بالقانون الإلهي أم بالمؤامرة انهارت قوى الأمة؟

محمد سلامة الغنيمي

لاشك أن الأمة الإسلامية تمر في هذه الآونة بمرحلة هي الأخطر في تاريخها الطويل، فقد واجهتها الكثير من النكبات والكبوات التي بلغت من الشدة مبلغا، إلا أنها لم تكن مثل هذه النكبة، التي تكمن خطورتها في بعد الأمة عن عقيدتها، وترددها تجاه الشرق تارة والغرب أخرى، تنشد الخروج من أزمتها والنهوض من كبوتها، من خلال نظم وأيديولوجيات وضعية زادت من نكبتها.

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد العالمين.

 

لاشك أن الأمة الإسلامية تمر في هذه الآونة بمرحلة هي الأخطر في تاريخها الطويل، فقد واجهتها الكثير من النكبات والكبوات التي بلغت من الشدة مبلغا، إلا أنها لم تكن مثل هذه النكبة، التي تكمن خطورتها في بعد الأمة عن عقيدتها، وترددها تجاه الشرق تارة والغرب أخرى، تنشد الخروج من أزمتها والنهوض من كبوتها، من خلال نظم وأيديولوجيات وضعية زادت من نكبتها.


 

وترتب على التبعية الفكرية تبعية سياسية، تصل أحياناً إلى حد العمالة، فضلاً عن التدني الإقتصادي، والاهتراء الفكري، والتسطح العلمي، وناهيك عن الضعف العسكري في الإعداد والعتاد، والتفكك الاجتماعي وكثرة النزاعات التي مزقت جسد الأمّة الواحد إلى أشلاء متفرقة يضعف بعضها بعضاً، لاسيما وقد غابت القيم والأخلاق الإسلامية الأصيلة، واستُبدلت بقيم وأخلاق وافدة..


 

ومن هنا أصبح من الواجب على أصحاب الأقلام والمصلحون من أبناء هذه الأمّة أن يجتهدوا في النهوض بأمتّهم باحثين في العلل والأسباب التي ساقتهم إلى هذا الواقع الأليم، عاملين فكرهم في وسائل معالجة هذه العلل، حتى تعود الأمة سابق عهدها ومكانتها التي نعتها الله بها في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وتؤدى دورها المنوط بها في إقرار العدل والسلام في ربوع الأرض، ودعوة الناس إلى توحيد الله تعالى.


 

ويعزو الكثير من الكتاب والباحثين مظاهر الضعف التي حلت بالأمة إلى نظرية المؤامرة، ورغم إيماننا الكامل بصدق هذه النظرية، وصحة ما تؤول إليه، والأيام والوقائع تثبت صحتها يوما بعد يوم، ولقد أثبتنا في أكثر من مقال مدى ما تتعرض له الأمّة من مكائد ومؤامرات تتخفي في كل الأقنعة وتتزين بمختلف الأزياء، إلا أنه من الخطأ أن نجعل منها شماعة لأخطأنا، وعلة لتقصيرنا والتعويل عليها أكثر من اللازم.


 

فالصراع بين الحق والباطل قديم بدء مع بث الروح في المخلوق البشرى الأول، فمنذ أن أقسم إبليس قسمة الملعون {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، كانت هذه هي بداية المؤامرة، أما نهايتها فتكون عند شروق الشمس من مغربها إيذانا بزوال الدنيا {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [ص:79-80].


 

وقد تسلح إبليس قائد هذه النظرية وإمام أصحابها وممثل الباطل بأفتك أنواع أسلحة المكر والدهاء {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64]، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120].


 

ورغم ذلك فقد انتصر الحق في مواطن كثيرة وفي فترات زمنية متباينة على أيدي أجيالا متعاقبة، رفعوا لواء الحق وأقرّوا العدل وحطموا الطواغيت وعبدوا الله وحده، فلم تثنيهم الشياطين ولم تعوّقهم مؤامرات المتآمرين، رغم وجودهم وقوة أسلحتهم وعدم اختلافها عن أسلحة اليوم، فهي هي وإن اختلفت الوجوه.


