هذه هي الصوفية

مر عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وجيل الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين، وتابعيهم رحمهم الله، دون أن يكون لهذا الفكر أثر واضح، حتى حدث وظهر في نهاية القرن الثاني، والصوفية يقرون بهذا، لكن من جهة اللفظ دون المعنى. يقول النواوي: "فأما كلمة التصوف؛ فقد أجمع الكاتبون في هذا المقام على: أنها من الكلمات الاصطلاحية التي طرأت في أواخر القرن الثاني للهجرة".

  • التصنيفات: الملل والنحل والفرق والمذاهب -

مما لا يُختلف فيه أن الفكر الصوفي حادث في الإسلام.


فقد مرَّ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وجيل الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين، وتابعيهم رحمهم الله، دون أن يكون لهذا الفكر أثر واضح، حتى حدث وظهر في نهاية القرن الثاني، والصوفية يقرون بهذا، لكن من جهة اللفظ دون المعنى. يقول النواوي: "فأما كلمة التصوف؛ فقد أجمع الكاتبون في هذا المقام على: أنها من الكلمات الاصطلاحية التي طرأت في أواخر القرن الثاني للهجرة" (مقدمة التعرف لمذهب أهل التصوف، ص [4]، ويقول أحمد المقرئ: "تصوف الرجل، وهو صوفي، من قوم صوفية، كلمة مولدة" (المصباح المنير)، ص [134]).


فالصوفية يقرون بأن مصطلح (الصوفية) حادث، لكنهم يقولون: الأحوال الصوفية موجودة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، تمثلت في أهل الصُّفّة.


ولأجله ذهب بعضهم إلى أن أصل التصوف مشتق من (الصُّفّة)، وهو مكان كان يأوي إليه الفقراء في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ترجم منهم لأئمة التصوف: جعل أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًا رضوان الله عليهم أوائل الصوفية، ونسب إليهم كلمات في المقامات والأحوال.

والوصف المشترك بين جميع من نُسبوا إلى التصوف من أئمة القرون الثلاثة الأولى هو: الزهد، والمجاهدة؛ الزهد في متاع الحياة الدنيا، ومجاهدة النفس لتهذيبها، ونفي عيوبها.


ونتيجة هذا: تمثل التصوف في الزهد والمجاهدة؛ فكل زاهدٍ مجاهدٍ متصوفٌ، ومن له حال في الزهد والمجاهدة فهو: صوفي. هكذا قال بعضهم.


لكنهم لم يتفقوا على رأي واحد في أصل كلمة (صوفية) واشتقاقها؛ فما قرره بعضهم نقضه آخرون، وقد رجعوا بالكلمة إلى أصول ستة أو سبعة، هي:


1- الصُّفّة:


وبهذا قال أبو عبد الرحمن السلمي: "التصوف مأخوذ من أهل الصُّفّة" (تسعة كتب في أصول التصوف والزهد، ص [365]).

وقال الكلاباذي: "وقال قوم: إنما سموا: صوفية. لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصُّفّة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" (التعرف، ص[27]).


وقال السهروردي: "وقيل: سُموا صوفية؛ نسبةً إلى الصُّفّة.. وهذا وإن كان لا يستقيم من حيث الاشتقاق اللغوي، ولكنه صحيح من حيث المعنى؛ لأن الصوفية يشاكلهم حال أولئك، لكونهم مجتمعين متآلفين، متصاحبين لله، وفي الله، كأصحاب الصُّفّة" (عوارف المعارف [5/ 84]).



2- الصفاء:


قال الكلاباذي: "قالت طائفة: إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها، ونقاء آثارها".

وقال بشر بن الحارث: "الصوفي من صفا قلبه لله" (التعرف لمذهب أهل التصوف، ص [26]).

وقال السهروردي: "قيل: كان الاسم في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك فجعل صوفيًا" (عوارف المعارف [5/ 84]، ذهب إلى هذا الرأي الكلاباذي في (التعرف)، وسيأتي كلامه).

وذكر نيكلسون أن: "جمهور الصوفية ذهبوا إلى أن الصوفي مشتق من الصفاء، وأنه أحد خاصة الله، الذين طهر الله قلوبهم من كدورات الدنيا" (انظر: في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص [66]).



3- الصف الأول:


قال الكلاباذي: "وقال قوم: إنما سموا صوفية؛ لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم إليه، وإقبالهم عليه، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه" (التعرف، ص [26-27]).

