وَاتَّقُوا الشُّحَّ

والظُّلمُ من شِيَم النُّفوسِ فإن تَجِدْ *** ذا عِفَّةٍ فلعِلَّةٍ لا يَظْلِم

  • التصنيفات: مساوئ الأخلاق -


الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي اتصف بالكرم والجود، وامتن على خلقه بالعطاء الذي لا يحصره عد ولا تحويه حدود، والصلاة والسلام على من فاق في الجود الريح المرسلة، وفتح بالسخاء النفوس المقفلة، وأفشلت شهامته محاولة من رام أن يُبخله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، أما بعد:

فهناك خلقان ذميمان ممقوتان، قرنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذم والتحذير منهما، وأبان ما يترتب عليهما من آثار سيئة على جماعة المسلمين: هما الظلم والشح، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فإن الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يوم الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فإن الشُّحَّ أَهْلَكَ من كان قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ على أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» [1].

لقد تكلم الناس واعتنوا عناية كبيرة وظاهرة بموضوع الظلم، وهناك من ألَّف وخطب وأبان، وحديث الناس كلهم يدور على مقته، وإن كانوا في الواقع يقع الكثير منهم في ممارسته، سواء بظلم أنفسهم أو ظلم غيرهم من الناس كما قال المتنبي:

والظُّلمُ من شِيَم النُّفوسِ فإن تَجِدْ *** ذا عِفَّةٍ فلعِلَّةٍ لا يَظْلِم

وها هنا قد تحدثنا كثيراً على هذا المنبر عن الظلم والظالمين، والتحذير من ذلك وبيان عاقبته السيئة في الدنيا والآخرة. لكن الموضوع الآخر وهو الشح، لم ينلْ حقه من العناية، وإن تحدث عنه من تحدث فبصورة عابرة؛ لذا سيكون الحديث عنه إن شاء الله في هذه الخطبة.

الشح أيها الإخوة هو الحرص والجشع الذي يحمل صاحبه على جمع المال من حله أو من غير حله، ثم يمنع الحقوق التي تترتب عليه لغيره من الناس، هذا هو خلاصة ما عرف العلماءُ الشح. وهو لا شك خلق ذميم ودنيء وقبيح، يترتب عليه آثار سيئة ومظالم، بل وفتن وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: هو الذي حمل الناس على أن سفكوا دمائهم فتقاتلوا وانتهكوا محارمهم بسبب الشح.

أيها الإخوة المؤمنون: إن الذي جعلهم يفعلون ذلك هو هذا الخلق، الذي يُفتح لهم أبواب المطامع ويزين لهم ما تهواه وتشتهيه الأنفس، فهو يطمع في جمع أكبر قدر من المال بل ومن غير المال من الرتب والمناصب وغير ذلك؛ مما يتلذذ به الإنسان ويعده من المغانم، فيحرص حرصاً شديداً على ذلك؛ فيندفع لجمعه وتحصيله بالحق وبالباطل من طريق الحلال أو المشتبه أو المحرم، بالوسيلة النظيفة والسيئة والقبيحة، لا يفرق بين شيء من ذلك؛ لأن هناك دافع قوي يدفعه للوصول إلى الهدف دون اعتبار للوسيلة التي يصل بها إلى ذلك الهدف.

أيها الإخوة المؤمنون: هذا الخلق السيء الذي ينتج عنه عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع وفي الدنيا والآخرة، هو في الأصل مجبولة عليه كثير من الناس، كما قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] أي الشح حاضر موجود لدى كل هذه النفوس، فصار حاضر متلبس بالنفس دائماً وهو يتولى توجيها والتأثير عليها، غير أن من لم تتهذب نفسه وتزكوا بالإيمان والعلم والعمل الصالح يبقى هذا الخلق مسيطر عليه، ومن تهذبت نفسه وتزكت تخلص منه، وهذا ما وصف الله به جميع النفوس قبل تزكيته بالإيمان والعمل الصالح قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] فذكر عدداً من صفات أهل الإيمان وأهل البر والتقوى الذين متى اتصفوا بها قدروا على أن يسيطروا على أنفسهم فيعالجوها من الهلع والجزع، ومن الشح والبخل، ومن العدوان والظلم.