 

   إذن هناك فئة من نسل الإنسان الأول تترست بسلاح لا تجدي معه المؤامرات مهما بلغ خبثها، ومهما عظم كيدها، هذا السلاح هو السر المعلن لمن هداه الله إليه، وهو الرمز الذي يجعل معطيات معادلة القوة تعطى نتائج عالية مهما كان ضعفها وهوانها، وهذه الفئة هي التي استثناها إبليس وأخرجها من نطاق مكائده ومن دائرة مؤامراته هو وحزبه على حد سواء، {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:83]، هؤلاء المخلصين هم الذين تعهد الله تعالى بالصدِّ عنهم وإبطال مكائد أعدائهم، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10].


 

وهنا نصل إلى القاعدة الربانية والقانون الإلهي الذي لا يحابى أحد ولا يجامل طرفاً على آخر من أطراف الصراع الدائم بين الحق والباطل، بين حزب الله وحزب الشيطان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ . أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا . ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:7-11]، فمثّل أولئك الذين أضلهم إبليس وجنوده حزب الشيطان، وأولئك الذين اتبعوا سبيل الله وأخلصوا له حزب الله.


 

   من هذا القانون الإلهي نستخلص أن الإيمان فقط لا يجلب النصر، بل لابد أن يضاف إليه الشرط الأساسي وهو نصر الله بنصر دينه، وأن من استهان بهذا الشرط واكتفي بمجرد الإيمان القلبي تمكن منه أعدائه ونالوا منه.


 

  والصراع بين الحزبين مستمر على الدوام، طالما كانت هناك حياة على البسيطة، وقد أيد الله تعالى حزبه، بالحفظة من الملائكة وبالرسل المبشرين المنذرين وبالكتب السماوية لهداية الناس وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.


 

فإذا سلك حزب الله طريقهم المستقيم واتبعوا الرسل واهتدوا بالكتب كان النصر حليفهم والعزة نصيبهم، أما إذا سلكوا الطرق المعوجة، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، والتمسوا الهدى في غير كتب ربهم، أنتابهم الضعف وحل بهم الهوان ووجد حزب الشيطان في بنائهم خللاً ومنافذ يتسللون من خلالها يبثون سمومهم, وينفذون مؤامراتهم،وينصبون شراكهم، إلى أن تنهار قوتهم وتخور عزيمتهم وتزول هيبتهم، فينقضون عليهم ظافرين بهم، ولو أن حزب الله ظلّوا على عهدهم سائرين في طريقهم متمسكين بهدى ربهم لما تخللهم الضعف، وصاروا لقمة سائغة لعدوهم.


 

ولهذا نقول أن الأمة شعوباً وحكاماً هم الذين مكنّوا عدوهم منهم، بإذن الله تعالى ومشيئته، كما بين سبحانه في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]، مكنهم الله تعالى منهم بما كسبت أيديهم، عتاباً وإنذاراً من الله تعالى لهم، حتى تستنهض الهمم وتثور العزائم وتثوب الأمة إلى بارئها، وتعود تائبة إلى خالقها.


 

فإن الله قد وضع سنناً كونية لا تتغير ولا تتبدل ولا تحابى أحد، حتى لو كانوا خير أمة أو خير جيل، هي أن الجزاء من جنس العمل وأن الدعم الإلهي لا يستحقه إلا من عمل بمقتضاه، فمن سار على درب عباد الله المخلصين أستحق هذا الدعم، ومن نأى بنفسه عنهم وسلك طريقاً غير طريقهم، كان حظه مما كسبت يداه.


 

قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:48]، وقال تعالى: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:94].

 

وقد ضرب الله تعالى مثلاً في كتابه العزيز بين فيه سر القوة والنصر والغلبة وجنة الدنيا من الاطمئنان والأمان والرفاهية، تكمن في الإيمان به سبحانه، وإن نار الدنيا من ذل وهوان وضعف وفقر يكمن في معصية الله، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].