وقال السهروردي كقول الكلاباذي: "سموا صوفية؛ لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم، وإقبالهم على الله تعالى بقلوبهم، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه" (عوارف المعارف، [5/ 84]).


4- الصوف:


يقول الطوسي: "نُسبوا إلى ظاهر اللبس، ولم ينسبوا إلى نوع من أنواع العلوم والأحوال التي هم بها مترسمون؛ لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام، والصديقين، وشعار المساكين المتنسكين" (اللمع، ص [41]).

ويقول السهروردي: "ذهب قوم إلى أنهم سموا صوفية نسبة لهم إلى ظاهر اللبسة؛ لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق، ولكونه كان لباس الأنبياء عليهم السلام. فكان اختيارهم للبس الصوف لتركهم زينة الدنيا، وقناعتهم بسد الجوعة، وسترة العورة، واستغراقهم في أمر الآخرة، فلم يتفرغوا لملاذ النفوس وراحتها، لشدة شغلهم بخدمة مولاهم، وانصراف همهم إلى أمر الآخرة، وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق؛ لأنه يقال: تصوَّف؛ إذا لبس الصوف، كما يقال: تقمَّص؛ إذا لبس القميص" (عوارف المعارف، ملحق بالإحياء [5/ 83]، وقد ذهب إلى هذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية [11/ 195]، و ابن خلدون في المقدمة، ص [467]).


5- صوفة:


ذكر ابن طاهر المقدسي القيسراني بسنده إلى الحافظ أبي محمد عبد الغني بن سعيد المقدسي قال: "سألت وليد بن القاسم: إلى أي شيء نسب الصوفي؟ فقال: كان قوم في الجاهلية يقال لهم صوفة، انقطعوا إلى الله عز وجل، وقطنوا الكعبة؛ فمن تشبه بهم فهم الصوفية".

قال عبد الغني: "هؤلاء المعروفون بصوفة، هم ولد الغوث بن مر" (صفوة التصوف، ص [154]).


قال ابن الجوزي: "كانت النسبة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والإسلام، فيقال: مؤمن مسلم. ثم حدث اسم زاهد وعابد، ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد، فتخلوا عن الدنيا، وانقطعوا إلى العبادة، واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها، وأخلاقًا تخلقوا بها، ورأوا أن أول من انفرد به بخدمة الله سبحانه وتعالى عند بيته الحرام، رجل يقال له: صوفة واسمه الغوث بن مر، فانتسبوا إليه، لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، فسُموا بالصوفية" (تلبيس إبليس، ص [161]).


ثم ذكر أثر عبد الغني المقدسي الآنف الذكر، ثم قال: "وبالإسناد إلى الزبير بن بكار قال: كانت الإجازة بالحج للناس من عرفة إلى الغوث بن مر بن أدّ بن طابخة، ثم كانت في ولده، وكان يقال لهم: صوفة. وكان إذا حانت الإجازة قالت العرب: أجز صوفة. قال الزبير: قال أبو عبيدة: وصوفة وصوفان. يقال: لكل من ولي من البيت شيئًا من غير أهله، أو قام بشيء من أمر المناسك، يقال لهم: صوفة وصوفان".


قال الزبير: "حدثني أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: إنما سمي الغوث بن مر صوفة؛ لأنه ما كان يعيش لأمه ولد، فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة ولتجعلنَّه ربيط الكعبة، ففعلت، فقيل له: صوفة، ولولده من بعده" (تلبيس إبليس، ص [161-162]).


6- صوفانة:

قال ابن الجوزي: "وقد ذهب إلى أنه من الصوفانة، وهي بقلة رعناء قصيرة، فنُسبوا إليها لاجتزائهم بنبات الصحراء، وهذا أيضًا غلط؛ لأنه لو نُسبوا إليها لقيل: صوفاني".

وقال: آخرون: "هو منسوب إلى صوفة القفا. وهي الشعيرات النابتة في مؤخره، كأن الصوفي عطف به إلى الحق، وصرفه عن الخلق" (تلبيس إبليس، ص [163].