فالمؤمن المصلي المتصفُ بتلك الصفات يتخلص من الهلع والجزع والشح والبخل. فالشح أيها الإخوة من صفات المنافقين وليس من صفات المؤمنين؛ لأن المؤمن إيمانه يزكيه ويخرجه عن تلك الصفة، أما المنافق الذي لم يؤثر الإيمان في قلبه ولم يزكه القرآن والأعمال الصالحة ولا المراقبة لله تعالى ولا الطمع فيما عند الله يوم القيامة، هذا المنافق والكافر الذي لا إيمان له أصلاً تجد هذه الصفة هي المسيطرة عليهم، كما وصف الله تعالى المنافقين في سورة الأحزاب، تلك السورة التي ميز الله فيها بين أهل النفاق وأهل الإيمان، وفرز بين الصفين، وميز بين الفريقين، قال الله تعالى عن المنافقين: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}) [الأحزاب: 19] وقال في آخر الآية: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْر} فالشح صفة لازمة وظاهرة من صفات المنافقين، سواء الشح على إخوانهم أو الشح بالخير الذي في أيديهم لا ينفقونه ولا يوأدونه إلى من يستحقه، ففقدان الإيمان هو الذي يرسخ هذا الخلق الذميم في نفوس الناس؛ أما المؤمنون فإيمانهم وتقواهم ومراقبتهم لله وخوفهم منه هو الذي يجعلهم يدفعون هذا الخلق وإن كان كامناً في نفوسهم، لكنهم يتقونه ويدفعونه ويتمردون عليه؛ فيصبحون هم المسيطرون على النفوس بالإيمان، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] كرر ذلك مرتين مرة وهو سبحانه يحذر من فتنة الأموال وعداوة الأزواج والأولاد، وأخرى وهو يصف الأنصار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخصالهم الطيبة وبذلهم لأنفسهم وأموالهم في سبيل الله وإيثارهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

هناك مظاهر للشح أيها الإخوة، فمن مظاهره الحرصُ على جمع المال من حله ومن غير حله، تجد الشحيحَ حريصاً على أن يجمع المال لا يفكر هل هذا حلال أو حرام؟ هل هذا مشتبه؟ هل في جمعه لوم أو عيب؟ هل الناس ينتقدون ويلومون على هذا؟ لا يبالي، فتجده قليل المروءة قليل الورع، المهم أن يصل إلى هذا المال بأي طريقة كانت، أحياناً يقعون في الحرام الظاهر كالسرقة وقطع الطريق والنهب الظاهر والرشوة الواضحة، وأحياناً تجدهم يدخلون في المشتبهات وفي بعض المعاملات الظاهرة أنها غير مستقيمة، فبدلاً من أن يسألوا هل هذا حلال أو حرام؟ يبادرون فيتعاملون بها، المهم ينظر أن في هذه الصفقة ربح كبير فيقدم عليها، ثم ربما تلومه نفسه بعد فوات الأوان، وفي كثير من الأحيان لا يسأل ويبقى يأكل هذا الحرام ويتمتع به ويربي عليه جسده وأجساد أولاده وأهله: والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به» [2].

وأحياناً يقع في أنواع من المشتبهات بمعاملة أو وسيلة من وسائل الكسب ليس مطمئناً إليها، فالورع أن يقف عند هذا الحد: «فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فيه» (متفق عليه). وحيناً تجده يتأول لنفسه تأويلات سخيفة بعيدة، ويسوغ لنفسه مسوغات واهية ما أنزل الله بها من سلطان، من أجل أن يقنع نفسه بأن ما أخذه حلال ولا بأس به ويقيس نفسه على الآخرين، إذا قلت: له هذا حرام، قال: الناس كلهم يفعلون هذا، كلهم يتعاملون بهذا، كلهم يأكلون هذا، لماذا لم تروني إلا أنا؟! فهذا كله من مظاهر الشح الذي يحمل صاحبه على اقتحام محارم الله سبحانه وتعالى.

ومن مظاهر الشح -وقد عرفنا أن الشح هو الحرص على أخذ الأموال بأي وسيلة كانت من وسائله- الاستغلال: حينما يجد الإنسان أخاه الإنسان مضطراً بلا شيء فإنه لا يبالي أن يقصم ظهره:
التاجر المحتكرُ الذي جمع بضاعة من البضائع التي يحتاج الناس إليها، حتى إذا نفدت من السوق أظهرها لأن الناس محتاجون إليها، فهو يستغل حاجتهم ويستغل فقدانها من السوق فيتحكم فيها ويرفعها إلى ما يريد دون مبالاة إلى حاجة الناس ووضعهم، ودون مبالاة إلى ما يترتب على ذلك من إضرار بالناس، فهذا هو الاستغلال.
يكون عند الناس مهندس هو وحده الذي يستطيع أن يصلح شيئاً معيناً، وهو معقول أن يأخذ مبلغ كذا وكذا، فإذا وجد شخصاً مضطراً أو جاهلاً أو غير ذلك رفع السعر، فيستغل حاجة الإنسان وضرورته أو جهله، فهذا من المظاهر القبيحة للشح.

ومن مظاهر ذلك منع الحقوق، أن يمنع الإنسان حق الآخرين، فلا يعطي كل ذي حق حقه: من ذلك منع حق الله كالزكاة أو النذر أو الكفارات التي وجبت عليه، فلا يؤديها ويحمله على ذلك الشح يتململ ويتأول ويمنع من أجل أن يتخلص من ذلك. وأما حقوق العباد فكثيرة سواء حق الزوجين على بعضهما، أو حق الوالدين أو حق الأولاد وحق الجيران، وحق الأجير وهذا يقع فيه كثير من الناس، وخاصة من التجار وأصحاب الأعمال ومن لهم سلطة وسطوة، فيستخدمون هؤلاء المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة، فإذا أنجزوا أعمالهم جاءت المسوغات والأعذار، وبدأوا يماطلونهم في حقوقهم، فهذا مما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.
نسأل الله أن يجنبنا شح أنفسنا وأن يرزقنا السماحة والكرم.

الخطبة الثانية:
الشح مرضٌ من الأمراض، كون الإنسان يحرص على الجمع والمنع، جمع المال بحقه وبغير حقه ومنع ذوي الحقوق من حقوقهم، هذا من أسوأ الخصال، من خصال أهل النار وليس من خصال أهل الجنة. المهم هو مرض، والأمراض لها علاج والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله» [3] فيجب أن نبحث عن هذا العلاج وأن نستعمله ونقوم به.

من ذلك التربية الإيمانية العامة، كوننا نربي أنفسنا وأسرنا ومجتمعنا بالإيمان وتقوية هذا الإيمان؛ نربي الناس على مراقبة الله تعالى والخوف منه واليقين، بأن الإنسان مسئول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]. عندما نتربى على ذلك؛ فإننا سنتورع ونبتعد عن الوقوع في هذه الأخلاق الرذيلة السيئة. فالواحد منا يحاول أن يربي نفسه وأسرته ومجتمعه والأمة بكاملها، ونحن الآن في عصر مرحلة جديدة: سار الناس على الفساد وعلى الظلم وجمع الأموال من غير حلها وعلى منع الحقوق أن تصل إلى أصحابها، فنحن بحاجة إلى نربي أنفسنا لنعالجها من هذا الداء.

فيجب على الدولة في عهدها الجديد على الحكومة والمسئولين أن يبدأوا بأنفسهم، فما منهم من هو ذو صفحة بيضاء نقية، هناك هِنات وهنات، هناك سوابق ولكن إذا صدق الإنسان مع الله، وتاب التوبة الصادقة الناصحة تاب الله عليه، فليرونا من أنفسهم ابتداءً توبة صادقة، وعزيمة على مقاطعة الماضي بكل مآسيه، وأن الظالم إن كان علي عبدالله صالح أو عبد ربه منصور أو محمد باسندوة أو أي وزير من الجدد والقدماء فالظلم هو الظلم، والفساد هو الفساد، والباطل هو الباطل، فليس الفساد متعلق بأثواب علي عبدالله صالح وحده ولا بأحد من وزرائه وأركان دولته باعتباره الشخصي أو باسمه الخاص، ولكنه بسلوكه وأعماله وممارساته، وهذا ينسحب على كل من تقلد هذه الوظيفة وتسنم هذه المرتبة، ووقع في هذه المسئولية، فعلينا أن ننتبه لهذا جيداً وعليهم أن يربوا من تحت أيديهم.

جهاز الدولة لا يمكن إخراجه وإبعاده؛ لأنه من مخلفات الماضي الفاسد، مستحيل، وقد رأينا ماذا حصل في العراق حينما أرادوا أن يقصوا فئة كبيرة من الناس ويخرجوهم ويجعلوهم عدواً لهم؟ فهذا مستحيل ولكن كيف نجعلهم صالحين؟ كيف ننظفهم من الفساد؟ كيف نربيهم على الصلاح؟ هذا هو المطلوب، فتربى الأمة والشعب على خوف الله ومراقبته والوقوف عند حدوده وتحليل الحلال وتحريم الحرام، هذا هو المطلوب.

فبالتربية والقدوة الصالحة، وذلك بأن يكون الذي يدعو إلى ترك الفساد هو قدوة في تركه، يدعو إلى نبذ الشح أن يكون نظيفاً بعيداً عن الشح، من كان كذلك فانه سيُطاع وسيتبع، ومن كان يقول بلسانه: تباً للفساد!! ويقع بأعماله في حمئة الفساد، فالناس سيتبعون فعله ويقتدون بسلوكه، ولن يطيع أحد ما يقول، بل سيقول الناس: إنه منافق كذاب دجال. فلا بد أن ننتبه لهذا الأمر.
__________________
[1] رواه مسلم (4/1996) رقم 2578 من حديث جابر رضي الله عنه.
[2] رواه الطبراني وغيره من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وصححه الألباني: انظر حديث رقم: 4519 في صحيح الجامع.
[3] رواه الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وصححه الألباني، انظر حديث رقم: 1809 في صحيح الجامع.

أحمد بن حسن المعلم