 

وقد صدق الله تعالى قانونه على قبيلة سبأ التي كانت تتنعم في جنة الدنيا المادية والنفسية، والتي قد تحولت إلى نار الدنيا بمقتضى القانون الإلهي لمجرد إعراضهم، وبإعراضهم هذا زالت عنهم المتاريس التي كانت تحميهم من مكائد إبليس وجنده، وصدق عليهم ظنه بإغوائهم وتضليلهم من خلال مكائده ومؤامراته، ولم يكن ليتسلط عليهم إلا يوم أن أعرضوا وتولوا.


 

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ . ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ . وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ . فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ . وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ:15-21].


 

إذن هذه الأمم التي تتداعى وتتآمر علي ديننا، ما هم إلا سوط من سياط الله تعالى سلطه الله علينا جزاءاً بما كسبته أيدينا واقترفته ألسنتنا وأتبعته جوارحنا، لعلنا نستيقظ من سباتنا ونتدارك أخطائنا ونئوب إلى ربنا, قال تعالى: {

وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

} [الزخرف:48]، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «

إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالذرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم

» (رواه أبو داود، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير [423])).


 

ولقد شخّص النبي صلى الله عليه وسلم هذا الواقع الأليم الذي آلت إليه أحوال المسلمين في هذا الحديث الشريف الذي لا يحتاج إلى تعليق، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» (رواه ابن ماجه واللفظ له، والبزار، والبيهقي، وصححه الألباني في الصحيحة).


 

فالمخرج الحقيقي لهذه الأزمة الطاحنة التي تمر بها الأمّة، يتمثل في الامتثال للقانون الإلهي، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، هذه هي المعادلة للتغيير الايجابي لمن ينشدون التغيير والإصلاح، كما أن معادلة التغيير السلبي هي {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53].

 

قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].


 

إذاً نحن الذين نحكم على أنفسنا وفق القوانين الإلهية، إن استجبنا لداعي الخير صرنا في حزب الله ولم تضرنا مؤامرة مهما بلغت قوتها، وإذا استجبنا لداعي الشيطان دخلنا في حزبه، فأنزل الله علينا رجساً وذلاً لم ينزعه حتى نعود ونئوب.


 

ولنا في التاريخ عبرة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111]، إن كنا من ذوى العقول والأفهام، وإن كان الله يريد بنا خيراً، والخير في الأمّة موجود إلى يوم القيامة.


 

ألم ترو إلى بني إسرائيل سامهم فرعون سوء العذاب فصبروا واتقوا، فلما أتبعهم فرعون بجنوده، فلق الله لهم البحر فكان كل فرق كالطود العظيم، حتى عبروا، فعاد البحر إلى سيولته فأغرق الله فرعون وجنوده، وبعد ما عبروا البحر وافتتنوا بعجل السامري جعل الله الموت كفارة لمن يريد أن يتوب، وكتب عليهم التيه أربعين سنة، حتى يأتي جيلاً جديداً يستحق النصر، رغم أنهم بالأمس القريب قد جمّد الله لهم السائل، ودمّر عدوهم ولكنها سنة الله في خلقه.


 

هذا المثال غيض من فيض فيما وقع في الأمم السابقة، وقد طبّق الله تعالى هذا القانون الإلهي على خير جيل من أجيال البشرية، ألم تر إلى غزوة أُحد والكفار هنالك يتفوقون على المؤمنين عدة وعتاد، رغم ذلك مثّل المسلمون حزب الله فنصرهم الله على قريش نصراً مؤزرا، ولكن المعادلة تغيرت بمخالفة الرُّماة أوامر نبيهم عليه الصلاة والسلام، فوجد الشيطان وحزبه فرجة في صفوف المسلمين فانساقوا من خلالها في صفوف المسلمين، فأضطرب المنتصر وتغيرت نتيجة المعركة، وهم خير جيل وبينهم خير خلق الله تعالى! لكنها سنن الله التي لاتحابي أحد!