7- النسبة إلى جميع ما سبق: الصف الأول، والصُّفّة، والصوف، والصفاء:

نحا إلى هذا الرأي الكلاباذي؛ حيث صحح نسبة الصوفية إلى جميع ما ذكر باعتبار المعنى، وإن كان يقر باستحالة ذلك لغة، قال:
"وأما من نسبهم إلى الصُّفّة والصوف؛ فإنه عبَّر عن ظاهر أحوالهم؛ وذلك أنهم قوم قد تركوا الدنيا، ومن نسبهم إلى الصُّفّة والصف الأول؛ فإنه عبَّر عن أسرارهم وبواطنهم. فقد اجتمعت هذه الأوصاف كلها، ومعاني هذه الأسماء كلها في أسامي القوم وألقابهم، وصححت هذه العبارات، وقربت هذه المآخذ. وإن كانت هذه الألفاظ متغيرة في الظاهر؛ فإن المعاني متفقة؛ لأنها إن أخذت من الصفاء والصفوة كانت صفوية، وإن أضيفت إلى الصف والصُّفّة، كانت: صَفية، وصُفِّية.


ويجوز أن يكون تقديم الواو على الفاء في لفظ الصوفية (هكذا في الكتاب، ويفترض أن تكون: (صفوية))، وزيادتها في لفظ الصَفية، والصُفِّية إنما كانت من تداول الألسن. وإن جعل مأخذه من الصوف، استقام اللفظ، وصحت العبارة من حيث اللغة. وجميع المعاني كلها من التخلي عن الدنيا، وعزوف النفس عنها، وترك الأوطان ولزوم الأسفار" (التعرف [27-32]).


وصنيع الكلاباذي ليس بغريب على النهج الصوفي؛ فقد رأيناه في كلام السهروردي حينما قال: "قيل: كان الاسم في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك فجعل صوفيًا" (عوارف المعارف [5/ 84]، ذهب إلى هذا الرأي الكلاباذي في التعرف، وسيأتي كلامه).


والملاحظ في كلامه افتراض أن أصل الكلمة هي: صَفيّة: من الصف، وصُفِّيّة: من الصُّفّة، وصفوية: من الصفاء، وإنما انقلبت إلى (صوفية) بسبب تداول الألسن، حيث زيدت الواو في: صَفيّة، وصُفِّيّة، وتبادل الواو والفاء المواقع في: صفوية، وهذا قول يحتاج إلى دليل، ولم يستند إلى شيء، ولم أره لغيره.



نقد الصوفية لهذه التعريفات:


أكثر هذه الأقوال رواجًا: النسبة إلى الصفاء؛ فقد ذكر نيكلسون أن مقابل كل تعريف ينسب الصوفية إلى الصُّفّة اثنا عشر تعريفًا ينسبها إلى الصفاء؛ وذلك بالنظر في تعريفات الأئمة الصوفية، في المدة بين عام 200 إلى 440 هـ، وقد نقلها في كتابه، ثم قال: "يتبين من النظر في التعريفات أن الزمن الذي وضعت فيه يكاد يقرب من قرنين ونصف؛ لأن أولها هو تعريف معروف الكرخي المتوفى سنة 200هـ، وآخرها تعريف أبي سعيد بن أبي الخير المتوفى سنة 440 هـ، ويتبين أيضًا أنها تعريفات من أنواع مختلفة: إذ منها الثيوسوفي المتصل بأحوال الصوفية، ومنها المتصل بوحدة الوجود، كما أن منها الأخلاقي اللغوي، وهو ما أشبه بالحكم.


وليس في عصرنا الحاضر من ينكر اشتقاق كلمة الصوفي من الصوف، ولكن الناظر في التعريفات التي ذكرناها سيظهر له في وضوح أن الوفية أنفسهم لم يأخذوا بهذا الرأي؛ فإنا نجد في مقابل كل تعريف ينسب الصوفية إلى لبس الصوف، اثني عشر تعريفًا، يشير إلى اشتقاق كلمة الصوفي من الصفاء" (في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص [28]، وكلمة (ثيو سوفي) يونانية، معناها الحكمة الإلهية، ثيو (Theism): الإله؛ سوفي: (Sophy) الحكمة انظر: المعجم الفلسفي [1/ 360] (مادة: التوحيد)، المورد ص [879] مادة (Sophy)).


فهذا ما اشتهر في تعريفات من تقدم من الأئمة المتصوفة: النسبة إلى الصفاء؛ فهو التعريف الشائع المشهور، أما مَنْ بعدَهم فقد صاروا إلى ترجيح النسبة إلى الصوف، على الرغم من أن أئمة الصوفية لم يأبهوا لهذا الرأي، كما ذكر نيكلسون آنفًا، وكما يذكر القشيري والهجويري.


