من يمنعك مني

على الرغم من كثرة المكائد والمؤامرات، وتعدد أشكال الأذى البدني والنفسي الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه ضرب المثل الأعلى والقدوة الحسنة للمسلمين عامة، وللمُربين خاصة في العفو عن المسيء، وحسن التوكل على الله، والشجاعة.

  • التصنيفات: السيرة النبوية -


على الرغم من كثرة المكائد والمؤامرات، وتعدد أشكال الأذى البدني والنفسي الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه ضرب المثل الأعلى والقدوة الحسنة للمسلمين عامة، وللمُربين خاصة في العفو عن المسيء، وحسن التوكل على الله، والشجاعة.

والمواقف الدالة على ذلك من سيرته وحياته صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قِبَل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه (شجر فيه شوك)، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟، قال: قلتُ: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟، قال: قلت: الله، فشام السيف (رده في غمده) فها هو ذا جالس، ثم لم يعرِض له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه وجلس» رواه البخاري.

وفي رواية الإمام أحمد: "أن الرجل قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهُ عز وجل، فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟، فقال الأعرابي: كن كخير آخذ، فقال صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله؟، قال: لا، ولكني أعاهدُك أن لا أقاتِلَكَ، ولا أكونَ مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فذهب إلى أصحابه، فقال: قد جئتُكم من عندِ خير الناس»، وذكر الواقدي أنه أسلم ورجع إلى قومه فاهتدى به خلق كثير.
 

  • وفي هذا الموقف النبوي الكثير من الفوائد، منها:
  1. شجاعته وحسن توكله صلى الله عليه وسلم على ربه: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفضل الناس توكلا على الله، وأشجع الناس في المواقف والمصاعب، وكانت مواقفه صلى الله عليه وسلم مضرب المثل، ومحط النظر، فهو شجاع في موطن الشجاعة، قوي في موطن القوة، رحيم رفيق في موطن الرفق.

    وفي هذا الموقف الذي نحن بصدده ظهرت شجاعته صلى الله عليه وسلم وحسن توكله على ربه، فقد علق سيفه بغصن شجرة ثم نام، ولولا حسن ثقته بوعد الله بكفايته وعصمته من الناس لطلب حراسة عليه من الجيش أثناء نومه، ولمَّا استيقظ صلى الله عليه وسلم من نومه ووجد السيف مسلطا عليه، والأعرابي يقول له: "ما يمنعك مني؟"، لم تظهر عليه أي من علامات الخوف، ولم يزِدْ عن قوله: «الله»، وهذا يدل على شجاعته وعظيم تعلق قلبه صلوات الله وسلامه بربه، وحسن توكله عليه.

    قال الماوردي: فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم: عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يَكْلَمْ في نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعدَه الله تعالى بها فحققها، حيث قال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فعَصَمَه منهم.
     
  2. حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: قول جابر رضي الله عنه في هذا الحديث وهذا الموقف: فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم فيه دلالة واضحة على عظيم حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإيثارهم له على أنفسهم، فلقد أحب الصحابة رضوان الله عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم حُباً فاق كل حب، فآثروه على أنفسهم بالمال والنفس والولد، وقد سُئِل علي رضي الله عنه كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: " كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ "، فكان لسان حالهم ومقالهم عن النبي صلى الله عليه وسلم:

    هو المُقَّدم في نفسي على نفسي *** وأهل بيتـي وأحبابـي وخِلانـي
     
  3. العفو النبوي : من فوائد وثمرات هذا الموقف النبوي الهامة ظهور حبه صلى الله عليه وسلم للعفو والصفح عمن أراد إيذاءه، فقد ورد في الحديث: (فها هو ذا جالس، ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ومعنى (ثم لم يعرض له): أي لم يعاقبه على ما فعل. 
    قال ابن حجر: " فمنّ عليه (عفا عنه)، لشدة رغبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في استئلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام ".

    ألا ما أجمل العفو عند المقدرة، وما أعظم النفوس التي تسمو على الانتقام للنفس، بل تسمو على أن تقابل السيئة بالسيئة، وتعفو وتصفح، ثم أليس من صفاته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ التي بشّرت بها التوراة أنه " ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يقابل السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ؟ ".

    وإذا كان العفو من صفات الجمال والكمال الخُلقي، فلنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ النصيب الأوفى منه، إذ كان أحسن الناس عفواً، وألطفهم عشرة، يعفو عن المسيء، ويصفح عن المخطئ، ولا ينتقم لنفسه أبدا، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا قَط بيده، ولا امرأة ولا خادما، إِلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إِلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل) رواه مسلم.

    لقد ترك هذا الموقف النبوي الكريم أثرًا كبيرًا في أعراب هذه المنطقة من غطفان، فقد أظهر وأكد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس رجلاً كريمًا فحسب، وليس قائدًا شجاعًا جريئًا فقط، وإنما هو أيضًا نبي مُرْسَل، لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف عليهم بالسيف مهدِّدًا هكذا دون أن يقتلوه، وليس من عادتهم الرحمة والتسامح إلى هذا الحد، مما كان لذلك أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جديًّا في الدخول في الإسلام.