 

ولما اجتمعت الأحزاب وتآمرت كل عناصر الكفر ورموزه آنذاك من كفار ومشركين ومنافقين، للقضاء على الموحدين، زُلزل المسلمين في هذه المعركة زلزلاً شديداً، حتى أن أحدهم كان لا يأمن أن يذهب ليقضى حاجته من هول المؤامرة، ولكن القانون الإلهي كان في صف المسلمين ففرج الله عنهم، وأرسل على الأحزاب جنداً من جنوده "الرياح" فعادوا خائبين مخذولين، فهل أثّرت المؤامرة على المسلمين رغم قوتها؟!


 

ولقد أدرك الصحابة هذا القانون وفهموا فهماً جيداً، فهذا عمر رضي الله عنه يتولى القضاء، ولم تتردد على مجلس قضائه خصومة واحدة، وينام تحت شجرة وهو خليفة المسلمين ملئ عينيه بلا حرس وبلا خوف، فقال رسول كسرى: "عدلت فأمنت فنمت يا عمر".


 

وقد توالت المؤامرات والدسائس على المسلمين في هذه الحقبة المباركة فأبطل الله مفعولها ورد كيد المتآمرين في نحورهم، جزاءً لسيرهم في إطار هذا القانون الإلهي، فدانت لهم البلاد وخضعت لهم العباد وأزل الله حزب الشيطان، ولك أن تتصور عدد المعارك التي خاضوها منتصرين على أقوى جيوش الأرض في تلك الفترة القصيرة آنذاك، وكلها في نفس التوقيت ومن الملاحظ كذلك أنهم في كل هذه المعارك كانوا أضعف من عدوهم في القوة المادية، ولكنهم مدعومين بتأييد من الله تعالى.


 

وانظر إليهم عندما تأخر النصر عليهم في إحدى هذه المعارك فاجتمعوا باحثين عن السبب، مقرين بأن السبب يكمن في معصية فعلوها أو سنة أخروها، وتواصلوا فيم بينهم حتى توصلوا إلى سبب تأخر النصر هو نسيانهم سنة السواك فتسلقوا الأشجار وقطعوا غصونها ليستاكوا بها، فلما رأتهم جند الروم على تلك الحالة دب الرعب في قلوبهم وظنوا أن المسلمين يحدون أسنانهم ليأكلوهم، ففتح الله على المسلمين وهزمت الروم وحسمت المعركة.


 

وقد كان شعارهم في تلك الحقبة: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمتى ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".

 

  

 

هكذا انتشر الإسلام واتسعت رقعة الدولة الإسلامية ودخل الناس في دين الله أفواجاً فساد العدل بين الناس وشاعت الألفة والمحبة بينهم، فسعدت الدنيا وعم الرخاء وأنزل الله على الناس البركات والرحمات وتقوض حزب الشيطان وانزووا بفضل الله تعالى.


 

ولكن الناس جيلاً بعد جيل أخذوا ينحرفون عن منهج الله وسبيله إلى الشيطان وسبله، والله يؤاخذهم بذنوبهم وفق قانونه العلوي، فانهارت دول بذنوبها وقامت أخرى تصلح ما أفسدته الأولى، فقد كان في الأمة فرقة أخذت على عاتقها إصلاح الفساد ورد الناس إلى صحيح دينهم كلما انحرفوا عنه، كانت هذه الفرقة هي الضمانة لبقاء هذه الأمة في الصدارة والريادة، قروناً من الزمان، وقد تمثلت هذه الفرقة في العلماء والدعاة المخلصين، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخافون في الله لومة لائم.