ثم تأتي في المرتبة بعدهما النسبة إلى الصُّفّة وإلى الصف الأول؛ فقد قال بها جمع من المتقدمين، لكن يبدو أن القائلين بالنسبة إلى الصُّفّة أكثر.


وأما النسبة إلى الصوفة، فهي تأتي على معنيين:

الأول: نسبة إلى رجل يدعى: صوفة. وهو الغوث بن مر بن أدّ.
الثاني: نسبة إلى صوفة القفا، وهي: شعيرات مهملة في قفا الرأس.

فهذه النسبة، والنسبة إلى الصوفانة: بقلة تنبت في الصحراء قد ذكرت، لكن ليس على ألسنة المتصوفة، وليس لها اعتبار ثقل يوازي الأقوال الأربعة الأولى، وإن كانت الأربعة فيما بينها متفاوتة، على ما سبق تفصيله.


ويلاحظ أن جميع النسب السابقة لا تصح لغة، باعتراف أئمة التصوف، وإن كان ثبوتها أو بطلانها لغة لا تشترط فيها شهادتهم، بل يرجع إلى اللغة، غير أن إقرارهم مفيد في كل حال.


يقول القشيري: "هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة، فيقال: رجل صوفي، وللجماعة: صوفية، ومن يتوصل إلى ذلك، يقال له: متصوف. وللجماعة: المتصوفة. وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية: قياس ولا اشتقاق. والأظهر فيه: أنه كاللقب. فأما قول من قال: إنه من الصوف؛ ولهذا يقال: تصوَّف؛ إذا لبس الصوف. كما يقال: تقمَّص؛ إذا لبس القميص، فذلك وجه، لكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف. ومن قال: إنهم منسوبون إلى صُفَّة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنسبة إلى الصُّفّة لا تجيء على نحو الصوفي (ومن جهة المعنى كذلك، فلم يكن أهل الصفة متصوفة، ولا خبر لهم بأفكار الصوفية، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في إبطال تصوف أهل الصفة انظر الفتاوى [11/ 37]، [71]، قال ابن الجوزي: "وهؤلاء القوم إنما قعدوا في المسجد ضرورة، وإنما أكلوا من الصدقة ضرورة؛ فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال، وخرجوا، ونسبة الصوفي إلى أهل الصفة غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صفي" (تلبيس إبليس) ص[162-163]).


ومن قال إنه مشتق من الصفاء، فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة. وقول من قال: إنه مشتق من الصف؛ فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم؛ فالمعنى صحيح، ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف. ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ، واستحقاق اشتقاق" (الرسالة القشيرية،[2/ 550-551]).


يلخص القشيري رأيه في كلمات: "وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، والأظهر فيه أنه كاللقب".


لقد رفض هذه النسب جميعًا لغةً واشتقاقًا، ولم يأبه للنسبة إلى الصُّفّة والصفاء من حيث المعنى، إلا الصف؛ فصحح المعنى، ورد الاشتقاق. وأما الصوف، فقد صحح الاشتقاق منه لغة، لكنه حكم ببطلان النسبة إليه، وعلل ذلك بأن القوم لم يختصوا بلبس الصوف.


فالنسب كلها باطلة لغةً إذن، يستثنى منها:
النسبة إلى الصوف.
والنسبة إلى صوفة.


فهاتان النسبتان صحيحتان لغةً، لكن الثانية منها غير مشهورة، فأئمة التصوف كالطوسي، والكلاباذي، والقشيري، والسهروردي وغيرهم، لم يذكروها ألبتة؛ فهي مطّرحة عندهم إذن، ويشكل عليها: أن لقب (صوفية) لم يعرف ولم يشتهر إلا في القرن الثاني، بينما هؤلاء الزهاد والعباد ظهروا في زمن مبكر من القرن الأول في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فلو كان هذا اللقب مستمدًا من هذا الاسم (صوفة) فلِمَ لم يطلق عليهم في ذلك الوقت؟ ولِمَ تأخر حتى منتصف القرن الثاني إلى نهايته؟ فالاسم (صوفة) موجود منذ الجاهلية، والمنقطعون الزهّاد العبَّاد موجودون، ومع ذلك لم يطلق عليهم اسم (صوفية) حتى حل القرن الثاني، ومر نصفه، ثم بدأ هذا الاسم بالظهور، كما ثبت بالبحث التاريخي؛ فهذا مما يضعف هذه النسبة.


فلم تبق نسبة صحيحة منها، من حيث اللغة، سوى النسبة إلى الصوف، فهذه مقبولة لغة. أما من حيث المعنى فقد رُدّت كذلك بأقوال أقطاب التصوف كالقشيري والهجويري، وإن كانت مقبولة عند غيرهما كالطوسي والسهروردي.


والنتيجة التي نخرج بها من هذا العرض: أن الصوفية لم يتفقوا على نسبة معينة، فإذا اطَّرحنا ما ثبت بطلانه لغةً، وهو الواجب؛ لأنه لا وجه لإثبات نسبة خاطئة لغة إلا سفسطة، بقيت النسبة الصحيحة لغةً: (الصوف)، وهذه أيضًا لم تسلم من النقد والرد، وكان علة ذلك، كما ذكر القشيري أن القوم لم يختصوا ولم يشتهروا به. قال: "القوم لم يختصوا بلبس الصوف" (الرسالة [2/ 550-551]، رجَّح شيخ الإسلام ابن تيمية أن التصوف من لبس الصوف، وجاء هذا المعنى عند بعض المتقدمين كما في (تلبيس إبليس)، ووجه الاختصاص بالصوف؛ لأنهم يلبسونه على سبيل التزهد والتعبد، وكان النصارى يفعلون شيئاً من ذلك انظر منهاج السنة النبوية [4/ 43]).


وشهادة القشيري خطيرة، فيها نقض لقول من ادعى أن الصوفية اشتهروا بلباس الصوف، شهد بها إمام عارف من أئمة الصوفية المتقدمين، العارفين بأحوال بدايات التصوف؛ حيث عاش في القرنين الرابع والخامس [377-465]، فهو من الجيل الثالث أو الرابع، والتصوف إنما نشأ في هذه الأجيال الممتدة ما بين القرن الثالث إلى الخامس، وكل ما لم يكن في هذه المدة فليس من التصوف قطعًا؛ لأن أهلها هم أئمة المذهب، وواضعوا أسسه، لا يختلف على هذا أحد.


ومما يعطي الشهادة قيمة أكبر، أنَّا لم نسمع بإمام صوفي انبرى للرد عليه وإبطال زعمه هذا، فسكوتهم دليل موافقتهم له، ويبعد أن يكونوا غير مطلعين على كتابه، بل يستحيل، فكتابه (الرسالة) من أشهر كتب التصوف، فمن الذي لا يعرفه من الصوفية؟ بل سايره على هذا الرأي ووافقه إمام آخر معاصر له هو الهجويري، حيث قال: "واشتقاق هذا الاسم لا يصلح على مقتضى اللغة، من أي معنى؛ لأن هذا الاسم أعظم من أن يكون له جنس يشتق منه، وهم يشتقون الشيء من شيء مجانس له، وكل ما هو كائن ضد الصفاء، ولا يشتق الشيء من ضده، وهذا المعنى أظهر من الشمس عند أهله، ولا يحتاج إلى العبارة" (كشف المحجوب،[1/ 230-231]).




القول الراجح في نسبة الصوفية:


بقيت نسبة أخيرة لم يذكرها أحد من المتصوفة؛ فقد رجع بعض الباحثين والمؤرخين المختصين بعلوم الديانات القديمة: الهندية والفلسفية من غير المتصوفة، بالكلمة إلى أصل يوناني، هو كلمة: (سوفيا)، ومعناها: الحكمة.


وأول من عرَّف بهذا الرأي: البيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) وتبعه عليه جمع، خصوصًا الباحثين المعاصرين، وفيما يلي أقوال الذين يقررون أجنبية المصطلح والفكرة عن البيئة الإسلامية:


1- يقول أبو الريحان البيروني مبينًا أصول التصوف في الفكر الفلسفي الهندي: "ومنهم من كان يرى الوجود الحقيقي للعلة الأولى فقط، لاستغنائها بذاتها فيه، وحاجة غيرها إليها، وأن ما هو مفتقر في الوجود إلى غيره فوجوده كالخيال غير حق، والحق هو الواحد الأول فقط.

وهذا رأي (السوفية) وهم الحكماء، فإن (سوف) باليونانية الحكمة، وبها سمي الفيلسوف (بيلاسوفا)، أي محب الحكمة.

ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم، سُموا باسمهم، ولم يعرف اللقب بعضهم فنسبهم للتوكل إلى (الصُّفّة)، وأنهم أصحابها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صُحّف بعد ذلك، فصُيّر من صوف التيوس" (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ص[27]، وفي قول البيروني جواب لقول من قال: لو كان (صوفي) مأخوذاً من (سوفيا) لقيل: (سوفي)، انظر (التصوف في الإسلام)، عمر فروخ، ص [24-29]).


2- وبهذا قال كل من المستشرق الألماني فون هامر، ومحمد لطفي جمعة، وعبد العزيز إسلامبولي وذهبوا إلى ما ذكره البيروني آنفًا (انظر: التصوف المنشأ والمصادر، ص [33]، قضية التصوف، المنقذ من الضلال، ص[32]).



3- المستشرق نيكلسون في كتابه (الصوفية في الإسلام) قال: "وكلمة Mystic التي انحدرت من الديانة الإغريقية إلى الآداب الأوروبية، يقابلها في العربية والفارسية والتركية، لغات الإسلام الثلاث الرئيسة، كلمة (صوفي)، واللفظان على كل حال ليسا مترادفين تمامًا؛ لأن للفظة الصوفي مدلول ديني خاص، وقد قيدها بالصوفية الذين يدينون بالدين الإسلامي، والكلمة العربية وإن اكتسبت على مدى الأيام مدلول الكلمة الإغريقية الواسع: شفاه مقفلة بالأسرار القدسية، وعيون مغمضة على النشوة الحالمة؛ إلا أن مدلولها كان متواضعًا يوم جرت على الألسنة لأول مرة، حوالي نهاية القرن الثاني الهجري" (ص[10]، عن كلمة (Mystic) ومعناها، ومرادفاتها في اللغات الأخرى، انظر: المعجم الفلسفي [1/ 282]،[747]).


الشاهد من كلامه: أن الكلمة اكتسبت مدلول الكلمة الإغريقية على مدى الأيام؛ فهذا الرأي يرجع بمضمون الفكرة إلى جهة إغريقية، وهذا هو المهم.


4- إبراهيم هلال قال: "على أن الأصل في تسمية هذا المذهب بالتصوف، وأصحابه بالصوفية، يوقفنا على أن التصوف في أصله إنما هو استيراد أجنبي، ليس للإسلام فيه شيء، لا في نشأته، ولا في طريقته المتزيدة، ولا في غايته أو غاياته المتعددة" (قطر الولي، ص[181]).


5- الدكتور محمد جميل غازي، الذي قال: "الصوفية كما نعلم اسم يوناني قديم مأخوذ من الحكمة (صوفيا) وليس كما يقولون إنه مأخوذ من الصوف" (الصوفية الوجه الآخر، ص [47]).


6- المقبلي قال: "فالتصوف ليس من مسمى الدين؛ لأن الدين كَمُلَ قبله، أعني دين الإسلام، ولا هو من النعمة؛ لأنها تمت قبله، وليس التصوف داخلًا في مسمى الإسلام؛ لأن الإسلام تم قبله، وهم معترفون بالغيرية؛ فحينئذ هو بدعة ضلالة"  (العلم الشامخ، ص [470]).


ولهذا الرأي أدلة ترجحه على النسب السابقة، وبخاصة النسبة إلى الصوف؛ فمن ذلك:

أولًا: التشابه ما بين كلمتي (صوفية) و(سوفية) في اللفظ والرسم، وجواز التبديل بين حرفي السين والصاد.

ثانيًا: اتحاد مدلول الكلمتين: (سوفية)، (صوفية)؛ فمدلولهما: الحكمة.

يبين هذا: أن الصوفي عند الصوفية هو الحكيم، وهو صاحب الحكمة. لذا يكثر دورانهم على هذا المعنى، ويجعلونه وصفًا لازمًا للصوفي؛ فمن لم يكن حكيمًا فليس له حظٌّ من اللقب، هكذا يقرر ابن عربي وغيره فيقول: "ومن شروط المنعوت بالتصوف: أن يكون حكيمًا ذا حكمة؛ وإن لم يكن فلا حظَّ له من هذا اللقب" (الفتوحات المكية، [2/ 266]).


وكلمة (سوف) باليونانية تعني الحكمة كذلك، والفيلسوف هو محب الحكمة، وفق ما ذكر البيروني آنفًا. فإذا كانت الحكمة هي التصوف، والحكيم هو الصوفي.. والحكمة هي (سوف)، والحكماء هم السوفية، فأي اتفاق بعد هذا؟

يقول نيكلسون: "بعض الباحثين من الأوروبيين يردها إلى الكلمة الإغريقية: سوفوس، بمعنى ثيوصوفي" (الصوفية في الإسلام، ص [11]).

وكلمة ثيوصوفي معناها: الحكمة الإلهية. (ثيو = إله)، (صوفي = الحكمة) (كلمة (ثيو سوفي) يونانية، معناها الحكمة الإلهية، ثيو (Theism) الإله؛ سوفي. (Sophy): الحكمة انظر: المعجم الفلسفي [1/360] (مادة: التوحيد)، المورد ص [879]، مادة (Sophy)).


ويقول عبد الواحد يحيى، وهو فرنسي معاصر، أسلم وتصوف: "وأما أصل الكلمة؛ فقد اختلف فيه اختلافًا كبيرًا، ووضعت فروض متعددة، وليس بعضها أوْلى من بعض، وكلها غير مقبولة، إنها في الحقيقة تسمية رمزية. وإذا أردنا تفسيرها، ينبغي لنا أن نرجع إلى القيمة العددية لحروفها، وإنه لمن الرائع أن نلاحظ: أن القيمة العددية لحروف (صوفي) تمثل القيمة العددية لحروف (الحكيم الإلهي). فيكون الصوفي الحقيقي إذن هو: الرجل الذي وصل إلى الحكمة، إنه (العارف بالله)؛ إذ أن الله لا يُعرف إلا به" (قضية التصوف، المنقذ من الضلال، عبدالحليم محمود، ص[32]، وانظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، فهد الرومي [1/ 359] والمذكور فرنسي الأصل، كان اسمه: رينيه جينو انظر: م س قضية التصوف).


وتأتي قيمة هذا النص، من كونه في نظر الدكتور عبد الحليم محمود: صوفيًا متحققًا بالتصوف، من العارفين بالله 
(انظر: قضية التصوف، المدرسة الشاذلية، ص [281])، وهذه شهادة من صوفي كبير، لا خلاف في إمامته، وعليه فهذا الفرنسي المسلم المتصوف، إنما يعبر عن التصوف بعمق وإدراك لحقائقه إذن.


ثالثًا: مضمون التصوف يوافق مضمون الفلسفة (سوفية)، فكلاهما يرميان إلى التشبه بالإله، وهذا يتبين من تعريف التصوف والفلسفة:


قال الجرجاني: "الفلسفة التشبه بالإله بحسب الطاقة البشرية، لتحصيل السعادة الأبدية، كما أمر الصادق صلى الله عليه وسلم في قوله: «تخلَّقوا بأخلاق الله»(لا أصل له (السلسلة الضعيفة) للألباني، رقم [2822])؛ أي تشبهوا به في الإحاطة بالمعلومات، والتجرد من الجسميات" (التعريفات، ص [73]).

وابن عربي يقول:
فاعلم أن التصوف تشبيه بخالقنا *** لأنه خلق فانظر ترى عجبًا (الفتوحات، [2/ 266]).


رابعًا: كان عند قدماء اليونان: مذهب روحي يعتنقه النُسَّاك والزُهَّاد، ينأون بجانبهم عن الدنيا، ويلجؤون إلى أنواع المجاهدات والرياضات الروحية، يتقربون بأرواحهم إلى خالقهم، لتلقِّي الحكمة والمعارف القدسية، كان يطلق عليهم لقب (تيو صوفية)، ومعناه: الحكماء الإلهيون. وإذا تأملنا هذا المذهب، وما يدعو إليه الصوفية، وجدناهما سواء، كما أنهما سواء في اللقب (انظر: أضواء على التصوف، طلعت غنام، ص [66]).


خامسًا: من هذا القبيل طائفة من الهنود القدامى، كانوا يُعرفون باسم (جيمنو صوفيا) ومعناه: الحكيم العاري. كانوا يقضون حياتهم في السياحة، متأملين الله تعالى. وهذا أيضًا مذهب يعتنقه صوفية الإسلام: السياحة، والتأمل (نشأة الفكر الفلسفي، [3/ 42]).


إذن هي فكرة قديمة، تجتمع كلها في لقب الحكمة (صوفية أو سوفية).



ولهذا الرأي إشارة محتملة في كلام القشيري والهجويري، اللذان قررا أنها كلمة جامدة غير مشتقة، وربما سبب جمودها كونها أعجمية.. نعم! يوجد في العربية ألفاظ جامدة، والكلمات المعرّبة كذلك جامدة، وليس هذا بحثنا، إنما تحرير كلام هؤلاء الذين نفوا اشتقاقها؛ فإنه يحتمل الإشارة إلى أجنبيتها؛ فلنُعِد النظر فيما قاله القشيري والهجويري في هذا المقام.

قال القشيري: "وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، والأظهر فيه أنه كاللقب.. القوم لم يختصوا بلبس الصوف" (الرسالة، [2/ 550-551]).

وقال الهجويري: "واشتقاق هذا الاسم لا يصلح على مقتضى اللغة، من أي معنى" (كشف المحجوب، [1/230-231]).


وإذا أضفنا إلى ذلك ما ذكره المستشرق نيكلسون بقوله: "ولكن الناظر في التعريفات التي ذكرناها، سيظهر له في وضوح أن الصوفية أنفسهم لم يأخذوا بهذا الرأي؛ فإنا نجد في مقابل كل تعريف ينسب الصوفية إلى لبس الصوف، اثني عشر تعريفًا، يشير إلى اشتقاق كلمة الصوفي من الصفاء" (في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص [28]).



إذن النتيجة المهمة هنا:

- أن القوم لم يختصوا بلبس الصوف.
- ولا يشهد لاسم (صوفية) من حيث العربية، قياس ولا اشتقاق.
- والصوفية لم يأخذوا بهذا الرأي.


فالقشيري استظهر أنه لقب، ومنع هو والهجويري أن يكون له أصل لغوي.


كل هذه إشارات إلى أعجمية الكلمة، وإن لم يصرحا بذلك، وإن حاولا التفلت من هذه النتيجة بأشياء، من قبيل تعظيم الاسم أن يكون له جنس يشتق منه، كما فعل الهجويري، غير أن هذا التسليم بمنع اشتقاق الكلمة لغةً، مع استظهار القشيري أنها لقب، يرجِّح أن الكلمة أعجمية، يدل على هذا أن أحدًا من أهل اللغة لم يقل في هذه الكلمة إنها جامدة، كما قيل في لفظ الجلالة (الله).

بل الذي قالوه إنها كلمة مولدة. يقول أحمد المقرئ: "تصوَّف الرجل، وهو صوفي، من قوم صوفية، كلمة مولدة" (المصباح المنير، ص [134]).


وكأنهما عرفا بذلك، وهذا محتمل، لكن لم يكن من السهولة التصريح بأن أصل الكلمة يونانية فلسفية، تدل على مذهب قديم، له قواعد وأصول معروفة تتشابه مع أصول الصوفية في الإسلام؛ فمثل هذا لا يمكن أن يفصح به إمام صوفي، وإلا كان عونًا على نقض مذهبه.


فالكلمة إذن ليست عربية، بل هي يونانية، أصلها: (سوفية)، ولما دخلت إلى العربية، بدخول فلسفتها ومضمونها، غُيّر حرف السين فأشبع فصُيّر صادًا، إما عمدًا أو اتفاقًا، لقرب المخارج، فدخلت الكلمة في العربية لفظًا ومعنى، ساعد عليه جواز قلب السين صاد في اللغة العربية (شاهد هذا ما ورد عن أئمة القراءات جواز قراءة قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] بالسين بدل الصاد).


واستفادوا من هذا التحوير التعمية والتضليل عن أصل الفكرة؛ فهم (صوفية) في الظاهر، نسبة إلى اللباس، وفي الباطن (سوفية) نسبة إلى الفلسفة اليونانية الهندية. يقول الدكتور عمر فروخ: "كانوا، في حال اجتماعهم مع غيرهم، يحافظون على ظاهر الدين الإسلامي، وعلى فرائضه، أما في خلواتهم، وفيما بينهم، فكان لهم أشياء يستحي العاقل من ذكرها" (التصوف في الإسلام، ص [20-21]).



لطف الله بن عبد العظيم خوجه 

لطف الله بن عبد العظيم خوجه

 

المصدر: مجلة البيان