الإنكارِ والتشنيعِ على من يخالفه ويتبعُ رأي من يقلده من العلماء. ومن الإنصافِ أيضاً أن تحترمَ العلماء وأن توقرهم وأن تعرفَ لهم فضلهم، حتى وإن خالفتهم في رؤيةِ أو وجهة، وإن كنتَ أعلمَ منهم بعلومِ الدنيا فاحفظْ لهم قدرهم وفضلهم في علومِ الدين.

ومن الإنصاف أن تعترفَ بالسبقِ والفضل لمن طالبَ بالحرية وتلمسها في مظانها، وأن تثمنَ جهده وسعيه، بدلَ أن تقللَ من شأنهِ وتزدري فكره ومظهره وملبسه، وكذلك أن تعترف بخبراتِ ومهاراتِ المتخصصين وألا تساوي من يَعْلمُ بمن لا يَعْلم، وكذلكَ ألا تحجرَ على فكرِ أحدٍ أو تزدريه بدعوى قصرِ عقله وضيقِ فهمه.

معاشر العاملين لدينِ الله تعالى (أيها الإسلاميون)، إذا أردنا تطبيق الشريعة الإسلامية فعلينا أن نطبقها في أنفسنا أولا، علينا أولاً أن نتجردَ من الإخلاصِ إلا لله جل وعلا، علينا أن نصوبَ وجهاتنا جميعاً إلى رضا الله تعالى والفوزَ بالجنة، لا رضا غيرهِ والفوزَ بالبرلمان، فالبرلمان والسلطة ليسا نهايةَ المطاف؛ وإنما هناك حساب وثواب وعقاب وجنةٌ ونار.

وكيفَ نبتغي تطبيقَ الشريعةِ الإسلامية وقد شِهدَ القاصي والداني ذلكَ التكالب المستعر بين كثيرٍ من الإسلاميين حول مقاعدِ البرلمان، بصورةٍ جعلت الكثيرين يتسائلون: هل باتَ البرلمانُ غاية بعد أن كانَ وسيلةً لتطبيقِ الشريعةِ الإسلامية!!؟ والجوابُ يملكهُ الإسلاميون بأيديهم، يملكون تحسينَ الصورةِ الجميلة التي جعلوا من تجاوزاتهم وتصريحاتهم المتبادلة مادةً دسمة لإعلامٍ مبتذل ليشوهها ويصيدَ في الماءِ العكر، كذلكَ لابدَ للجميع من وقفةٍ صادقةٍ مع ربه، يسأله فيها أن يجعلَ عملهُ كله صالحا، وأن يجعلهُ لوجهِ خالصا.

وكما أنني أوجهُ النصحَ لجناحا التيار الإسلامي الرئيسين، فإن النصحَ أيضاً موصول للشباب الإسلامي من النشطاءِ والمستقلين أو ما يعرف بالتيار الثالث -والذي أجدُ نفسي أكثرَ ميولاً إليه-، فكما أن من الإنصاف إعطاءُ كلَ ذي حقٍ حقه، فليسَ من الإنصافِ تجاوزُ الحدود بسبابٍ أو شتمٍ أو تخوين، فالإصلاح المرتقب والتجديد المرجو في صفوف التيار الإسلامي لن يكونَ بسبابٍ أو شتمٍ حتى ولو كان دفاعاً عن حق، واذكروا دائماً مقولةَ الإمامِ مالك رحمهُ الله: "إذا رأيت الرجل يدافعُ عن الحق وهو يسبُ ويشتم فاعلم أنهُ معلولُ النية".
 

إذا مَا رُمْتَ إنْصافاً تُسرُ لأجلهِ *** فَكنْ مثلما ترجو مِنَ الإنصافِ
 

عاصم الشوادفي
 

المصدر: شبكة المخلص