 

أما حزب الشيطان فقد أدركوا تماما حقيقة هذا القانون العلوي، فوقفوا للأمّة بالمرصاد، كالذئب للغنم يتحين غفلة الراعي وشرود جماعة القطيع وتفرقهم لينقض عليهم يقتنص منهم، فمتى وجدوا في المسلمين بعداً عن كونهم {عباد الله المخلصين} في عموهم وسوادهم، أنقضوا عليهم، ينالون منهم طامعين في تقويض الإسلام وأهله، فجاء الصليبيون بحملاتهم والتتار بجحافلهم، ولكن سرعان ما أفاق المسلمين وانضووا تحت لواء الإسلام فاهلك الله عدوهم، ورد كيدهم في نحورهم.


 

ولكن المسلمون اليوم ليسوا كأسلافهم، فقد انغمسوا في سبات عميق وركنوا إلى الذين ظلموا، رغم أن الله تعالى أعطاهم نموذجاً حياً رأوه بأعينهم، مثّل هذا النموذج القانون الإلهي، ليعتبر أولو الإبصار، فقد كانت القوات المسلحة المصرية تعتمد على الممثلات والمغنيات في رفع الروح المعنوية لأفرادها، فنزلت بها نكسة عام 1967م، فانتبه القائد الأعلى لذلك وأدخل الدعاة في صفوف المقاتلين تؤزهم على الجهاد وتحثهم على الاستشهاد وتأخذهم إلى طريق الجنة، فارتفعت همتهم وثارت عزيمتهم ورفعوا راية الله أكبر لا قومية ولا عنصرية بل إسلامية خالصة، فنصرهم الله نصراً مؤزرا، وحطموا أسطورة بارليف المنيع.


 

وقد يتبادر إلى أذهان البعض هذا السؤال! طالما أن الله تعالى قد جعل الإنسان خليفة له في الأرض وأمره بعمارتها وتوحيده جل وعلا فيها، فلماذا ترك إبليس وأعوانه يغوونه ويفسدون عليه مهمته المنوط بها؟.

 

نقول أن خاصية التكليف تقتضى أن يكون هنا بدائل أمام المكلف إما هذا وإما ذاك، ويتحمل هو تبعة اختياره، وإلا فما قيمة حمل الأمانة! وكيف يكون العدل في شيء أنا مضطر إلى فعله! فإن لم يخلق الله تعالى أمام الإنسان دوافعا للخير وأخرى للشر، وجعل أمامه دوافع الخير وحدها، حينئذ يكون إنساناً آلي بدلاً من إنسان مكلف، مثل الملائكة الذين خلقهم الله لعباده وجعلهم مجبولين على ذلك فقط، ليست لديهم إلا دوافع الخير وطاعة الله وعبادته فقط.


 

ومع ذلك فالله تعالى يقول: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، و يقرر سبحانه وتعالى ويقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، يدعوا الناس إلى الخير مدعوماً بالمعجزات الإلهية التي تدفع الناس إلى الثقة في كلامه وصحة ما يخبر به.


 

أما الأمم التي أصرت على الباطل وانصرفت عن الحق، وآثرت الحظوظ العاجلة، ففسق مترفيها، فقد استحق عليها القول فدمرها الله تعالى تدميرا وكم أهلك الله تعالى من الأمم من بعد طوفان نوح عليه السلام بذنوبهم وإعراضهم.


 

واستكمالاً لمهمة التكليف والمسئولية، فإن الله تعالى يعطى الكل، من أراد العاجلة عجل له فيها، ومن أراد الآخرة وسعى سعيها وفقه في مسعاه، يمد هؤلاء وهؤلاء، وإن ربك لبالمرصاد.


 

ويجب أن نعلم أن سنة الله تعالى في الاستخلاف قائمة، لأنه سبحانه قد تكفل بحفظ دينه، فإن تولى هذا الجيل إلى حزب الشيطان، وأعرض عن الحق المبين وحاد عن صراط الله المستقيم، فإن الله تعالى سيستبدل به جيلاً آخر، بأخذ بكتاب الله ويسير على هدى رسول الله، تكون له الغلبة وتكون علينا الحسرة لما فرطنا، والله غالباً على أمره, قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].


 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام